إعلان

ليـــلــــة صيــــف (مجموعة قصصية)/ محمد إبراهيم ولد محمدنا

ثلاثاء, 08/22/2017 - 01:03

ليلــــة صيـــف

بدت البطحاء لما غمرها النور رائعة بيضاء عميقة بين الواحات، وعلى رمالها تتراقص ظلال النخيل، والقمر في بدايته يبشر بليال جميلة كالعهد بها، وهنا وهناك تناثرت جماعات حول بعض الأواني والطبول التي توقع عليها الفتيات ألحانا ترجع إلى عهد غابر.
كنت قد وصلت لتوي إلى الواحة، لكن أحد الأصدقاء لم يعطني فرصة لأستريح:
-      أهلا أحمد

-      أهلا بك
-      هيا ننـزل، لا تضيع الوقت
-      أنا متعب
-      في الأسفل سينسيك الغناء كل تعب.
ونزل بي بين أكواخ السعف والمنازل المعلقة إلى قرارة الوادي، حيث امتزجت الأصوات بالعطور في جو احتفالي بموسم التمر، وملنا إلى أولى الجماعات:
-      مساء الخير
-      مساء الخير
-      متى جئت؟
-      وصلت للتو، كيف الموسم هذا العام؟
-      التمر جيد
-      ما ينقص حقا هو المطر.
وبعد تبادل المجاملات عادت الجماعة إلى الإنشاد، وانتبهت إلى الفتاة التي كانت تغني، شدتني بوجهها الأبيض المتألق حتى لكأنه من نفس مادة رمال البطحاء المتلألئة، ورجًعت بصوتها الجميل شعرا شعبيا رقيقا مسكرا وهي تستنهض همم الحضور من الشبان لقول أبيات في  نفس المقام وهي عادة تقليدية قديمة، وبدأ بعض الشبان ينظمون أشعارا في بعض  الحاضرات ممن حزن إعجابهم، ونظمت أنا بيتين أو ثلاثة فيها وفي صوتها الجميل، ونزل
علي من الإلهام ما لا عهد لي به فجلبت إلي الأنظار وحزت رضاها ورضى غيرها، لكن إعجابها هو ما كان يهمني، فقربتُ مجلسي منها، وزاد وجهها مع اقترابي تألقا وهي توقع بأصبعها على صحن مقلوب، وفي غمرة نشوتي بها نبهني الصديق قائلا:
- ألا نواصل التجول، هناك الكثير من المجالس الأجمل؟
لكنني تمسكت بالبقاء فأضطر إلى الذهاب بدوني بعد أن أكدت له أنى أجد راحتي هنا.
وجنح القمر اليافع إلى الأفول، وبدا أن الليل تأخر إذ بين لحظة وأخرى كان يستأذن بعض الحضور في الذهاب، لكن حرصي على النوم باكرا تبدد أمام إعجابي بالفتاة وما تغني من ألحان آسرة.
وسألتني آخر من بقي معنا من الجماعة:
- كم الساعة ؟
فأجبتها وأنا أنزع ساعتي من يدي وأضعها في جيبي
- في مثل هذه الليلة لا تسألي أبدا عن الوقت.
فضحكت وهي تودعنا محتجة بأن أباها إذا استيقظ فلم يجدها في فراشها سيقيم القيامة.
ولم يبق معي غير الفتاة التي كانت تغني، لكن حماسها للإنشاد خف وبح صوتها ، فحلفت عليها أن تتوقف حرصا على صحتها، ودار بيننا حوار:
-      اسمي أحمد
-      اسمي خديجة
-      تسكنين هنا؟
-      نعم، وأنت؟
-      في العاصمة.
وتكلمنا عن كل شيء، ولم يبق من القمر غير ضوء خافت يشع على هامة الجبل القريب، وخلت البطحاء إلا من قليلين تدل عليهم أضواء سجائرهم المشتعلة الصغيرة مثل الجمر، أو أحاديثهم الهامسة وهم يمرون قربنا، وقالت:

-  حان وقت الذهاب، وأنت تعرف الآباء والفجر غير بعيد.
وانتزعت الصحن المقلوب الذي كانت توقع عليه بصعوبة من الرمال وطلبت مني أن أحمله، فأخذته فرحا وقمت، لكنها بدل أن تنتصب واقفة قفزت على يديها قفزات متتالية حتى جاوزتني قليلا، وصاحت بي:
- هيا
وسحقتني المفاجأة، يا للكارثة، معوقة! نعم ورجلاها متصلبتان تنسحبان خلفها على الأرض، كل هذا الجمال ومع ذلك مقعدة!
ومضينا وهي تتقافز مرة عن يميني وأخرى عن يساري، ودار بيننا حديث لم أذكر منه شيئا بعد ذلك، وصعدنا مرة أخرى إلى نفس المساكن المعلقة على جانب البطحاء، وكانت متعودة كما هو ظاهر على إعاقتها فلم يظهر عليها أي حرج، وسلكت بي طريقا بين أكواخ السعف وقد أطبق الظلام الذي بين غياب القمر وطلوع الفجر حالكا كئيبا، ولم يعد هناك سوى ضوء النجوم، وما لبثت أن توقفت عن القفز وقالت:
- هنا بيتنا، هات الصحن
وأردفت وهي تمسكه من يدي وقد انحنيت لأعطيه لها حتى شعرت بأنفاسها على وجهي دون أن أراها جيدا:
- هل ستعود ليلة غد؟
- بلا ريب سأعود.
لكن القمر اليافع في الليلة الموالية طلع علي وأنا بين أهلي فوق سطح منزلنا في العاصمة وسألني أحدهم:
- يبدو أنك لم تتحمل حر الصيف هذا العام؟
فأجبته:
- كان أمرا لا يطاق.

الصبــاح البعــيد

الساعة ترن بشدة، تبا لهذا المنبه الملعون، أتقلب يمينا وشمالا تبا للعمل والمواعيد، وزوجتي في المطبخ وداخل دماغي استقر خليط مزعج من صوت الأواني والمنبه... استيقظت أتلمس الفراش حولي بحثا عن الساعة التي كان جرسها يرن حتى عثرت عليها فكتمتها، لكن ما هذا الظلام وصوت الأواني أين هو وأين الضوء الذي عادة ما يكون داخلا من النافذة إذ أنها الساعة السابعة ذلك موعد رنين المنبه، أوه، لعل الساعة الملعونة تلفت أو عبث بها عابث، أو لعل الجو غائم، لكن ماذا هناك في الخارج، أصوات وجلبة؟!.
لمست زر الكهرباء، النور يغمر الغرفة والساعة تشير إلى السابعة والربع وخرجت لأرى ما ذا يجري في الخارج فوجدت زوجتي على عتبة المنزل تبكي سألتها:
- ماذا حدث؟!
- إنها القيامة، لقد اختل نظام الكون لاشك، توقع انفجار الكرة الأرضية واندثار المجموعة الشمسية وضياع الوجود في العدم.
- ماذا تقولين؟ !
- الشمس لم تشرق هذا اليوم تأخرت ساعتين عن موعد طلوعها
- غير معقول !

- هذا ماجرى !.
وهرولتُ إلى جمع من الجيران في الشارع غير عابئ بها وهي تنادي وقد تملكني خوف شديد.
قال أحدهم:
- ألا يمكن أن تكون جميع الساعات مخطئة؟
- ذلك مستحيل
- وتأخر الشمس أليس مستحيلا؟!
- لكنه وقع
-هذا لا يصدق !
- وحدوا الله إنها القيامة وربما أشرقت بعد يومين أو ثلاثة من الغرب
- لكن أين الشرق وأين الغرب؟!
- إنها كارثة، الشمس فقدت سيطرتها على الأرض، وربما تكون الأرض الآن مبحرة إلى وجهة لا يعلمها أحد
- لا أظن ذلك
- ما ذا حدث إذن؟
- لا أدري ! .
ولمحت في الازدحام الشديد وجه ميمونة بنت صديقي أحمد سالم التي طالما دغدغت أحلامي، فتسللت إليها بين الحشد حتى غمزتها في ذراعها وانتحيت بها جانبا وكانت تبكي فقلت لها:
- هذه هي الفرصة المناسبة لكي أبوح لك بإعجابي، ولو أنها فرصة مأساوية
- هل حقا هذه فرصة مناسبة ونحن على أبواب القيامة؟!
-ألم تلمحي إعجابي بك أثناء زياراتي لكم؟
- لم أنتبه لذلك وما كنت لأهتم به.

تراجعت عنها غاضبا، وفوجئت بابنتي تقف مع شاب من زملائها وعندهما مسجل يصدر أغاني عربية شبابية، هجمت عليهما وركلت المسجل برجلي ثم أمسكت بالشاب وضغطته علي وقلت وأنا أوجه له لكمة شديدة من يدي
- لا حياء لديكم، لهو وعبث حتى في مثل هذه الظروف.
في تلك اللحظة أحسست بابنتي تلف يدها على رقبتي وتشدني إليها بعنف وتُخَلصُ الشاب من يدي ثم سقطتُ على الأرض، ورأيتهما خلال الزحام يد كل منهما في يد الآخر وسرعان ما اختفيا.
فقمت من مكان سقوطي وإذا بي أنصت من جديد إلى النقاش المستمر بين الحشد:
- ياقوم هل سنبقى هكذا؟!
- وماذا تريد أن نفعل في هذا الظلام؟
- نذهب إلى أعمالنا
- أية أعمال؟!، لا عمل عندما لا تشرق الشمس فالكون الآن تعمه الفوضى ولا جدوى من الاستمرار في النظام.
- ماذا لو استمر هذا الوضع إلى الأبد؟
- سنتكيف معه، ففي القمر بعض العزاء
- القمر لاشك فُقد مع الشمس
- المهم أن نبقى على قيد الحياة
- نعم، ربما نستغني عن الشمس
- لا حياة بدون شمس
- هذا مرعب
- ستتكيف إن عشت مع الرعب

واستبد بي الخوف فعدت إلى بيتي ومررت على زوجتي عند العتبة وهي ماتزال تبكي فتجاوزتها حتى وصلت إلى سريري فاستلقيت عليه وأغمضت عيني والصراخ يعلو في الخارج والأجهزة الإذاعية تضج بمختلف اللغات،... والرنين أوه، من أين يأتي هذا الرنين المزعج، لعل الساعة الملعونة عادت إلى الرنين لسبب ما وأردت أن أسكتها، لكن قبل أن أتحرك توقف رنين الساعة واشتعل النور في الغرفة.
نظرتُ فإذا بزوجتي عند الباب وهي تقول:
- قم واترك الكسل، حتى المنبه لم يعد يؤثر فيك؟!
- لقد رأيت كابوسا مزعجا،كم الساعة الآن؟
- لقد تجاوزت السابعة.
وبالفعل خرجت معها، وتناولت إفطاري إلى جانبها ومعنا ابنتنا الوحيدة كما هي العادة كل يوم، وقد تسلل شعاع الشمس الذهبي الجميل من النافذة وكان له في ذلك اليوم منظر أجمل من منظره في الأيام السابقة.

