إعلان

نواكشوط.. المياه التي لم تكن متوقعة!

أربعاء, 09/30/2020 - 23:30

 

في مطلع شهر يناير سنة 1951، وبعد أن انتصرت انواكشوط الفتِيَّة على الجفاف، يبدو أنها قد تلقت للتو الهزيمة على يد العدو الوحيد الذي لم تكن تتوقعه، ألا وهو مياه الفيضانات.

هنا، على خلفية هذا الأديم المُغبَرّ، حيث سبق لي أن أنَخْتُ جمالي، بالقرب من هذه الأزقة التي كنت أسير فيها قبل شهرين، تحت ظلال أشجار السَّنط المزهرة وأشجار النخيل الباسقة، أجد نفسي اليوم، وأنا في زورق ينزلق بي على طول بركة هائلة وسط الأنقاض. إنها مدينة أنواكشوط التي كانت ثمرة للكثير من الجهود، لم تعد أكثر من أنقاض نصف ذائبة.

في أوائل شهر نوفمبر 1950، وصلت أنباء مقلقة. كان فيضان نهر السنغال يتسع. وظهرت المياه التي تسربتْ عبر قنوات جوفية، فجأة في قيعان الأودية والأگواد، وبدأت تنتقل من سبخة إلى سبخة. وفي اليوم العاشر من نوفمبر، أغرقت المياه الزاحفة الطريق الرملي الجنوبي بين الكلم 55 والكلم 65. وفي مساء اليوم الموالي تقدمت المياه مسافة 12 كلم عبر منخفض آفطوط باتجاه أنواكشوط. وفي يوم 27 نوفمبر، وصلت المياه إلى PK 9 على مشارف أنواكشوط.

قام الحاكم "المقيم" الفرنسي على الفور بوضع خطته الدفاعية. وأقيمت على عجل الحواجز التي أنقذت الحامية العسكرية القديمة. كما أقيمت سدود أخرى يبلغ عرضها مترين، كنا نأمل منها حماية حُصيْن لگصر ومساكن الفرنسيين، وكنا نعتقد أننا بأمان.

لكن المياه قد واصلت مسيرتها الخفية، متحاشية العقبات عبر تسرب خفي تحت طبقات الأرض. وفجأة، تشكلت برك على السطح ما لبث أن تحولت إلى أحواض مائية ثم إلى بحيرة عملاقة.
كان الحاكم "المقيم" الفرنسي، وهو على متن سفينته المنكوبة، يصدر الأوامر بارتجال سدود صغيرة لطمر الممرات المائية، في محاولة يائسة منه للتغلب على كسل واستقالة الموريين البيظان.. لكن محاولته كانت جهدا ضائعا. ففي يوم 14 ديسمبر 1950، ضربت الكارثة مدينة أنواكشوط الفتية.

في ذلك اليوم، عند الفجر، ووسط الرياح الرملية والبرد الرطب في الصباح الباكر، تم إخلاء حُصين لگصر وموقع القيادة. وتم التخطيط لإقامة معسكر للمنكوبين على بعد 15 كلم نحو الشمال. وبعد بضعة أيام تم تقريب المعسكر ونصبه على جانب الكثيب الرملي بالقرب من المطار. وقد حل كوخ وبعض الخيام محل الإقامة الجميلة التي كان يستمتع فيها المقيم الفرنسي. لقد تحطمت السفينة، ولكن بفضل مثابرة وتبصر قائدها، فقد خرج الطاقم آمنًا وسليمًا مع جميع ممتلكاتهم المادية.

أما الفيضان فقد واصل مسيرته البطيئة والغامضة. وعند الكلم 12 إلى الشمال الغربي من أنواكشوط، تحولت المياه إلى سيل جارف قطع طريق كوبولاني. ومن خلال بعض الفجوات، بدأ يتدفق نحو سباخ الشمال الكبرى دون أن يعرف أحد أين سيتوقف بالضبط.

كان شيوخ المورييين البيظان يتذكرون في مسامراتهم بأن المياه قد وصلت في السابق، أيام طفولتهم إلى كثبان أم التونسي.

وبعد شهر من تحطم سفينة المقيم الفرنسي، ما تزال صور الأبراج الكبيرة في الحامية العسكرية القديمة التي تشبه نظيراتها في العصور الوسطى، تنعكس على صفحة المياه الراكدة من حولها.
أما البيوت، فرغم أنها كانت تبدو سليمة من بعيد، إلا أنها تظهر عند الاقتراب منها، أساسات متآكلة، وشقوقا غائرة وشرفات منخورة.

