إعلان

رواية "أودية العطش" للروائي الموريتاني بدي ولد ابنو

ثلاثاء, 08/22/2017 - 00:53

باريس/ الطيب ولد العروسي:
هناك إبداعات شعرية وروائية ومسرحية تنبّأت بثورات الغضب العربي، لأن أصحابها أحسوا ووعوا مبكّرا بأن الأزمة الأخلاقية والمادية والفكرية والاجتماعية الخانقة ستؤدي حتما إلى انفجار طال الزمن أم قصر، وهنا تكمن قوة المبدع ويكمن حدسه.
لأنه ابن الواقع وإرهاصاته، هذا الواقع الممزق الذي يعايشه يوميا، دون أن يلمس أي أمل في الأفق، ما دامت تلك الأنظمة القمعية باقية تعيث في الأرض فسادا، ولم يكن أمام المبدعين العرب إلا أن يقرأوا ويحللوا معطيات هذا الواقع المزري، فكان مادة خصبة لبعض أعمالهم التي استقرأت الحاضر وحاولت فك طلاسم المستقبل، حيث لم يكن من بد أمامهم إلا الانطلاق مما بين أيديهم من المعطيات التي يكتوون بها يوميا لبناء قراءة مفعمة بأمل الثورة والتغيير، هذا ما نراه في رواية المبدع الموريتاني بدي ولد ابنو، وهي بعنوان :' أودية العطش'