قرية الرمـــال

لما تقدم العمر بخديجة وضعف بصرها حتى صارت ترى النخلة التي في فِنَاءِ الدار وكأنها نخلتان، زارها رجال القرية وقالوا لها:
- متى تتركين هذه الدار؟! لم تعد لك قوة على صراع الرمال كل يوم
- الدار ذاهبة لا محالة فتعالي لتسكني معي
- أو معي أنا.                      
لكنها رفضت بقوة وشكرتهم، بيتُ خديجة ككل البيوت جدرانه حجارة فوق حجارة وسقفه جذوع نخل عليها جريد وأغصان كثيرة، لكنه البيت الوحيد الذي يقع في مواجهة الرمال المتحركة بسبب وجوده في أقصى الناحية الشرقية من القرية.
جلستْ أمام المنزل المكون من حجرتين وحائط تغرف الرمل في إناء قديم وتلقي به بعيدا بحركات ضعيفة، قالت لنفسها:
- يريدون مني أن أترك بيتي، المرء بلا بيت كائن ميت.
ونظرت إلى الكثيب الهائل الذي أصبح يخفي عنها الجهة الشرقية من السماء، ما أضخمه ! طويل وناعم يخفي تحته بيوتا عديدة هاجر أهلها عنها وتركوها تسقط وتتوارى تحت الرمال، لكنها هي لن تهاجر، غرفت من الرمل

غَرْفَةً بالإناء الذي في يدها وأزاحتها جانبا، لو كان ابنها معها الآن لما أصبحت على هذه الحالة، لكنه لا شك سيعود، مرت حقا خمس سنوات طويلة ومع ذلك تحس أنه سيعود، وكل ليلة تترك له باب الحائط مفتوحا، وعشاؤه تتركه له في إناء عند رأسها، لكنها في الصباح تجد نفسها مازالت وحيدة في الدار، والطعام لم يلمسه أحد، ابنها تعب وهي تعترف بذلك، أتعبته بتمسكها الشديد بالقرية والدار، طلب منها مرارا أن يرحلا فلم توافق، لا عمل له، فقير وقد صار على عتبات الشباب دون أن يلوح أمل بأن حالته ستتحسن ما دام مقيما في القرية فَرَحَلَ بحثا عن عمل يعيش منه، أما هي فتعيش من مردود واحة لم يبق منها إلا ست نخلات طويلات يشرف عليها أحد الجيران.
والرمل المتحرك المقيت دخل في بيتها من كل جهة، دخل في الحجرتين وامتلأت منه الحصائر والثياب، كما تسلل بين أوراق الكتب التي لم يعد يقرؤها أحد، وقضى على البئر التي كانت تشرب منها، لكنها ستقاومه.
تعبت من إزاحة الرمل فدخلت وشربت من ماء بارد في أحد الصحون بعد أن أزالت عنه طبقة من الغبار، ماء بارد يبعثه لها الجيران باستمرار بعد أن لم يعد في بئرها إلا الرمل.
جاءها أولاد صغار فأعطت لكل منهم مجرفة أو إناء مهملا لكي يزيحوا معها الرمال، وحدهم هؤلاء الصغار يساعدونها، يأتون في الصباح ويقضون ساعات في جرف الأتربة عن الحائط والحجرتين، وتجود عليهم في نهاية العمل بتمرات لكل واحد منهم، ودعوات بالتوفيق وطول العمر.
لكن الرمال أقوى من الجميع، وتعرف خديجة في قرارة نفسها أن ماتنزعه مع الأولاد كل يوم لا يبلغ إلا جزءا يسيرا مما تضيفه أضعف هبة رمل، نادت الأولاد تشد عزمهم:
- هيا يا أحباب الله، اليوم أمامنا عمل كثير، ورياح دجمبر على الأبواب

أجابها أحدهم:
- نحن نعمل بجد كما نعمل كل يوم.
والكبار أيضا لا تنسى فضلهم، لكنهم تعبوا مثل ابنها، في الماضي كان الرجال يزورنها كثيرا، جرفوا الرمل على مدى شهور وشهور، بنوا حزاما من الأغصان وسعف النخيل على كثبان الرمل التي تهدد بيتها، فكروا وعملوا لكن كل ذلك لم يعط نتيجة، والنساء أيضا ساعدنها، وهي لذلك تعذرهم، ملوا من هذا العمل، كما مل ابنها ورحل.
الرمل المتحرك صار قريبا من مستوى النوافذ، يزيد يوما فيوما، وفوق السطح استقرت منه كميات كبيرة، ولا عمل لها إلا جرف الأتربة، تذهب إلى سوق القرية مرة أو اثنتين في الأسبوع لتشتري ما تحتاجه، فهي لا تقبل أن يتصدق عليها الناس، تطبخ طعامها بنفسها، وكل ما تحتاج إليه هو أن يبعث لها الجيران حطبا أو ماء، وهم يفعلون ذلك ولو أرادت أكثر لفعلوا.
صارت الشمس في وسط السماء، تعبت وتعب الأطفال، وهكذا انتهت جولة جديدة، الرمل مازال عند مستوى النوافذ لكن لا بأس، أرجَعَ الصغار الأدوات إلى الداخل، وملأوا لها الصحون ماءً من عند الجيران، فأعطت لكل واحد منهم تمرا متربا ككل شيء في الدار، ركضوا فرحين فقالت لهم قبل أن يبتعدوا:
- لا تنسوا موعدنا غدا في الصباح
ردوا عليها وهم يتوارون عنها:
- نعم سنأتي.
مع اقتراب المساء بدأ لون السماء يتغير من الأزرق إلى الرمادي، وصفرت الريح وهي تحمل أوراقا يابسة في دروب القرية، بدأت شدتها تزداد باردةً قويةً دعت الأمهات الأطفال إلى داخل البيوت، وعاد الرعاة من الضواحي بقطعانهم

وأذن المؤذن للصلاة مع غروب الشمس فتردد صوته ضعيفا في الأرجاء، ولم يحضر الصلاة  سكان البيوت البعيدة بسبب الريح العاتية، وما أن حل الليل حـتى عصفت أقوى من الأول وأشد برودة، واستنشقت الأنوف غبارا خانقا فيمــا لم يلح أي نجم في السماء، وقامت النساء بتقديم طعام العشاء باكرا، تحاشيا لتعريـض أنفسهن للبرد والغبار، ثم أُوصِدت الأبواب وأُغمِضت العيون بينما بقيـت الآذان مفتوحة تنصت لصفير الريح وهي تضرب البيوت والنخيل.
توقفت الريح عند طلوع الفجر فخرج الرجال يتفقدون القرية، كـان أول ما خطر ببالهم أن يتفقدوا حال خديجة، وفوجئوا عند وصولهم بالدار وقد انهارت وتكون فوقها كثيب رملي كبير، بدأت أعمال إزاحة الرمل عن الحجرتـين المتهدمتين، ثم أزيحت الصخور والجذوع والطين، لكنهم لم يعثروا على خديجــة وأزالوا الرمل عن ضواحي الدار وعن الحائط دون أن يجدوا لها أثرا.
مرت أيام عديدة والبحث مستمر عنها، وطالت عمليات الحفر الكثبــان التي تقع قرب الدار دون أن يعثروا على شيء، بدأ البحث يخــف، وانصرفــت النساء أولا بحجة الاهتمام بالمنازل، ثم بدأ عدد الرجال الذين يحضرون إلى المكان يتناقص في الأيام الموالية، وفي نهاية الأمر لم يبق إلا الصغار الذين كانوا يسـاعدون خديجة في إزاحة الرمال، بحثوا بجد ومثابرة تحت الرمل أسابيع طويلة دون ملل.
اقتنع بعض سكان القرية أن العجوز سيعثر عليها ذات يوم ميتة في مكــان ما تحت الرمال، وآخرون اعتقدوا أنها سافرت إلى المدينة الكبيرة، أو ربما حضــر إليها ابنها وأخذها معه ليلة الريح الشديدة.
وفي يوم من الأيام لم يعد يبحث عنها أحد، وضربت الأمـهات الصغـار خوفا عليهم من أن يصابوا بالجنون، خصوصا بعد أن حلموا بها أكثر مـن مـرة وهي تناديهم من بين تلال الرمل اللامتناهية الموجودة شرق المدينة.

أسرار في الظلام

لبث المصطفى وقتا غير قصير عند المدخل الجنوبي لنواكشوط وهو يمد يده بعد الغروب لكل سيارة تمر على الطريق المتجهة إلى مدينة القوارب، وأخيرا هاهي سيارة تستجيب لإشاراته المتكررة، إنها حافلة ركاب متوسطة الحجم، قال له السائق:
- إلى أين تتجه ؟
- مدينة الجديدة
- كم ستدفع؟
- خمس مائة، هي كل ما عندي
- اصعد مع الركاب في الخلف.
ركب في المقاعد الخلفية بين جماعة من المسافرين، رجالٌ معممون من أهل الريف، نساءٌ وأطفالٌ ... وبين المقاعد استقرت حقائب وأمتعة، انطلقت الحافلة من جديد على الطريق المظلمة بسرعة وقد دخلت من إحدى النوافذ رائحة البحر تحملها الرياح الساحلية من المحيط الذي لا يبعد كثيرا.
كان يقبض بيده على كيس بلاستيكي وضع فيه ثمن عنـزات باعها اليوم في سوق العاصمة، من أجل أن يشتري علفا لقطيع البقر الذي يعيش هُوَ وأولاده من بيع ألبانه لشركات الحليب، بدأ يحدث نفسه، كم كان هذا اليــوم مجــهدا،