كان لگصر يذوب شيئا فشيئا. وكانت أعداد من أشجار السنط و"قرون لمحادَّه" الجميلة، تجثو على البحيرة التي لم يعد قاعها الطيني الرخو قادرا على حمل جذورها.

لكن هناك أراضٍ تثير شجاعة أولئك الذين يتولون زمام أمورها. ولعل أنواكشوط هي بلا شك واحدة من هذه الأراضي.

في الزورق الذي كان ينزلق بلا ضوضاء بين الأشجار المقلوبة والمنازل المتهدمة، كان المقيم الفرنسي هو وزوجته يتحدثان معي بكل ثقة عن المدينة الشابة أنواكشوط، وكيف أنهما سيُعيدان بناءها على أية حال، وأنها ستكون أجمل وأكبر من سابقتها المفقودة.

 

****

انواكشوط: قصة عاصمة في خطر! (2/4)

على عكس اللوحة البديعة التي رسمتها الرحالة الفرنسية أوديت دي بيگودو، للنواة الأولى الوديعة التي تشكلت حولها مدينة أنواكشوط، في نهاية الجزء الأول من هذه التدوينات، نجد جوزيف كيسيل (1898-1979)، وهو طيار حربي وروائي فرنسي، يصنف أنواكشوط في سردية له بعنوان "رياح الرمال"، نُشرت سنة 1929، على أنه أسوأ مكان على الساحل، يخضع لسيطرة 15 من المجندين السنغاليين يقودهم رقيب كورسيكي عجوز، ويتخذون من حصن لگصر قلعة لهم.

أما أنطوان دي سانت إكسبيري (1900-1944)، وهو طيار مدني وكاتب فرنسي، كان -من حين لآخر- يهبط في أنواكشوط، بطائرة الآيروبوستال Aéropostale، وهي الشركة التي كانت سلف الخطوط الجوية الفرنسية الحالية، فهو بالنسبة له، مجرد موقع صغير، معزول عن كل أشكال الحياة، كأنه جزيرة ضائعة في بحر من الرمال اللامتناهية.

ويمكن فهم خلفية الموقف الذي يعبر عنه الطيارون الفرنسيون بشيء من المبالغة، بسبب معاناتهم من جراء تقشف محطة أنواكشوط الصغيرة، وشظف ظروف الحياة فيها؛ وهم الذين اعتادوا التردد على أماكن مُسرفة في التمتع بملذات الحياة، عند مرورهم في المحطات الكبرى للمستعمرات مثل كازابلانكا، وأگادير، والداخلة، وداكار.

في تلك الحقبة الاستعمارية، كتبت صحيفة "الحياة الموريتانية" La Vie Mauritanienne، التي تصدر في سينلوي، واصفة أنواكشوط بأنها "مركز استقبال ومنتجع صحي، وذلك بفضل المبادرة السعيدة للسيد ماكس بيكمال وهو المقيم الفرنسي في أنواكشوط، بخصوص تجديد وتطوير وتحسين فندق العبورgîte d’étape في تلك المحطة، وهو الإنجاز الذي تم تدشينه في 18 مارس "1950". وتواصل الصحيفة معبرة عن ارتياحها "لأن هذا الإنجاز سيسمح للمسافرين على الطريق الإمبراطوري الأول بالحصول أخيرًا على إقامة لائقة ووجبات غذائية صحيحة" […]"فمن الآن فصاعدًا، سيُمكننا في أنواكشوط، النوم في سرير وتناول الطعام حسب الطلب"، كما ذكرت الصحيفة.

وعلى أية حال، فقد كانت أنواكشوط تستعد لقلب صفحة أخرى من تاريخها. بل قد يعتبر البعض بأن تاريخ أنواكشوط إنما بدأ قبل عامين فقط من إنشائها. وذلك في عام 1956، مع صدور القانون الإطاري الذي فتح الباب أمام إستقلال الأقاليم الفرنسية في ما وراء البحار، المعروف باسم قانون الوزير الفرنسي للمستعمرات غاستون دفير (1910-1986).