الصادرة حديثا في الدار البيضاء، عن منشورات عرفان، والتي تقع في 93 صفحة، وتضم مجموعة فصول على شكل أيام الأسبوع تضاف إليها اسم واد، على سبيل المثال الأحد وادي الصمت، الاثنين وادي النجم، الثلاثاء وادي الرحيل، الأربعاء وادي الصخرة، الخميس وادي النهر، الجمعة وادي الهزيع، مع خلو الوادي السابع من تسمية.
يقدم لنا الراوي الأحداث في أغلب الأحيان بضمير نحن، ويبرز لنا من خلال هذه الأودية قراءة للعالم العربي عبر فئاته الاجتماعية وكل فئة تمثلها جماعة، حيث يأتي على ذكر الفئة الخانقة، الفئة الثائرة، الفئة الصامتة، يخاطبها في بعدها الرمزي، وأحيانا بشخصها، أي يأتي بمسميات من عندياته مثل 'الفئة المفكّرة' ويرمز إليها بالجمجمة، ويقصد بها فئة النخبة التي تحدثت وناقشت أمر السلطة، فقضى عليها السلطان الحاكم.
أما الفئة التي قامت بالثورة فيرمز إليها بملفوظ المجنون، لأن المواطن قبل ثورات الغضب العربي كان يعتبر تحويل النظام من الدكتاتورية إلى الديمقراطية فيه نوع من الجنون، أي نوع من اللا مفكر فيه.
يرمز إلى الحرية بملفوظ العذراء التي يعجب بها المجنون ويقوم بكل ما يستطيع ليقترب منها بحثا عن الوصال. ' لما كنت إياي وكنت إياك ولفظت غيرك، ورأيت العزلة مطلبا للوصال، والوحدة مولدا للتوحد، اعتقدت وإياك أن الحين حان، وأن اليقين حضر، فما كان الحين ولا اليقين إلا آجلا لانقشاع وهم قديم' ( ص.69 من الرواية).
يصف الراوي في بداية الرواية الشعوب العربية ككتلة واحدة، ويرمز إليها بضمير الجمع لأنها صامتة وغير مميزة المعالم، ولكنها عند اقتراب ثورة الغضب العربي ( رغم أننا نعرف بأن هذه الرواية قد نشرت في طبعتها الأولى عام 2000) انتفضت في كل مكان، مما يمثل إرهاصا ونبوءة بقيام هذه الثورات، وهذا يعكس قدرة الأديب في استشرافه للغد.
أما في فصل النهاء، أو النهاية فيقفز الراوي فوق أحداث الثورة ويصف الحاكم بعد تجريده من السلطة في حالته النفسية، حيث يصف تصرفه ووهمه الذي لم يتحول، إذ يقول في ص.85 من الرواية ' ذكر قوم أنهم رأوا الذي له علم بالسلطان وحده هائما في مدن الروم، وقد ساء حاله، وشاخ، وابيض رأسه'. ، حتى أدت به الحال إلى أن صار ' يؤم كل يوم، كل صبح، إحدى الحانات يؤذن في الروم صمتا، وينادمهم علّ الشمس تطلع من مغربها'. مما يبين بأنها صلاة رمزية تظهر استحالة رجوعه إلى السلطة.
نلاحظ استخدام وتوظيف أجواء من البعد الصوفي، خاصة حين يتحدّث عن الحرية بمنطوق العذراء، فيناجيها مناجاة صوفية ليبرهن بأن الحرية مطلب جوّاني لا تتم الحياة إلا به ' سأشرب حتى تمتلئ المقامات عطشا. ساعتها ترون من أنا. هل تريدون أن تعرفوا من أنا ؟ كيان تافه...أنا وحدي الموجود والوجود. أنا أنا. من يرني ير العوالم الحقة'. ( ص.66 من الرواية).
يوظف الراوي الشعر العربي القديم والقرآن الكريم والتاريخ العربي في شقه الاستبدادي وكأنه يؤكد للقارئ بأن الاستبداد موروث عربي يجب التخلص منه، وأينما تواجد السلطان يستخدم في المتن الروائي يستخدم الراوي كثيرا الخطاب الديني عبر الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ليرمز لاستعانة الحاكم برجال الدين لتدعيم سلطته وترسيخها، ولكنه في مسعاه هذا حريص على إعطاء العبارة بعدها الجمالي لأنه يقتطع من الآية كلمات ليربطها بالنص المقدس ولكنها لتفارقه في نفس الوقت، فهي نوع من الحداثة في الحكي الروائي الذي يخاطب المتلقي عبر صعيدين: يستدعي النص الغائب بنصفه الحاضر.
وهو ينشد التغيير حينما يقول ' الشتاء يسبق الربيع. ذلك تعاقب لا راد له... من يقبل بالشتاء يظل في الشتاء، ومن يتوقف في البحر يغرق، عجبت لمن يضرب في البحر حينا، كيف لا يرى الأودية والجبال؟ وكيف لا يسمع أحاديث العصافير، وينصت لأناشيدها ؟' ( ص.67).. وهذه الفقرة واضحة وضوح الشمس، لأن الراوي يرى بأن الثورة ستقضي على البؤس وعلى قساوة الشتاء، وعليه يجب أن نثق في الشباب الذين يعدّون خميرة المجتمع، وهي نغمة أمل كبيرة يسجّلها بعد أن كشف أو تبصّر في وضع العالم العربي، وحين حلّل معاناة شعوبه، حيث يقول في الصفحة 13 واصفا الوضع المزري للأمة ' وكان العطش... ومسنا الضر... وكنا نزرا ملتحفا بالرفض. في كل واد نهيم، وعن كل غائب نسأل، وإلى كل مجهول نتوق، والسلطان يجمع الجمع في أدنى الأودية. الساعة ساعة القهر. والشاطئ شاطئ العدم. والذاكرة متناثرة، خلف الهزيع السابع. كأنها وجود منتحر، أو رجوع صامت، أو موت محض' ( ص15 من الرواية).
أو كما جاء في الصفحة 25، حيث يعلن السلطان حكمه وجبروته على الناس، فهو الآمر الناهي، وهو حاكم البلاد والعباد، حينما يخطب فيهم قائلا: 'أيها الناس اسمعوا وعوا، إذا وعيتم فاسجدوا لي وأركعوا؟ ألا إن في البر موتا وقتلا، وفي البحر رعبا وهلعا، من شاء فليصمت ومن شاء فليمت، كبر اسمي وتنزّه، ولأهل السلطان السماء والأرض، ولبطانتي النهر والمزن، ولجمعي القهر والرمل.... أيها الناس لقد حكمنا- وحكمنا عينه الرشد والعدل، وكل ما عداه باطل لغو- حكمنا بإرسال جيوش جرارة خلف رهط الرفض، وبتمزيق جلودهم إربا إربا على ذلك ليكونوا عبرة لمن يعتبر' ( ص.25 من الرواية).
وهذه الفقرة المملوءة إيحاءات إلى خطبة طارق بن زياد المشهورة كناية عن حصار الحاكم لشعبه، أو نابعة من الواقع العربي المأساوي، تدل على أنه من أجل تغيير الأوضاع يجب التضحية بالغالي والنفيس حتى يستعيد الإنسان العربي كرامته المهدورة، لأن من يحكمونه لم يتعودوا على سماع كلمة لا، ولا على رفض طلباتهم وأوامرهم، وأنهم لم يصدّقوا بأن ثورة الشباب ستزيلهم من مناصبهم هم وأسرهم وأعوانهم وحاشيتهم إلى الفضاءات التي تناسبهم وتليق بهم.
يعتبر أحد النقاد بأن هذه الرواية تعبر عن ' صورة الديكتاتور العربي بشكل يدفع القارئ إلى التأمل في طبيعة وخلفية هذا الاستبداد الذي يصل إلى حد الغباء حين يتجاوز التحكم في الأجساد، إلى محاولة السيطرة على الوظائف الحيوية والسعي لاستبدال الغرائز والثوابت الحياتية، حيث يفرض الحاكم على شعبه استبدال شرب الرمل بشرب الماء'.
في النهاية نقول ان هذا العمل الروائي المتفرّد يجمع بين جمالية اللغة التي تتخذ البعد التراثي كأحد سياقات فهمها ، والبعد السوسيولوجي المتوفر بكثافة لخلق توليفة ذكية بين الاستمتاع الفني والتقرب من الواقع بغية تغييره.
المصدر: القدس العربي