وأهل المدينة هؤلاء ألا يشبعون من المال ! بخسوا بضاعته وقالوا عن عنـزاته إنهـن نحيلات، نعم هن كذلك مثله ومثل أطفاله، هل نجا شيء هذا العام من القحط ! ومع هذا لم تكن في السوق شياه أفضل من شياهه، رغم ذلك اضطر لبيعها بثمن قليل بعد أن تمالأ عليه تجار الغنم، رأوا دراعته الزرقاء ذات اللون الحائل وقدميـه المغبرتين وصدره العاري الذي برزت ضلوعه، عرفوا أنه لا بد أن يبيع، وقد باع.
أغمض عينيه مفكرا وقد أحس بما يشبه النعاس وهو ينصت إلى محــرك الحافلة بأذنين متعبتين من الصراخ وثغاء الحيوانات وقد ضربت وجهه رياح البحر الباردة بعد أن تعرض للفح الشمس طول النهار.
لم يدر كم مر من الوقت قبل أن يستيقظ، لكنه أحس أن وقتا طويلا قد مضى، ولفت انتباهه أن جميع الركاب نائمون، ماهذا، إنه أمر غريب حقا وتذكر النقود فإذا بيديه لا تقبضان على شيء، بحث داخل جيبه وتحت قدميه دون جدوى، عندئذ صاح بالركاب:
- يا أمة محمد، لقد سُرقت نقودي
استيقظ الركاب تباعا، ونادى هو على السائق:
- توقف، سُرقت نقودي، والسارق بيننا هنا.
قام السائق بالنـزول عن الطريق ثم أوقف الحافلة والكل يبحث داخلها عن النقود الضائعة، وقف السائق عند الباب الخلفي للحافلة قائلا:
- لا يبـرح أحد مكانه
وسأل المصطفى:
- متى ضاعت نقودك ؟
- لا أدري، نمت ثم استيقظت فلم أجدها في يدي !
- هل بحثت عنها جيدا داخل الحافلة ؟
- نعم

- لم ينـزل أحد منذ صعدتَ معنا!
وقالت امرأة من الركاب:
- كنا نائمين جميعا عندما استيقظنا على صراخه
وشارك ركاب آخرون في الحديث:
- اذهب بنا إلى الدرك وهناك سيتضح الأمر
- الدرك بعيد، ونحن لا ذنب لنا، ليقم بتفتيشي فأنا عندي مريــض لا يمكـن أن أتأخر عنه
- الأفضل للسارق أن يعترف الآن قبل أن يتورط أكثر
- يعلم الله أنني بريئة
- وأنا أيضا برئ، أعوذ بالله من هذه الجرأة على الحرام، هذه سرقة مكشوفة.
شعر المصطفى بإرهاق شديد وتعب، المال الذي يحتاجـه يسـرق بهذه الطريقة ! ويعلم الله أن لا طاقة له على تحمل تعب أكثر بعد أن قضى النـهار في سوق الماشية دون أن يأكل من الطعام إلا قطعة خبز صغيرة، يا له من أمر يدعو إلى الإحباط، رجوعٌ إلى الدرك رغم بعدِ المسافة، تحقيقٌ وأسئلة كثيرة، وخطــرت له فكرة مفاجئة فقال للركاب:
- يا جماعة، ستر المؤمن واجب، ولدي فكرة تحل المشكلة
سأله السائق:
- ما هي ؟
- نجلس كلنا بعيدا عن الحافلة، ثم يقوم الركاب بدخول الحافلة واحدا واحدا ومن أخذ نقودي منكم فليقم بتركها هناك، إذا كان يصــدق أن أمامـه يـوم الحساب، وهكذا لا تلحق الفضيحة بأحد وأسترجع مالي
لاقى الاقتراح قبولا من البعض وأبدى آخرون تذمرهم وسخريتهم لكــن المصطفى أقنع الجميع في النهاية، ابتعدوا عن الحافلة وفي البداية ذهــب الســائق

ودخلها ثم عاد سريعا وذلك لأنه كان من المتحمسين للفكرة وحـتى يشـجع الركاب وقال عند رجوعه:
- نفذت الفكرة رغم أني لم أسرق
قال المصطفى:
- والآخرون أيضا أبرياء، الشيطان هو المسؤول عن كل جرائم الإنسـان، لكـن نقودي حرام على من أخذها، هيا نكمل الخطة.
استمرت العملية كما هو مقرر، كل واحد يذهب إلى الحافلة، يدخل فيها ثم يعود حتى لم يبق أحد، وهو يرجو من الله أن تكون المروءة والتقوى قد تحركتا في نفس السارق، اتجهوا إلى الحافلة وأحضر السائق من تحت مقعده مصباحـا صغيرا، وكانت المفاجأة الكبرى عندما وجدوا المبلغ فوق أرضية الحافلة كــاملا، شعر المصطفى بفرح شديد، عادت إليه نقوده وسيتمكن من شراء العلف وســد حاجاته، وهنأه الكثيرون:
- المال الحلال لا يضيع
- والله إنك لرجل صالح
- فكرتك كانت جيدة، وهذا هو ذكاء الإنسان الموريتاني الأصيل
- لقد جازاك الله على قدر نيتك، لم ترد إيذاء أحد فانتصرت نصرا مبينا.
وبعد قليل عاد الهدوء إلى الجميع فطلب السائق منهم الركوب، وانطلقت الحافلة من جديد، وضع المصطفى النقود في جيبه بعد أن عــادت إليـه بـدون الكيس البلاستيكي الذي كان يضعها داخله، وهو يشكر الله على نعمه الـتي لا تعد ولا تحصى، وبعد فترة لاحت مدينة الجديدة ولم يمض إلا وقت يسير حــتى توقفت الحافلة، نزل ثم دفع للسائق الأجرة ولاحظ أن راكب آخر نــزل معـه، كان رجلا ريفيا في متوسط العمر، دفع هو الآخر للسائق الأجرة، ولحق به قائلا:

- اعتقد أن السائق هو السارق، وقد أخذ نقودك بعد أن رش علينا مادة منــومة، ألم يلفت انتباهك نوم الجميع !
- ربما كان ما تقوله صحيحا، لكن المهم عندي هو استرجاع نقودي، وقد سامحت الفاعل
- السائق هو السارق وهناك دليل آخر فقد كان هو أول من ذهب إلى الحافلة وذلك لكي يتخلص من المبلغ بسرعة.
استمر بينهما الحوار على هذا النحو، الرجل يلعن السائق ويتهمه بالاجرام ويدعي أنهم جميعا تعرضوا للتنويم من طرفه، والمصطفى يعرب عن عدم تأكده من ذلك، وبعد أن مشيا مسافة أخبره الرجل أنه سيأخذ إحدى الطـرق الفرعيــة وعانقه مودعا وهو يقول:
- ادع لي الله، أنت رجل صالح
لكن المصطفى انتبه أثناء عناقهما إلى أن في جيب الرجل كيسا بلاستكيا أصدر بسبب الضغط أصواتا توحي بأنه جديد، وتساءل في نفسه عما إذا كــان هذا الرجل هو السارق، وقد نسي أو خبأ الكيس في جيبه، وكرر عليه الرجل طلبــه في إلحاح فدعا له بالتوفيق والهداية، واختفى كل منهما عن الآخر في الظلام.

العائـــد

هاهو محمد الامين يعود إلى أهله مثل كل مرة في العطلة الصيفية، لكــن منذ وطئت قدماه الحارة القديمة حيث يسكن أهله حدثت أشياء غريبة جدا، إذ سقط صديقه أحمد من فوق دراجته لما رآه وجرحت ساقه، وعندما اقترب منه ليساعده فر هاربا، أخذ محمد الامين الدراجة الملقاة على الأرض ومضى يسحبها متوغلا داخل الحارة، وهو مستغرب من تصرف أحمد:
- هل جن الولد ! !
وفي تلك اللحظة ارتفع أذان سيد أحمد مؤذن المسجد من فوق رأسه معلنـا حلول وقت صلاة المغرب فحياه بيده، وعندما نظر سيد أحمد إلى الأسفل حيــث يمر محمد الامين بدا عليه الاستغراب ثم نزل مع السلم بسرعة مخلفا صوتـا قويـا أوحى بأنه ربما تعثر وهو نازل.
واصل محمد الامين طريقه بسرعة، لا شك حدثت كارثة للشيــخ محمد زعيم التجار في المنطقة الذي هو والده، أو لآمنة المرأة المحبوبة بين نســاء المدينـة والتي هي أمه، أو لأحد الصغار، في تلك اللحظة كان قد أصبح تماما أمام البيـت رأى هناك بعض السيارات التي لا يعرفها، واستعاذ بالله من كل شر وشعر بأنـه بلا وزن، خفيف جدا وضعيف وخائف، فأستند على البــاب لوهلة ثم ترك الدراجة واستجمع قواه ودخل.

وفي الساحة رأى خالته عائشة فجرى إليها متسائلا:
- ما ذا جرى؟
- أجابته وهي ترفع رأسها إليه:
- ماذا ؟
- أنا محمد الامين، قولي ماذا جرى لا تخفي عني شيئا.
قامت المرأة بسرعة وصرخت بصوت كاد يقتله:
- جاء محمد الامين، إنه حي.
فخرج كل من في الدار، ومحمد الامين قربها ضائع ساهم، هذه أمه وهـذا أبوه وهؤلاء الصغار، وبسرعة قفزت إليه أمه آمنة، حضنته، قبلته، بكت كثــيرا وقالت:
- قلت لكم لم يمت، لك الحمد يا رب، أنت حقا محمد الامين لا تقل غير ذلك أنت هو ولدي الحبيب.
وشيئا فشيئا اقترب الآخرون، كان أول من وضع عليه يده والده الشــيخ محمد وقد قال باكيا:
- لك الحمد يا الله يا كريم.
- ثم هجم عليه الاخوة الصغار والأخوات يعانقونه ويتعلقون به وهو لا يفــهم أي شيء، وأحضر أحد الأقارب مصباحا يدويا إذ كان الظلام قد حل وصوبه على وجهه حتى أعماه وهجه فتعالى الصراخ والضوضاء:
- إنه هو ... إنه هو.
ومن إحدى الحجرات البعيدة خرج جده العجوز قائلا:
- ترحموا عليه واتركوا البكاء سنموت جميعا يوما ما، لا تكونوا ضعافا فـالمؤمن قوي صابر.

فصرخت به إحدى الصغيرات:
- محمد الامين لم يمت، إنه هنا معنا لقد جاء الآن.
وشعر محمد الامين بتعب شديد وأحس بما يشبه الإغماء أو النعاس القوي ولم يفق إلا صباح اليوم التالي، حيث عرف من والده أن باص ركاب انقلب في أحد المسالك الجبلية قرب المدينة ومات كل ركابه، وأن أحد القتلى كان شـديد الشبه به فهرول دركي من الجيران كان حاضرا إلى والد محمد الامين وأخبره أنه مات فذهب معه إلى مخفر الدرك حيث رفع أحد الحاضرين غـطاء عـن وجـه القتيل، فتفرس فيه الشيخ محمد بشدة وقال:
- إنه هو، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم دفنوه في نفس الوقت، ولعل الكثير من الأشياء ساعدت على هذا الالتباس مثل ضعف بصر الشيخ محمد والشبه بين الاثنين، وعدم وجود بطاقة لدى القتيل، وحرص الوالد على دفن الولد قبل أن تحضر أمه حتى تخف الصدمـة ولا يـتزايد الحزن والعويل.
ومرت الأيام وسعد أهل محمد الامين بنجاته وانتهى الصيف كما ينتهــي كل عام، لكن محمد الامين ما زال يتساءل عن ذلك الغريب الذي دفن في مقـبرة المدينة على أنه هو، والذي لم يظهر له حتى الآن قريب أو أهل، وكثيرا ما يحلــم أنه مات وأن الذي يعيش مع أهله الآن ليس هو، فيوقظ أمه مذعورا فتصنع لــه شرابا من دقيق الذرة وتقول له:
- استعذ بالله من الشيطان الرجيم، إن هي إلا أحلام.

