إعلان

شقاق الطين وصبوات المداد / للشاعر محمد ولد عبدي

جمعة, 08/18/2017 - 20:57

شقاق الطين

 

الآنَ آنَ لهذه الصحراء خَلعُ الطِّين
آنَ لها تَخِيطُ عباءةً أخرى
بحجم سمائنا القُزَحِية الثَّكْلَى
وطعم الجوع في أحلامنا القتلى
ولون الصَّمتِ فينا
حيث لا معنًى يُعزينا
ولا لغةٌ تُعلمنا الكلامْ
الآنَ آنَ لهذه الصحراء رَفْوُ الرّمل
آنَ لها تُوارِي عارَها البَشَرِيَ
منذُ الملحُ أغراها
فعاثَتْ في السِّباحِ
بها استحلت صمتَ من ماتوا
ومن عاشوا
ومن في السِّرِ تُسْكَنُ
باسم ما اختطَفَتْ يَمينٌ
شُلَّ ساعِدُها
وأَغْرَتْها الخَلاخِلْ.
وتَطَوَّقَ المَعنَى
فلا معنى سوَى سَقَطٍ
تمُنُّ به على مَن ماتَ يعبُدُهَا القبائلْ
مُتَجَرِدًا مما به يحيَى
تُقَلِّبُهُ البلاغةُ في الصِّفات
كما تشاءُ به القَوافلْ
أو تَشاءُ بِهِ
إذا ما ماتَ غاصِبُهُ
النوازلْ.
شحَّتِ الأسماءُ
فالأسماءُ وَسمٌ
ليس يملكُهُ سوى من يملك المعنَى
ولا معنَى لمن لا يملك المبنَى
ولا مبنَى بلا وطنٍ
ولا وطنٌ يُقامُ على سِبَاخٍ
أُعملتْ فيها المَعاوِلْ.
هذه الصَّحراءُ
كانت قبل طَفْحِ الطِّينِ
مُنْتَبذًا
يلوذُ بها الذين تعلقوا بالشمس
من ظلِّ الطُّغاةِ
ومن شِقاقِ الطِّين
مُغْتَسَلًا من الأَدْرَانِ
حين الشمسُ تَسكبُ سرَّها القُزَحيَّ
تَتَسِعُ الجهاتُ
ويَستفيقُ الماءُ
منعتِقًا من الطِّينِيِّ في الإنسانْ
كيفَ تَحَوَّلتْ وَحْلًا
تَحَنَّطَ فاستحالَ إلى سِباخٍ
تُسْتَرَقُ بها الرِّقابُ
من النُّصُوصِ أو اللُّصُوصْ
كأَنَ هذا الأفقَ مفقوءُالبصيرة
والجهاتُ عمىً
فلا حُلُمٌ يلوحُ على طريق الماء
إلا كان مَنْذورَ النُّكوصْ
كأّنَ أرواحَ الذين تحمَّلوا
وِزْرَ النِّخاسَةِ
منذُ جفَّ الماءُ
ما زالت تسافرُ في الشُّخوصْ
إِخالُ خلفَ الظّلِّ
غاراتٍ تُشَنُّ
أرَى بناتٍ قد سُبينَ
وهنَّ يَملأنَ الجرارَ من الغديرْ
أرى صبيًّا عُصِّبَتْ عيناهُ
مشدودًا براحلةٍ
تَقَطَّعُ أمُهُ حُزنا عليهِ
وحينَ شبَّ عن الدُّموعِ
بَكَى
فردَدَ شَجْوَهُ نايٌ يُقاسِمُهُ الحَنِينَ
ضُحًى
وراءَ قطيع سَيِدِهِ الضّريرْ
أرَى نصوصا تَستغيثُ
وقد تَقَطَّعَ حَبْلُها السرِّيُ
من فَرْطِ الذين تسَقَطوها
أينما مطرٌ يُشامْ
بها استَرقوا الأرضَ
باعوها على مرأَى القبور
ومسمعِ اليوم الأخيرْ
فأيُ حلْمٍ نستظلُ به
وقد ضاقتْ علينا هذه الصَّحراءُ
واتسعتْ شُقوقُ الطِّينِ
أيُّ غدٍ سنُسْلِمُه الذينَ سيولدون غَدًا
وقد ناغَوْا معًا
لعبوا معًا
حلموا معًا
ومعًا ستبقىَ هذه الصحراءُ مَنْفاهُمْ ومَجْلاهُم
فأيُ خطيئةٍ جاؤوا
لِنُلْبِسَهُمْ عباءةَ عارِنا الطِّينيِّ
نُورثَهُمْ خَطَايَانَا
وما نَسَجَ الذينَ بوَهْمِهم
خاطُوا خُطَانَا
حيثُتُنْتَحَلُ القصائدُ في البيوتْ
ولا بيوتَ
سوَى بُيوتِ العنكبوتْ
فمن ستُؤْوِيهِ البُيوتُ غدًا
إذا انْكَسَرَ العَمودُ
وبعثَرَ الإيقاعُ أَحْلاَفَ القَوافيِ
من سَتُؤوِيهِ القُبورُ
إذا تَثورُ الأرضُ
تَغرقُ في الزَّوابعِ والسَّوافي
من سيَعصِمُهُ التّأَولُ والتّقوّلُ والتّمحلُ والتّرحُّلُ
من ستُنْجيهِ الجُيوبُ
إذا يَهيجُ المَوْجُ
لا جبلٌ يَقيِ أحدًا
ولا سُفنٌ ولا مرسىَ
فهل غَدُنا سنُسْلِمُهُ لكفِّ الرِّيحِ
هل أرضٌ تُوحدنا تُفَرِقُنا؟
وهل حلمٌ يُعانقنا يُناقِضُنا؟
لنا في هذه الصَّحراء مُتَّسَعٌ
لنا فقرٌ يُطوِّقنا
لنا جهلٌ يُمزِّقنا
لنا قهرٌ يُؤرقنا
لماذا كُلَّمَا اتسعتْ
تضيقُ بنا؟
لماذا كُلَّمَا اتسعتْ
تضيقُ بنا؟