الحاسـة السادسـة

في ذلك الصباح المليء بالشجن الغامض خامرني شعور كالنبوءة بأن أمـرا سيئا سيقع، وعندما تناولت إفطاري ككل يوم ذقت مع طعم الشـاي في فمـي طعما لاذعا غريبا كالمرض جعلني أفقد رغبتي في تناول الإفطار.
تغيرت مريم، لم تعد تحبني، وغادرت المنـزل وأنا أشعر بالحرارة في جســمي رغم برودة الصباح عادة في شهر دجمبر، خامرني خليط من الاحساسات المبهمـة وألح علي ذلك الإحساس الغريب الذي أعرفه جيدا بأن كارثة ستقع لي، لم تكن مريم لتقول لي ذلك البارحة وأنا خارج من عندها لو لم تكن قد تغيرت:
- ربما أنشغل هذا الاسبوع فلا تتعب نفسك بزيارتي كما هي عادتك كـل يوم.
اخترقت هذه الجملة رأسي كرصاصة، قالت لي ذلك في آخر لحظة مــن لقائنا حتي لا تكون لدي فرصة للكلام أو التساؤل، كنت قد تعرفت عليها قبـل فترة عن طريق صديق، تعلقت بها بحت لها بإعجابي فبادلتني نفس الشعور، مـن ذلك الوقت لم  يمر يوم دون لقاء، كنت أزورها في المنـزل يوميا بعــد الغـروب وكانت هي التي اقترحت هذا اللقاء الدائم، متعمدة ذلك حتى تأخذ علاقتي بهـا طابعا رسميا أقرب ما يكون إلى الخطبة.
فتعرفت على أبيها وجدتها وأخويها الصغيرين، وحكت لي كثيرا عن وفاة أمها وأين تدفن، أعرف عنها كل شيء وتعرف عني الكثير، لكن لمـاذا تغـيرت هكذا فجأة؟ ! ربما ملتني، أو أحبت آخر، نعم لاشك في ذلك، أحبـت آخر وضربت معه موعدا، ضاعت مريم وتلك أكبر كارثــة، وذلـك يؤكــده

الإحساس الغريب الذي هو أصدق عندي من كل شيء، فقد تـأكد لي مـرارا صدقه، شعرتُ به عندما رسبت في البكالوريا، وعندما فشلت في الحصول علـى وظيفة في قطاع الطيران، وفي مرات أخرى عديدة.
وفي العمل قضيت وقتا عصيبا، تلظيت فيه بعمل دائب ممــل، ورفعـت صوتي على رئيس المصلحة والزملاء أكثر من مرة لأتفه الأسـباب، فاسـتدعاني رئيس المصلحة إلى مكتبه مما أثار شماتة الأعداء ورثاء المحبين، ذهبت إليه مقتحمـا ودار بيننا صراخ حاد لم يبق في ذهني منه شيء، ودفعت الباب ورائي بعنف، ثم رددت بقسوة على زميل متلهف، فثار استغراب الجميع خصوصا أنني أتميز بهدوء جعلني أوصف أحيانا بأوصاف سيئة كالبرود والانغلاق والجمود.
ولم أعد أحتمل شيئا فغادرت المصلحة قبل موعد الانصراف مستهينا بكل العواقب، أخذت أهدئ نفسي، ربما كانت مريم صادقة وستنشغل بأمر لا علاقة له بما أظن، ربما ظلمتها بظنوني ووساوسي، لكن الإحسـاس الغريب بسم الله الرحمن الرحيم  جرفـني كالطوفان، وهو إحساس عجيب عميق في القلب، كالهلع والخوف والغضـب والتوقع، بل هو أشد وأقسى من كل ذلك وأقوى حضورا.
ولم أتذكر تفاصيل الطريق إلى المنـزل حتى وجدت نفسـي أمامـه تمامـا فدخلت ثم استحممت بماء بارد خفف من توتري، لكن مع تناول الغداء عـاد الانقباض إلي من جديد، وصار الصوت الذي في داخلي أكثر جرأة، تخلصـت مريم مني لم تعد تهتم بي، وتحدث القلب بصوت واضح، إنها تظنني أحمق ولن أدرك الأمر، بل إنها تعرف أني سأدرك ذلك وربما أرادت أن تفهمني بطريقة لبقة أن علي الاختفاء من حياتها.
وعند هذه المرحلة من التفكير شعرت أنني أوشِكُ على الانهيار إذ لا أتصور أن تنفصم عرى علاقتنا بهذه الطريقة، لقد تحولت مريم مع مرور الأيام إلى جزء هام من حياتي.
وحاولت بعد الغداء أن أخفف عن نفسي التوتر فاستمعت إلى أغنية جميلة في الراديو، وكانت ككل الأغاني تتحدث عن الحب والربيع وجمال الحياة، فزاد ذلك كآبتي وتوتري فكتمت الأغنية، هل كنت أظنها ستحبني للأبد؟! لكني أنا سأحبها للأبد، لا يهم ربما سأنساها فلكل شيء نهاية، حتى أنا وهي سيأتي يوم لا يبقى فيه منا أي شيء، لا ذكرى وإنما عدم و نسيان، ولا يهم ساعتها هل كان ما بيننا حبا أو حنينا أو خيانة أو قسوة.
وملأ الدمع عيني، ونمت لبعض الوقت نوما مرهقا استيقظت منه وكأني سافرت آلاف الأميال في الحر والرياح أو لعلي حلمت بذلك، فتحت نافذة الغرفة فإذا الشمس قد هبطت لتوها، الآن كنا نلتقي كل يوم وهذا أول يوم سيمر دون لقاء واشتد علي الإحساس بالحزن من جديد فلم أعد أميز شيئا مما حولي، سأذهب إليها وليكن ما يكون، لا بد أن تصارحني بالحقيقة، هذه الخائنة التي لا وفاء لها.
صليت المغرب وارتديت ملابس الخروج، ليس هناك موعد لكن المنطق الآن هباء، أما الإحراج فلا يهم أبدا، تركت المنـزل وكانت بقايا نور الشمس تتراجع بسرعة والظلام يقترب فزاد ذلك حزن القلب، أسرعت إليها الخطى وكانت ضربات قلبي مسموعة لدي بوضوح.
وصلت منـزلها في نفس الوقت الذي اعتدت الزيارة فيه كل يوم، دخلت الغرفة التي كانت مكان لقاءاتنا، فإذا بها تجلس مع شاب وسيم، شعرت بمزيج من الغضب والإحساس بالإهانة والفشل، تأملت الشاب كثيرا، هذا الوجه رأيته قبل الآن، ربما كان أحد الذين درسوا معي قديما، أو أحد جيراني الذين لا أعرفهم جيدا، هكذا إذن صدق الإحساس، صدقت النبوءة، وتعرضت إلى نكبة أخرى من نكبات الحياة.
فوجئت هي بقدومي، بينما بدت في عيني الشاب نظرة حائرة وهو يقوم مرحبا بي، مد يده مصافحا، لكني خرجت دون تأخير تاركا يده معلقة في الهواء.
وتلاحقت الأحداث السيئة بعد ذلك، غادرت المدينة إلى عمتي في الريف بحثا عن سلوة أو نسيان، وأصابتني حمى ومرض شديد بمجرد وصولي إلى بيتها وسمعتها أثناء المرض عند رأسي أكثر من مرة وهي تقول للزوار:
-أصابته العين، الحاسدون قاتلهم الله وضعوا له سحرا في الشاي، هذا ما قاله شيخنا حفظه الله.
وجاء الشيخ مرار، وسمعته يوزع النصائح يمينا ويسارا:
-اسقوه ماء هذه التعويذة ... احرقوا هذا الجدول ليلة الجمعة قربه...

وتماثلت للشفاء، فعبرت للشيخ عن عدم رغبتي في حضوره إلي مما أثار غضب عمتي لبعض الوقت، لكن شفائي جر علي بعض المتاعب، إذ قالت لي ذات يوم:
-لا علاج لك إلا الزواج، الاستقرار هو ما ينقصك
فقلت لها بلا وعي:
-اختاري لي.
فزوجتني ابنتها بكل بساطة، ورقص القرويون تحت القمر عدة ليال ثم أخذت ابنة عمتي إلى المدينة وواصلت عملي وحياتي.
وصلتني عدة رسائل من مريم كنت أمزقها دون قراءة، وبعثتُ لها ذات مرة رسالة كتبت فيها: (لقد تزوجت ونسيتك فانسيني من فضلك).
والحقيقة أني لم أنسها أبدا بل تجاهلتها بقسوة ومنعت نفسي من التفكير فيها كنت أعرف أنني أحبها لكنني أقنعت نفسي بالتفرغ لتربية ولدي الذي يبلغ السنة من عمره، وتناسيت الأغاني والأفلام التي كنت مولعا بها، وصادقت جماعة من الملتزمين، ولا ذِكْرَ بيننا لغير الانضباط والعمل والعبادة والتفكير في الموت
لكن لا يمكنني أن أنكر أنه في الكثير من الأحيان أثناء تلك الأحاديث كان يشرد الفكر إليها، وأحس بالقلب المتعب يئن تحت الضلوع شوقا وحنينا فأضغط عليه بقسوة.
وذات يوم بينما كنت أنا وزوجتي وصغيرنا على شاطئ البحر رأيتها صدفة، نعم إنها مريم تسير على الرمل باتجاهنا وهي تمسك في إحدى يديها حذاءها، وباليد الأخرى تسحب طفلة صغيرة تبادر إلى ذهني أنها ابنتها، ودار رأسي فالتفت  إلى الجهة الأخرى، ما أضيق العالم وما أقساه ونظرت إليها، إنها تتجاوزنا الآن وتوشك أن تختفي وراء أحد التلال الصغيرة، وبدون وعي نزعت دراعتي وملابسي الثقيلة وقلت لزوجتي:
-سأجري قليلا على الشاطئ
-احذر من البرد، ثم إنه من الأفضل أن نعود قبل حلول الظلام.

لم أجبها وانطلقت أجري حتى حاذيت مريم فتوقفت بلا إرادة، التفتت إلي فبدا عيها الذهول وقالت:
- أنت !؟
- نعم أنا.
وانتبهت من ذهولي على صوت آمر من بعيد:
-تعالي يا مريم
نظرت جهة الصوت فإذا بي أشاهد الشاب الذي وجدته معها ذلك اليوم الذي كان آخر يوم أراها فيه، وقالت لما رأتني أنظر إليه طويلا:
-هذا أخي الذي كان يدرس في روسيا
سألتها:
- وهذه الطفلة هل هي ابنتك؟
- لا، إنها ابنته هو من زوجته الروسية، التي أصبحت مسلمة وتقيم معه هنا في موريتانيا.
ولم أعد أستطيع الكلام من شدة الانفعال، حاولت أن أقول لها إن هذا لا يصدق وإني أود لو تبتلعني الرمال الآن وقالت:
-      لم تتغير أبدا، كأن لم يمر عامان دون أن أراك
ثم قالت أيضا:
-نسيتني وهجرتني دون ذنب
وواصلتْ بصوت بريء حبيب طالما سمعته:
-أنا لم أحب سواك
-هل تذكرين عند ما قلت لي إننا لن نلتقي لمدة أسبوع، ألم يكن ذلك إشارة إلى أنك لم تعودي تحبينني؟!
-أبدا، علمت بقرب وصول أخي، فآثرت أن تغيب عدة أيام حتى تعود الأمور في بيتنا إلى مجاريها، أنت تعرف كثرة الزوار والمشاغل في مثل تلك الظروف
-ظننته  حبيبك الجديد لما زرتكم في اليوم الموالي
-كيف لم تتذكره، لقد حكيت لك عنه كثيرا، وصوره عرضتها عليك مرارا هل تعني حقا أن هذا كان سبب اختفائك؟!
وطغى عليها الانفعال فجلستْ وتركت يد الطفلة فمضت إلى الإمواج حيث حملها أبوها في الوقت المناسب، ثم استمر في جمع الأصداف التي يلقيها البحر في ذلك الوقت من النهار، جلست أنا وقد أحسست بدوار عنيف، ورجع الفكر إلى الماضي بسرعة مرهقة، نعم إنه أخوها، حكت لي عنه كثيرا وصوره عرضتها علي مرات عديدة، وذلك اليوم قلت لنفسي رأيته قبل الآن، لكن الغضب أعماني، كيف حصل ذلك يا ربي، كيف لم أتعرف عليه، لو تعرفت عليه  لما حدث أي شيء من كل هذا، ما أشد الظلم وما أقسى الحياة والظنون، وقلت لها بصوت مخنوق أخرجته بصعوبة:
-لما ذا لم تشرحي الأمر كله لي ؟!
-كتبت لك كل شيء في رسائلي
قلت بصوت ميت:
-كنت أمزقها دون قراءة، لم أقرأها أبدا، لعن الله الغضب الأعمى والتسرع.
وقالت بثقة عجيبة:
-كنت متأكدة أنك ستعود، كنت سأنتظرك العمر كله...
وتسارع تفكيري فلم أعد أسمع كلامها الحلو، فكرت أولا في زوجتي سأطلقها، ما يهم حقا هو مريم والحب، وولدي سيتربى بعيدا عن الجو العائلي، لا يهم، أنا نفسي افترق أبواي وأنا صغير، ولن أدفع سعادتي ثمنا لتربيته، فكرت في الكثير من الأشياء كنت أسحق العقبات الواحدة تلو الأخرى، سأتزوج مريم وليكن ما يكون، ليقاطعني العالم إن شاء، عند ما نتزوج ستعود الدنيا إلى لونها الجميل، سيملأ بيتنا الغناء، ونشاهد الأفلام التي كنا نحب، ونطوف الوطن والعالم، وأصدقائي الملتزمون المنضبطون سوف يعارضون بلا شك، إذا عارضوا فسأهجرهم، وعمتي وأهلي والمسؤولية والالتزام... لن أهتم بأي شيء من هذا ولن أضيع مريم بعد هذا العمر القاسي.
تركت التفكير وقلت لها في إصرار:
-ظلمتك يا مريم وظلمت نفسي طويلا، لكن بعد الآن لا
ابتسمت كطفلة رغم غزارة الدموع التي كانت تسيل من عينيها، وبكيت أنا أيضا لكن سرعان ما استعدت قوتي وقلت لها:
-سنتزوج ولن يقف في طريق ذلك شيء.

ثم انعقد لساني رغم شدة حماسي للكلام فسكت قليلا، نظرت إلى البحر فرأيت الشمس تختفي وراء الموج العالي، وزوجتي هناك بعيدا تلاعب ولدنا والشاب أخو مريم يلهو هو أيضا مع ابنته.
عدت بنظري إلى مريم وصرت أكرر:
-سوف نتزوج ولن نحزن بعد اليوم أبدا.
قاطعني من بعيد صوت زوجتي وهي تصيح بي:
-تعال إلى هنا، ومن تلك التي تقف معها؟
ويبدو أن كلامها ذكًر أخا مريم بشيء فجاء إلينا وحياني فصافحته مشتت التفكير كارها لحضوره، حاولت أن أقول لمريم إن علينا إكمال حديثنا على انفراد فلم أستطع، وقال وهو يتفقد الشاطئ البعيد كأنه يبحث عن شيء:
-تأخرنا كثيرا
فقاطعته قائلا بجنون:
-لن تذهب مريم، خذني معكما إن شئت...
وارتبكت فلم أعد أدري ما أقول، وأجابني:
-ليس عندنا مكان لك
ولم تنطق هي، وإن كان الوجوم قد بدا عليها، وسألها أخوها:
-من هذا؟
أجبته بجنون أكبر:
-أنا حبيبها وسأتزوجها
قال:
-لا، ذلك مستحيل.
ثارت ثائرتي وأمسكته بعنف فتخلص مني وقال:
-احترم نفسك، إنها متزوجة ولو علم زوجها بما قلت فلن تنجو أبدا

صرخت:
-لا، لن أرضى بالظلم، تكلمي يا مريم، قولي إنه كاذب
قالت بصوت باك حزين:
-بعد الانتظار الطويل، تزوجت، كنت قد يئست من عودتك، وقال لها أخوها:
-من هذا المجنون يا مريم ؟!.
وقبل أن أستعيد توازني وقفت بقربنا سيارة فخمة من عابرات الصحراء أنزل صاحبها المرآة التي تلينا، رجل ضخم ذو شارب كبير، قال:
-المعذرة يا جماعة، تأخرت عنكم، إن الشاطئ جميل هناك في الشمال، في المرة القادمة سنـزور ذلك المكان فالشاطي من هنا صار كثير الزوار.
وكانت مريم تنظر بعيدا عنه فقال:
-عزيزتي مريم هل أنت غاضبة؟ هيا اركبي، ركب أخوها في المقعد الخلفي فسأله الرجل الضخم ذو الشارب مشيرا إلي:
-من هذا، هل هو صديقك؟
-لا، ربما هو أحد معارف مريم.
ثم رأيت مريم وهي تصعد في السيارة، فأحسست باني أفقد جزءا من روحي، وكان ضوء الغسق الأحمر الكئيب يصبغ وجهها الغالي بلون حزين، ثم انطلقت بهم السيارة وكانت تلك آخر مرة أراها فيها.
وجاءت زوجتي تحمل طفلنا الصغير  فأخذته منها وانطلقنا، سألتني:
-من هؤلاء الذين كنت تقف معهم؟
أجبتها وأنا أكاد لا أضبط نفسي:
-معارف قدماء.

موعد قبل الرحيل

امتدت حتى ابتلعت كل شيء هذه المدينة الكبيرة! تنمو يوما فيوما، أف لها، وكل هؤلاء الناس من أين يقدمون؟! ألم يكن أفضل لو بقوا في الريف! أليس أكرم للإنسان أن يعيش في خيمة أو بيت ريفي بدل أن يعيش في أكواخ الصفيح هذه!.
هكذا قال مبارك لنفسه وهو يجلس محاصرا وسط ما تبقى من حقله الذي غزته البيوت من كل جانب، بيوت من إسمنت وصفيح، وأكواخ لا تعد ولا تحصى، وحقله أين هو! هل يسمي هذه النباتات البائسة حقلا، أين ذلك الزمان القديم عندما كانت السيول تنحدر إلى هنا من الربوات المحيطة عند نزول المطر فتنبت الأعشاب كثيرة كثيرة، لكن أين هي الربوات نفسها؟! لم يعد لها وجود بعد أن اختفت بفعل السكان وكثرة المارة.
كان يجلس على حصير قديم أمام كوخه الخشبي الذي هو عبارة عن أربعة أمتار مربعة، أكثر من نصفها مشغول بمتاع نسجت عليه العناكب خيوطها وتكاثرت داخله الفئران التي لولاها لمات قطه الأصفر جوعا، وذلك المتاع عبارة عن مجارف وآلات زراعية يحتفظ بها على سبيل الذكرى إذ لم يعد مزارعا، بل يعتمد في تحصيل قوته على حمار له عربة يحمل عليها كل يوم بعض المؤن البسيطة لسكان الحي: حطب... خضراوات... براميل ماء...
مل مبارك من الجلوس فقام وطوى الحصير الذي كان يجلس عليه ورماه في داخل الكوخ ثم سد بابه، وما لبث أن عاد إلى التفكير فيما آلت إليه حاله عجوز لا يعرف كم مر عليه من السنين وإن كان سمع من أسلافه أنه ولد قبل