 

______

 

صبوات المداد

غَريمانِ يَعْتَصِرانِ فُؤادِي
ويَسْتَمْطِرانِ الرُّؤَى
كلما في انْخطافِي تقلبتُ في صَبواتِ مِدادِي:
قصيدةُ عشقٍ تُطَوِّحُنِي في المنافِي
وَوَجْهُ بلادِي
1

فَيا أيها الشعرُ
يا ضَرْبَةَ النَّردِ
يا مُتسحيلاً تَفَصَّدَ في ِرئَتِي
أيُنا بالمرايا اخْتْلىَ؟
أنتَ لما نَصَبْتَ الفِخاخَ
وأَغويْتَنِي بالتَّنصتِ للصَّمتِ؟
أم أنا لما اشْتَبَكْتُ بِحَبلِكَ
منذُ وداع المَشيمَةِ في صَرخَتي؟
كُنْ عطوفا قليلاً
وقَلِّبْ على جَمركَ المتلألئ حُلمي
فما زال في المُتقارب مُتَّسعٌ لغدٍ آخرٍ
لم يشِمْهُ “الخَليلْ”
غدٍ لم تُسَوِلْهُ لي لُغتِي في ” كتاب الرَّحيلْ”
أيها المستحيلْ
لاهِثٌ أنا خَلْفَ مَداكَ
أَهُشُّ القصيدَ “بلائي”
التي أثْخَنَتها المنافِي
وترفُضُ أن تَستقيلْ
فحتَى مَ أركضُ والعاطلون عن الحُلْمِ
في المَنْكِبِ/ التِيهِ
يَستنْفرونَ ورائي القبيلْ
تَشَرَّبتُ رَفْضِي
وما بيدي في غَدي غير هذا المجازْ
يُدَوْزِنُهُ القلْبُ في ” مَكَّ مُوسَ “*
أو النَّهاوَنْدِ
أو الجازْ
أو في مَقام الحجازْ
أَينما القلبُ وَلَّى وأَوْجَسَ في نفسهِ وَطنًا
سيكونُ لهذا الكَمانِ انْحِيازْ
فيا سُلَّما يَتَصَعَّدُ في الرُّوح، رُحماكَ،
أَورَثْتني غُربتينْ
جَرَّعتَنِي زمنينْ
أَشْرَبْتني وَطنينْ
سَلْطَنْتَنِي فَتَمايَلْتُ فوقَ سَماكَ
وأَسلمتَنِي للمقاماتِ تَعبثُ بِي
فامّحَيْتُ لأرسُمَ وجهَ بلادِي.