عام (العرية) بخمسة أعوام، لكن أحدا الآن لا يعرف متى كان ذلك العام بالتحديد، وإن تكن الحالة الآن سيئة فقد عاش زمانا جميلا، وما يحز في نفسه أكثر من أي شيء هو ضياع الحقل، آه كيف يحدث هذا! وعاد بذاكرته إلى بداية المأساة، كانت أقرب منازل المدينة على مسافة بعيدة قبل عشرين عاما وكان إذا هطل المطر في فصل الخريف أخرج  من صندوقه الحديدي آنية البذور ثم زرعها، بذور متنوعة: ذرة، دخن، فاصوليا، بذور بطيخ... وبعد شهور قليلة يبدأ يجني محاصيل مزروعاته، يبيع الكثير في سوق المدينة ويستبقي لنفسه ما يحتاجه إضافة إلى بذور للعام الموالي، لكن المنازل بدأت تقترب وكثر السكان، في البداية جاءت أسرة واحدة، نزلت في الجنوب مما سبب له إزعاجا كبيرا، هو لا يكره الناس لكن الناس يؤذونه، تسلل الأطفال ساعتها إلى الحقل مرات عديدة في الليل والنهار، عبثوا بالنباتات كسروا البطيخ، ثم جاء آخرون وآخرون... وظهر الماعز، تبا لها من حيوانات لا يجدي معها سياج ولا حراسة.
والحقل لم يكن ساعتها ضئيلا بل كان كبيرا جدا، لكن أجزاء كبيرة منه انتزعها الوافدون الجدد، وأجزاء أخرى باعها هو بأثمان زهيدة، من يتصور أن دار سالم التي يقدر ثمن الأرض المبنية عليها بمئات الآلاف موجودة على جزء من الحقل قام ببيعه قبل أعوام عديدة بمبلغ خمسة آلاف أوقيةَ!.
شد مبارك العربة على الحمار وانطلق إلى عمله اليومي، لكن تفكيره  في الحقل لم يتوقف، ما ذا بقي من الحقل –سأل نفسه-! لا شيء، حوض نعناع وسدرة عجوز مثله توقفت عن إعطاء ثمارها منذ سنوات، لهذا تخلى عن الزراعة، كيف يزرع أرضا أمست في وسط المدينة، والكارثة الكبرى أنه سمع أن ما احتفظ به من أرض ساحة عمومية، هكذا قال له جاره الميسور عبد الله
والذي أخبره أيضا أنه مستعد لشراء الأرض وقال له:
-مبارك أنت ضعيف، لن تبني شيئا على هذه الأرض، بعها لي كي أبني عليها منـزلا من الإسمنت فإذا حضرت السلطات ووجدتني قد بنيت لن تهدم الإسمنت، هذا هو القانون، أما كوخ الخشب فلا يملك الأرض، أنت لن تضيع علي أرضا ستطرد منها.
وآخرون قالوا له:

-عبد الله يكذب، الدولة لا تفعل هذا، وأنت مواطن رغم أنك تسكن في كوخ والأرض لساكنها.
ازداد إحساس مبارك بالحزن وهو يتذكر هذا الكلام، حتى الكوخ وبقية الحقل قد يفقدهما، رغم ذلك لن يبيع أرضه وليعرض عليه عبد الله ما شاء وليكذب أو ليصدق كيفما شاء.
ومر النهار سريعا وحصل مبارك على أربع مائة أوقية فذهب إلى السوق لشراء غدائه، لفتت نظره حزمة عشب بري معروضة كعلف للحيوان ذكرته بالزمان القديم، سأل البائعة:
-      أما زال هذا العشب ينبت في المنطقة؟!
-      أحضره ابني محمود من ضواحي المدينة
-      هل تعرفين أن هذا المكان كان من ضواحي المدينة؟!
-      نعم سمعت بذلك
-      كم ثمن الحزمة؟
-      مائة أوقية.
اشترى مبارك حزمة العشب، وركب حماره عائدا إلى كوخه حتى يتناول طعام الغداء، وهمومه ما تزال على حالها، تكبر حتى لتكاد تقضي عليه، الأرض قد تذهب، قال عبد الله بأن كوخ الخشب لا يملك الأرض، ألم يكن هو هنا قبل الجميع!... وأمسك حزمة العشب، ما أجملها، عادت به إلى الأيام الخوالي أيام كان نفس العشب يملأ الحقل، ما ألطفه ما أجمله، أخضر فاتح له زهرات بيض تعبق في المساء، وكم تسلل إليه عبقها وهو ينام في كوخه ليلا، ترى أما زالت له نفس الرائحة؟ أما زالت عطوره تملأ البراري عند حلول الليل في الضواحي البعيدة؟ يود لو يمضي مرة هناك، لكن لم يعد في العمر متسع للارتحال ولا الصحة عادت تسمح بذلك.
وصل الكوخ، فتحه وجلس على الحصير بعد تجهيز غدائه، وقربه حزمة العشب، بدأ يتناول طعامه وبين حين وآخر كان يرفع الحزمة حتى يضعها على أنفه، ويستشنق رائحتها العطرة مغمضا عينيه، فيرى صورا رائعة الجمال: أمطار وسيول وسنابل وطيور ملونة... وهو قوي جدا يقطع الحطب بفأسه القوية، ما أجمل هذا، آه لو كان بالإمكان إعادة الزمان إلى الوراء.
لكن تفكيره انقطع بسبب أطفال يصرخون أمام الكوخ قائلين فيما يشبه النشيد وهم يشكلون طابورا راقصا:
-مبارك المجنون، يأكل العشب... مبارك المجنون يأكل العشب.

قالت جدتي 

تحلقنا حولها مثل كل ليلة وقالت:
-      الليلة يا صغار سأحكي لكم قصة اثنين من أهل الحي الذي كنت أنا وجدكم رحمه الله نقيم فيه قبل زمان طويل، حتى قبل أن يولد والدكم، وعم الصمت فواصلت الجدة:
-      كان الاثنان واسماهما المختار ومحمد مضجعين قرب النار عندما أحس المختار بيد تنبهه فقال:
-      ماذا هناك ؟!
-      قم بسرعة يا مختار
جلس متثائبا وهو يفرك عينيه وقال بصوت ناعس مخاطبا محمد:
-      ماذا تريد؟
-      ألا تسمع صوتا؟ أنصت جيدا
-      لا أسمع أي شيء !
-      إني أسمع زئير أسد يقترب منا، اسمع
-      آه، الآن سمعت هل نطفئ النار حتى لا يهتدي إلينا
-      لا فائدة في ذلك، إنه يشم رائحة البشر ولو من ألف ميل
-      ما العمل إذن؟
-      احش بندقيتك.

قام المختار إلى البندقية وحشاها بالبارود والرصاص، وفجأة ظهر الأسد أمامهما على ضوء النار ثم قفز عليهما فامسك بمحمد بسرعة.
وأحسسنا نحن الصغار بخوف شديد فاقتربنا أكثر من الجدة وقالت وهي تواصل حكايتها:
-      جر الأسد محمدا لكنه كان رجلا شجاعا فقد قال لأخيه:
-      لا تخف، أطلق النار عليه فأنا ما زلت حيا
قاطعتُ الجدة متسائلا:
- هل قتل المختار الأسد؟
قالت :
- صوب المختار بندقيته لكن الأسد كان ممسكا بمحمد وكلاهما ملتصق بالثاني ولما أطلق النار لم يكن تصويبه جيدا فاصاب بالرصاص للأسف محمدا، فأصيب المختار بالجنون وعاد إلى الحي حيث قضى بقية عمره على تلك الحالة.
عندئذ أخذنا نصرخ ونبكي فاستيقظ والدنا ودخل الغرفة قائلا:
-      لماذا هذا الصراخ؟
قالت الجدة:
- يحتجون على نهاية القصة
وكانت أختي الصغيرة تبكي فحملها والدنا وتبعناه إلى غرفته تاركين الجدة وحدها، سألنا:
-      ماهي القصة التي كانت تحكيها لكم؟
-      قصة المختار ومحمد مع الأسد
-      قالت إن المختار قتل محمد ولم يصب الأسد
ضحك والدنا وقال:
-      غير صحيح، هذه القصة حكتها لي عدة مرات وأنا صغير وربما تكون قد نسيت تفاصيلها، الواقع أن المختار ضرب الأسد بالبندقية فدخلت الرصاصة في رأسه ومات، ثم حمل المختار  إلى الحي وعالجه حتى برئ جرحه وعاشا بين أهلهما زمنا طويلا.
وطلب منا الذهاب للنوم بعد أن هدأنا، لكن قبل أن يتمكن مني النوم سمعته يقول لجدتنا:
- متى تكفين يا والدتي عن سرد مثل هذه القصص للأولاد، إنها تخيفهم كثيرا.

تجربة قديمة

حدث ذلك في أيام الدراسة الثانوية حيث قالت لي:
-      زواجي غدا من ذلك البغيض، أبي  مصر على ذلك، سوف أترك لهم كل شيء وأذهب
-      لكل مشكلة حل
-      الحل هو أن أختفي، سأقتل نفسي
وتخيلتها جثة متأرجحة في حبل فصرخت بها:
-      لن يحدث ذلك
-      بل سيحدث
كيف يا ترى سأعيش بعدها ! ومن قال إني سأعيش، سأموت حسرة عليها وقلت لنفسي : مادام الموت هو مصيري فلأذهب معها حتى نموت معا ويعترف العالم بأن حبنا معجزة .
كنا نقف ساعتها في بهو أحد الفصول الدراسية بالمدرسة الثانوية، حيث كنا زميلين في نفس الصف وقد بذلت جهودا في ما مضى من أيام السنة الدراسية من أجل كسب ودها حتى حصلت عليها، ومع مرور الأيام أصبحت لا أتصور وجودي بدونها.

وقلت لها:
-      هل أنت مصرة على قرارك ؟
-      نعم
-      إذن سأذهب معك
نظرت إلي بذهول وقالت إنها ستختفي لوحدها فأصررت على قراري وشعرت بروح جديدة تنبعث فيَ، وسرت على استعداد للتضحية بأي شيء مقابل بقائنا معا، وعرضت عليها أن نفر من البلاد إلى المغرب أو السنغال فرفضت وأصرت على أن الانتحار أو الاختفاء كما كانت تحب أن تسميه أفضل حل، ورجتني أن لا أرافقها في ذلك الدرب، لكنني تشبثت بها وزهدت في الحياة وسألتها:
-      كيف سننتحر؟
-      سنذهب إلى الصحراء شرق المدينة ونمضي داخلها حتى ينتهي كل شيء
-      ننتحر عطشا! !
-      لا تنظر للأمر من هذه الزاوية، إنه فقط رحيل عن العالم القاسي علينا، وما أجمل أن نفارق هذه الدنيا تحت أشعة الغروب على كثيب رملي بعيدا عن البشر إن الحياة رخيصة مقابل شيء بمثل هذا الجمال .
قلت لها متمتما:
- نعم ... نعم
وقلت لنفسي إني سمعت هذه العبارة قبل الآن في أحد الأفلام، رغم أنها قالتها بصدق ظاهز.
وقضينا وقتا طويلا في ذلك الحوار حتى رن جرس المدرسة معلنا وقت الانصراف فأدركنا أن حصة دراسية فاتتنا، فقلت لها:
-      إن من الجدير بمن قرر التخلي عن الحياة أن لا يأسف لفوات حصة دراسية

واتفقنا على أن نلتقي مساء عند التل الكبير شرق المدينة، فذهبت إلى منـزلنا وقضيت النهار أقلب الأمر على وجوهه، وتجاهلت الموت بشكله البيولوجي الفظيع، وفي المساء التقينا على التل وقالت لي:
-      أرجوك هيا بنا، لننطلق الآن
فانطلقنا داخل الصحراء، وهبط المساء أسرع من ذي قبل، ثم تبعه الظلام ونحن نبتعد، ولم أعد أرى ملامح وجهها ، وسمعنا عواء حادا حزينا فالتصقت بي خائفة، وشعرت أنا بحنين غامر إلى أهلي، في هذا الوقت كنت أشرب الشاي معهم، وعزمت أن أرجعها ولو عنوة، لكن الخوف كان أسرع إليها فقالت لي :
- أنا خائفة
وسَرَت إلى المخاوف من جديد أكثر من الأول، وأنا أخاف الظلام في المدينة فكيف لا أخافه في هذا  القفر المرعب، وهانت عزيمتي وعشقت الحياة وتأكد لي أنني لم أكن في وعيي عندما قررت الذهاب معها، وابتعدنا أكثر عن المدينة، وأوراق نبات (التورجة ) تتكسر تحت أقدامنا مثيرة المزيد من التوتر وفجأة قالت لي :
-      هل تخاف الموت؟
أجبتها بصراحة لم أتمكن من كبح جماحها :
-      نعم
-      المفروض أن الرجال لا يخافونه
-      الأغبياء فقط هم من يقدمون عليه مختارين
-      أنت إذن غبي؟!
-      بلا شك ، وأنتِِ ألا تخافينه؟
-      لم أكن أتصور الأمر بمثل هذه الصعوبة

قلت ساخرا:
- لا مشاكل حتى الآن
فقالت وهي تلتصق بي بشدة :
- أنا أخاف الظلام
ثم انهارت مقاومتها نهائيا فقالت :
-      أعتقد أنه من الأفضل أن نقوم بتأجيل ذلك ، أعني أن نرجع الآن
-      يبدو أنكِ خفت
-      وأنتَ أيضا أسنانك تصطك من الخوف.
وبالفعل كنت ميتا من الرعب، فرجعنا على أعقابنا، وخيل إلي أن الكثبان تتحرك من أمكنتها، وأن النجوم أكبر من حجمها المعتاد، وبعد تعب ومشي طويل دخلنا المدينة من جهة أخرى ونحن نحس بفرح شديد، وذقنا للحياة طعما جديدا.
ولما وصلت المنـزل سألتني أمي:
- لماذا تأخرت عن موعد الشاي بعد صلاة المغرب؟
فأجبتها:
- كنت أراجع دروس الرياضيات مع الأصدقاء.

لافتات الشارع الكبير
وقف محمد محمود في الطابور الطويل ينتظر دوره مع عمال الشركة لأخذ راتبه، كم ينتظر راتب هذا الشهر من مشاكل، مصاريف العيد، إيجار البيت وقضاء الديون وشراء راديو جديد بدل الذي ضاع منه الأسبوع الماضي ... ولما أصبح أمام المحاسب سلمه كما هي العادة ظرفا مغلقا، أخذ الظرف فرحا وانصرف وهو يحس بسعادة شديدة عندما رأى بعض زملائه في الطابور من بعيد، وقد جاء هذا اليوم باكرا ليتفادى طول الانتظار .
ولما صار في الشارع نادى على سيارة أجرة ، اتخذ مجلسه في المقعد الخلفي الوثير وأدخل يده في جيبه وأخرج الظرف ، فتحه لكن ماهذا ؟! النقود غير كاملة ، لقد عمل ساعات أكثر في هذا الشهر والظرف ليس فيه سوى عشرين ألف أوقية وهو يقدر أن حقه يزيد على الثلاثين، ثمة خطأ ما!
طلب من سائق سيارة الأجرة الرجوع به إلى الشركة ، دخل مسرعا حتى وصل إلى المحاسب، قال له:
-      نقودي غير كاملة، الظرف ليست فيه سوى عشرين ألفا وأنا حقي أكثر
-      هات الظرف.
وقرأ المحاسب كتابة على الظرف ثم قال لمحمد محمود بصوت حاد:
-      هذا الظرف ليس لك ، هذه نقود يحيى ، تبا لكم من جهلة ، لماذا لم تقرأ الاسم؟!
-      أنا لا أقرأ

- أعرفُ ... أعرفُ ، ابحث عنه ليأخذ هذه النقود ويعطيك نقودك، الخطأ خطئي أنا، أنت لا ذنب لك .
وبسرعة بحث محمد محمود عن يحيى بين العمال ، قالوا له إنه اتجه إلى منـزله، ذهب إليه فوجده بين أطفاله التسعة، شرح له الأمر فأبدى أسفا شديدا وحلف له قائلا:
لقد صرفت النقود جميعا، ظننتهم منحوني علاوة، لكن لا تخف سأقضي لك الفرق في الشهر القادم
ذهب عنه وهو يحس بكآبة شديدة ، ويعرف أن من الصعب على بائس مثل يحيى أن يقضي دينا، ولا شك أنه استولى على النقود وصرفها متعمدا أو أخفاها وهو يعلم أنها ليست له، وضياع عشرة آلاف أمر محزن ، لكن المحزن أكثر هو أن يوبخه المحاسب الشاب كل هذا التوبيخ رغم أنه   – المحاسب- في عمر ولده لكن الحق معه، كيف لم يتعلم؟! وهذه الرموز البسيطة التي تسمى كتابة والتي يفهمها الأطفال في سنواتهم الأولى أليس هو قادرا على فهمها ! لا بد له من أن يتعلم.
وصل منـزله وعبارة المحاسب ( أنتم جهلة ) ترن في سمعه، هو الذي لم يتعرض في حياته لإهانة يقال له هذا الكلام ! هو الذي تشرد وكدح من أجل أن لا يمن عليه أحد شيئا يقال له (أنتم جهلة)!.
تدبر أمره مستعينا بما حصل عليه من نقود ، وقام بتهدئة زوجته وأولاده بعد أن استغربوا ما حصل له ، وأظهر لهم أن الأمر عاد ، وكثيرا ما يخطئ المحاسبون أخطاء من هذا الشكل ، وفي المساء بعد أن قضى النهار بين أهله اتجه إلى جارته ميمونة التي تعمل سكرتيرة في إحدة الوزارات ، رحبت به وقدمت له شرابا باردا ، وبعد تبادل التحايا والمجاملات المعتادة أخبرها أنه يريد أن يتعلم فقامت بتشجيعه وقالت له :
- حسنا تفعل، فالرسول الكريم قال إن علينا طلب العلم من المهد إلى اللحد، ابحث عن كتاب القراءة للسنة الأولى الابتدائية وسنبدأ اعتبارا من مساء الغد .

وفي اليوم الموالي عمل كثيرا ، حمل أكياسا عديدة ونظف غرفا واسعة دون تعب، كان متلهفا لقدوم المساء ، ولما التقى بزميله يحي وسلم عليه رد عليه هذا الأخير بتحفظ خائفا من أن يسأله عن النقود، لكنه قال له:
- أخي يحي، أنا وأنت لاذنب لنا ، كل اللوم على المحاسب الذي يعرف القراءة والكتابة، أما نحن فعذرنا هو الجهل .
رجع إلى بيته حاملا كتاب القراءة ، ثار استغراب زوجته فأخبرها أنه لابد له من تعلم القراءة والكتابة ، اتهمته بالجنون وقالت له :
-      رجل كبير في مثل سنك يتعلم ؟!
-      وأي سوء في ذلك ؟ المشين حقا هو أن يقول لي المحاسب ( أنتم جهلة ).
-      وكيف ستدفع تكاليف التعلم ؟!
-      اطمئني ، لن أدفع أوقية واحدة .
وفي المساء جلس أمام ميمونة ، ساعدته بدفتر وقلم، في الأيام الأولى تعلم إمساك القلم والنطق الصحيح لكل حرف ، بدا الأمر معقدا لكنه كلما تذكر كلام المحاسب ازداد عزمه، ومع مرور الوقت أصبح قادرا على قراءة وكتابة بعض الكلمات، ثم قرأ جملة وجملتين ... وأصبح موعد الدرس أهم مواعيده اليومية ، وميمونة سعيدة بتقدمه، ثم قالت له ذات يوم:
- لقد أصبحت تعرف القراءة والكتابة.
في الصباح التالي انطلق إلى عمله في وقت مبكر، وذهب في الشارع الكبير ماشيا، وقام لأول مرة في حياته بقراءة جميع اللافتات ، وكانت من بينها لافتات  مخازن ومحال تصوير فوتوغرافي وهواتف عمومية ...، أَحَسَّ بنشوة كبيرة في القيام بذلك، ثم وصل الشركة التي يعمل فيها قبل الجميع، انتظر حتى حضر المحاسب فصافحه وطلب منه أن يرفع عينيه إلى لافتة الشركة ، ثم قام بقراءة كل ما دُوِّنَ عليها من كلمات وقد بدا على المحاسب الذهول ، فيما قال أحد العمال الذي كان قد وصل لتوه:
- محمد محمود لم يعد جاهلا .

زيارة قصيرة
اقتحم علينا خلوتنا متسللا غامرا أخاذا ، أحسسنا به واحدا واحدا واستدعينا به صورا طالما حرمنا منها، كنا جالسين نحن الأربعة في خيمة رئاسة فريق التنقيب نلعب الورق على ضوء فانوس زيتي شاحب ، وقربنا ينام كبير المهندسين الذين نعمل تحت إمرتهم.
وفي مرحلة من المراحل توقفنا عن اللعب، وتلفتنا حولنا نشتم الهواء ، قال محمد:
- ألا تشمون رائحة ما؟
-أجابه سيد أحمد
- أعتقد أن رائحة جميلة تجوب المكان
وقال عبد الله :
- إنه عطر امرأة .
سكتنا وأخذنا نستنشق الرائحة الجميلة، والتي كانت تزداد مع هبوب النسيم من الجنوب ، مللنا الورق الذي نلعبه فكدسناه تحت الفراش وخرجنا من الخيمة ، كل هذا والرائحة تحملنا إلى آفاق بعيدة، حيانا حارس المخيم لما مررنا بجانبه ثم وقفنا على مرتفع قريب وقال محمد :
- ما رأيكم في أن ننطلق باحثين عنها؟
- من؟