2

بلادي
أتَكفِي الولادةُ كيْ تَتَدَلَّلَ ياءُ الإِضافَةِ
حينَ أنادي بلادي ؟
أم العمرُ أسلمتُهُ لمنافِي تعشّقتُها حدَّ موتِيَ
أَعطَتْ كما البحرُ
عانقتُها فاتْحدتُ بها في مَقامِ القصيدةِ
تَكفِي لتُلبِسَ ياءَ الإضافةِ ثوبَ الحدادِ؟
بلادي
ويا حَسرةَ الرُّوحِ
بين الولادةِ والموتِ
لما التَّمائمُ نِيطَتْ عليَ
ولما سَيَسْتزلُ الشعراءُ الرثاءَ عليَ
يقولون:
” كان عليها ينادي،
بلادي
ويسكُنُه الزَّهوُ
كان يخيطُ مع الفجر – يرحمه الله-
أحلامَ من يولدون غدًا،
يَتَهجىَ عيونَ الصِّغارْ
وما خلَّفَ المُبلسونَ
طُهاةَ السَّرابِ من القَهرِ
والكذبِ المرِّ والعارْ،
ما رسموا في المناماتِ من خَرَفٍ
في المدارسِ من سَخَفٍ
شَيَّدوا من متارسَ بين النَّخيل وبين الجِرارْ
وأنذرَنا غَدَنا قبلَ موت الحمامْ
– الحمامُ تخطَّفَهُ النَّبذُ والجبذُ والكَلِمُ المستعارْ-
كان يرحمُهُ اللهُ …
كانْ…
وكانْ…”
ربما شاعرٌ واحدٌ يَتنكَّبُ دَربَ الخليلْ
ويكتبُ مرثيةً دمعُها بين سَطرٍ وسَطرٍ يَسيلْ
ربما وقعُ ذاكَ المساءِ ثقيلْ
ربما الياءُ عن رَسْمها المغربِي
قليلا تميلْ
فتَمتَدُ فيها الإِضافةُ من صَرخَة الطِّفلِ
عند وداعِ المَشيمةِ
حتى وداعِي تُجلِّلُنِي نجمةٌ وهلالٌ أصيلْ
بلادييييييييييييييييييي
فتَشتَبِكُ الياءُ بالقلبِ
بين المطارات،
أحملُها في الحقيبةِ
أسْكنُها في القصيدةِ
أُعلنُها أفقًا للذين غَدًا يولدون
أَعودُ إليها وبِيِ من مَواجدِها
ما تَميدُ به الأرضُ
ما يُقلقُ البحرَ وهو يُغالبُ ايقاعَهُ
فإذا دَمُها عالقٌ بالقبائلِ تَلعَقُهُ
بالجهاتِ، الفئاتِ، الحماةِ، الحفاةِ، القضاةِ، العراةِ …إلخْ
قد تُصابُ القصيدةُ بالجَلْطَةِ اللّغَويَةِ
لو أن مَسْخَ التَّحَيُّزِ ظَلَّ على رِسلِهِ يُنْتَسَخْ
لذا قالتِ الياءُ
وهي تُعانقنِي في المطارِ:
وداعًا
دخلتَ إلى معجمٍ مِنْ تَعتُّقِهِ في السُّقوطِ امتَسَخْ
إلى بَرْزَخٍ يَتَمرَّغُ في طينِهِ الآدَمِيِ،
تَقَدَّس في الدَّنس الوَثَنِيِ
تورَّمَ في جِلدِهِ وانْتَفَخْ
إلى منكبٍ رَعَوِيٍ تَجوسُ الأساطيرُ في أمسِهِ،
يومِهِ، غدِهِ .
وتُقْرَعُ فيه طبولُ القِطافْ
لذا لا يُضافْ.
فمن ذا سواك عليه يخاف؟
ومن ذَا سواكَ عليه يُنادِي
” بلادي”
ويَفضحُهُ القلبُ في صَبَواتِ المداد؟ِ

أبوظبي30/1/2013
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* شاعر وناقد من موريتانيا

* هو مصطلح موسيقي موريتاني، يطلق على الطريق ( الطاروق) البيضاء من مقام ” كَرْ ” أول المقامات الخمسة التي تقوم عليها الموسيقى الموريتانية.