- المرأة ، العطر الفواح هذا
-      ليس هنا أحد ، إننا نعرف المكان جيدا
-      ربما نزلت قربنا خيمة من البدو بعد حلول الظلام
-      هذا جنون !
-      مللنا الجلوس هنا، حفرٌ في النهار ونومٌ في الليل ، لا بد من الانطلاق وربما نعثر على خيمة جميلة أهلها طيبون ولديهم فتيات جميلات ، ونحن لا نبحث إلا عن شاي وأحاديث بريئة ووجوه وأصوات تكسر هذا الملل.
ولاقى العرض استحسانا منا، انطلقنا صوب الجنوب في الوجهة التي تهب منها الرائحة الجميلة في ظلام غير حالك بسبب وجود هلال صغير ، عبرنا مستنقعات ارتفعنا ونزلنا حسب تضاريس الأرض منتشين بالبحث ، واستوقفت رفاقي قائلا:
- ماذا سنفعل لو تحقق الأمل وقادتنا أنوفنا إلى خيمة أو حي بدوي ؟
رد عليَّ محمد:
- ندخل بدون تردد
وقال سيد أحمد :
- المشكلة ليست ماذا سنفعل إذا وجدنا الخيمة ، المشكلة الحقيقية هي أن تقودنا أنوفنا إلى لا شيء، ماذا لو بتنا الليل نبحث عن رائحة هبطت من السماء ، أو بقيت من عبور امرأة أو رجل قبل فترة؟
قلت له :
- الروائح الجميلة لا تبقى في الهواء لمدة طويلة، أرجوك لا تعكر صفونا.
واصلنا السير حتى وصلنا إلى ربوة صغيرة فصعدناها، كانت الرائحة نفاذة جدا ، شديدة غامرة مما يدل على قرب مصدرها، تلفتنا حولنا فلم نر أثرا لبشر

وقال محمد وهو يشير إلى خميلة صغيرة أسفل الربوة :
- الرائحة تأتي من هنا
وتدافعنا إلى الخميلة مسرعين ، كانت خضراء داكنة تحت ضوء الهلال الضعيف وقد برزت منها إلى الأعلى أزهار فاتحة ، قطفت إحداها وقربتها من أنفي فإذا بها تفوح بالعطر الذي جئنا نبحث عنه، وأدرك الآخرون السر ففعلوا مثلي وأخذوا بعض الأ       زهار وبعد قليل كنا نقول ضاحكين :
-      يا له من عطر جميل !
-      لكنه ليس عطر امرأة
-      قطعنا مئات الأمتار من أجل هذه الزهور!
-      لا خيمة هنا ولا فتاة ولا شيء، خلقنا امرأة من مجرد رائحة من روائح الليل البدوي !.
انقلبنا عائدين إلى مخيم التنقيب ونحن نرجو من الله أن لا يكون قد استيقظ بعدنا كبير المهندسين ، ويملأ آذاننا بصراخه الحاد، وفي يد كل منا زهرة والرائحة الجميلة ترافقنا.

الطبيبـة الأجنبية

جرح صديقي في الملعب ، ويبدوا أنه لم يهتم بالجرح فتورمت رجله ، ولما زرته اقترحت عليه أن نذهب إلى النقطة الصحية في القرية ، فذهبنا إليها وهو مستند عليّ.
أدخلنا البواب على الطبيبة التي كانت امرأة فرنسية أو من تلك الشعوب الغربية، وبمجرد دخولنا بدأت تنظف الجرح الموجود في ساقه ، وكان صديقي ذلك شيطانا إذ أخذ يقول لي:
انظر إلى هذا الشعر- يعني شعرها -  ما أغربه ، إنه رمادي اللون ، وانظر أيضا إلى بشرتها ، هل ترى هذه النقاط السوداء على جلدها الأبيض ، وجلدها ألا تراه ، إنه كثير الغضون والتجاعيد مثل جلد إنسان مات وقضى أسبوعا في قبره ثم عاد إلى الحياة ...
وأخذنا نضحك وهو يتندر بملابسها ويسخر من كل أجزاء جسمها ، ثم وضعتْ له قطنا على مكان الإصابة وخرجت ، ثم ما لبثت أن عادت وفي يدها بعض الأدوية، سكبت دواءا من إحدى القنينات على الجرح وربطت عليه شاشا نظيفا ، وانطلقنا خارجين من النقطة الصحية .
وبعد أيام تورمت رجله من جديد ، ويبدوا أن أمه وضعت على الجرح بعض الأعشاب والأدوية التقليدية لكنها لم تجدِ معه ، ومثل المرة السابقة سحبته إلى النقطة الصحية ، وهو يستند عليّ وقد ساءت حالته عما كانت عليه في المرة الماضية ، وماكادت الطبيبة ترى مسحوق الأعشاب التقليدية على الجرح حتى صاحت بلغة عربية فصحى:
- ما هذا ؟! إنكم تقتلون أنفسكم ، لماذا وضعت هذه الأوساخ على الجرح ؟
وبدأتْ تنظف الجرح بالمراهم الطبية ، وأنا وصديقي نشعر بحرج شديد وبعد أن انتهت من الجرح وضمدته قال لها صديقي:
- أرجوك تقبلي اعتذاري عن كلامي ذلك اليوم ، كان ماقلته سخيفا وسيئا لا أدري لماذا بدر مني ذلك الكلام المشين.
لكنها قالت وهي تمد له قارورة وكأنها لم تسمع كلامه :
- هذا الدواء تحافظ عليه ، وتضعه على الجرح كل يوم وتعود في الأسبوع القادم.
ولما خرجنا أقسم صديقي أن لايعود إليها أبدا ، حتى لو قطعت رجله.

المنجم

مع اكتشاف المنجم الجديد طرأ على المدينة نشاط اقتصادي مثير للإنتباه ، وذلك بفعل اتخاذ الدولة قرارا باقتصار اكتتاب العمال على أبناء المدينة من ذوي الخبرة ، ورغم أن سعيدا ولد وترعرع هنا فلم ينجح في الحصول على وظيفة مناسبة بالمنجم بسبب ضعف مستواه الدراسي ، وقد زار مرارا مدير الشركة المستغلة للمنجم محتجا على عدم إسناد عمل له ، لكن المدير كان دائم الاعتذار بحجة عدم إتقان سعيد لأي عمل إداري أو فني ، وعرض عليه العمل حفارا أو عاملا يدويا أو سائقا فرفض ، إنه ابن أسرة عريقة ولن يرضى لنفسه إلا عملا مرموقا ، لكن ما باليد حيلة ! والغريب عنده أن كثيرين ممن هم دونه في المستوى الاجتماعي قد حظوا بنوع من الرخاء منذ ظهور الشركة في المدينة ، أحمد بنى منـزلا جديدا وتزوج فتاة من عِلية القوم ، وأهل عبد الله أيضا زوجوا ابنتهم لعلي السائق بالشركة الذي طالما رفضوه ، ويبدو أن للمال سحرا قويا ، أما الأسر العريقة فقد دار الزمان عليها ولم يغن عنها تاريخها شيئا !
كان دائم التفكير ناقما ثائرا ، حتى واتته فرصة نادرة إذ سمع أن الشركة دخلت مأزقا كبيرا بفعل وجود عروق من الذهب في ربوة داخل المنجم يقع عليها ضريح قديـم مندرس المعالم ، وأن هناك مشاورات بين والي المدينة والشركة حول الطريقة المثلى للتخلص من الضريح وساكنه حتى يتم استخراج المعدن النفيس ، فانطلق سعيد مسرعا وهو يصيح عبر الشورع :
-      يريدون الاعتداء على حرمة جدي الولي الصالح ! لن يحدث ذلك أبدا .
وبسرعة البرق انتشر الخبر فاستدعاه الوالي للحضور إليه، لكنه طلب من الجندي حامل الرسالة أن يخبر الوالي بأنه لن يفاوض أبدا .
أخذ سعيد بندقيته القديمة واتخذ مكانه عند الضريح مقسما أنه سيطلق النار على من تسول له نفسه نبش قبر جده المبارك ، وجرت مساع لحل المشكلة سلميا حيث أقنعه البعض أن من المستحيل عليه تحدي الدولة ، وبالمقابل يمكن التوصل إلى حل توافقي ، وبالفعل تم عقد اجتماع ضم الوالي والعمدة ومدير المؤسسة وإمام المدينة بالإضافة إلى سعيد ، وقال الوالي والعمدة إن المصلحة العامة للمدينة فوق كل اعتبار ، ولا مناص من نقل الرُّفات  الموجودة في القبر ، وتكلم الإمام فأكد قولهما وقال إن نقل الموتى يجوز شرعا في إطار الضرورة القصوى ، ومن الممكن نبش القبر وجمع العظام في كفن ونقلها بكل احترام لتدفن في مكان آخر ، فكر سعيد مليا وقال إنه يوافق على هذا الحل لكن بشرط أن تدفع له الشركة تعويضا بمبلغ عشرة ملايين أوقية ، فغضب المدير وهم بالانسحاب من الاجتماع لكن سعيدا كسب تعاطف الوالي والإمام ، ونَهَرَ الوالي المدير قائلا :
- عشرة ملايين لا تساوي شيئا إذا قورنت بالمنافع التي ستجنونها من عروق الذهب الخالص الممتدة تحت الضريح وحوله ، ثم إن للموتى حرمة لا تقدر بثمن
قبل المدير دفع التعويض على مضض وسلم لسعيد شيكا بالمبلغ ، لكن سعيدا قال إنه يريد المبلغ نقدا لأنه لايثق في هذه الأوراق التي يسمونها " شيكات " إذ أنها مظنة للاحتيال والتلاعب ، أرسل المدير أحد معاونيه لإحضار المبلغ من عند محاسب الشركة ولم يلبث إلا قليلا حتى عاد بالملايين العشرة ، استلم سعيد نقوده واتفق مع الجماعة على أن يتم نبش القبر ونقل الرُّفات في اليوم الموالي
تجمع الناس بكثرة عند الضريح في الصباح الباكر مما اضطر الوالي إلى استدعاء الحرس لحفظ النظام ، وبدأ نبش القبر بوجود سعيد وإمام المدينة و وجهائها ، نزع العمال الرمال والصخور بهدوء واحترام تقتضيهما هيبة الموتى ، وظهر من تحت مجرفة أحد العمال بياض العظام البالية فتوقف العمل بالأدوات وأخذوا يزيلون التراب بالأيدي حتى لا تتكسر الرُّفات ، لكن حقيقة جديدة بدأت تتكشف وهي أن العظام عظام حصان ولا وجود لرُفات بشرية في الضريح ، تمت إزاحة عظام الحصان جانبا وسط استغراب الجميع وحفر العمال إلى عمق أبعد لكنهم لم يجدوا أي شيء ، وأمر الوالي بالبحث عن سعيد الذي اختفى فجأة من المكان ، ومن بين الجموع ارتفع صوت أستاذ التاريخ بثانوية المدينة وهو يقول :
- لا تستغربوا الأمر ، إن السكان القدماء للمنطقة كانوا يولون الحصان أهمية كبرى ويقيمون له الأضرحة مثله في ذلك مثل الانسان .