ومنذ ذلك الحين، أخذت فكرة نقل عاصمة الجمهورية الفتية من مدينة سينلوي السنغالية إلى موريتانيا، طريقها إلى الإدارة، وقد تم التفاوض عليها إلى أن صدر مرسوم النقل في 24 يوليو 1957.

وإذن، فقد تم اختيار أنواكشوط لتكون عاصمة لموريتانيا، وبالتالي، سيكون من الضروري القيام بما يلزم لتكون العاصمة قادرة على استقبال الإحتفالية بمناسبة استقلال البلاد في 28 نوفمبر 1960، والإنطلاق في مهامها الجديدة كمركز سياسي وإداري لصنع القرار.

ورغم بعض التردد بدايةً، في تحديد مكان إقامة المدينة الجديدة، من بين عدة مواقع مرجحة، كان من بينها على الخصوص الموقع القديم لحامية كوبولاني، في خليج بورتانديك غير بعيد من أجريدة على بعد 30 كم شمال غرب نواكشوط؛ إضافة إلى إمكانية اختيار إقامتها على شريط الكثبان الرملية على شاطئ البحر.

لكن، في النهاية، تم اتخاذ القرار بزرع العاصمة الموريتانية بجوار قرية لگصر القديمة، حيث أظهر إحصاء للسكان بعيد الفيضان العظيم عام 1950 حوالي 500 مسكنا يقطنها آنذاك حوالي 2000 نسمة.

كان تحمس الآباء المؤسسين للدولة الموريتانية، لمشروع تشييد العاصمة في أنواكشوط، لا يكاد يوصف في تلك الفترة. وبحسب رواية الرئيس الأستاذ المختار ولد داداه (1924-2003)، فقد عُقد اجتماع لمجلس الوزراء في 12 يونيو سنة 1957 "تحت الخيمة لتوضيح عزمنا الفوري والثابت من أجل نقل عاصمتنا إلى بلدنا، وتشييدها ولو على هذه الكثبان الرملية، حيث لم يكن يوجد في ذلك الوقت سوى عدد قليل من الشجيرات المُتقزِّمَة، نصفها مدفون تحت الرمال الناعمة".

كانت أنواكشوط في البداية عبارة عن كثبان رملية.. لكن هذه الكثبان الرملية كانت لها العديد من المزايا. فالبلدة تشكل محطة على الطريق الإمبراطوري رقم 1 بين سينلوي وأطار وتندوف. كما يعتبر المكان عمليا وقريبا من السنغال، وهو في نفس الوقت بعيد نسبيًا عن المغرب. كما تتيح البلدة انفتاحا مزدوجا على الساحل البحري وعلى المناطق الداخلية للبلاد.

بالإضافة إلى كل تلك المزايا، تبدو أنواكشوط منطقة محايدة، فهي نقطة توازن بين الأجزاء الشمالية والجنوبية من الأراضي الموريتانية.

ويذكر الحاكم الفرنسي لموريتانيا في تلك الفترة ألبير جان موراگ (1908-1976) في رسالة له بتاريخ 14 يونيو 1957، إلى المفوض السامي لأفريقيا الغربية الفرنسية في داكار، بأن أنواكشوط "تم اختياره من بين مزايا أخرى، لأنه ليس بعيدًا جدًا عن ضفة نهر السنغال، ولأن المزارعين السود لن يشعروا بالإهمال، وهو بالتالي اختيار موفق سيؤدي إلى تجنب تعكير صفو الرأي لدى العامة".

أما في الإرشيف الشخصي لبرتراند فيسار دي فوكو (1943-؟)، وهو مدرس وكاتب ودبلوماسي فرنسي، خدم في أنواكشوط في الستينيات، فيمكن قراءة ملاحظات حول المخطط الحضري لأنواكشوط، تسير في نفس الإتجاه "فمنطقة أنواكشوط، الواقعة على الحدود بين موريتانيا البيضاء والسوداء، تعد بمناخها المعتدل للغاية، موقعًا مناسبًا لعاصمة. وحتى وإن ظلت هذه المدينة على هامش الاتجاهات الاقتصادية الرئيسية، لكنها ستكون قريبة بما يكفي من مراكز التعدين لتتمكن من لعب دورها الريادي، بدون الانشغال عن المشاكل الريفية التي لاتزال هي الشغل الشاغل للسكان الموريتانيين. وهي على كل حال، ستكون عاصمة إدارية مثل نظيراتها في بلدان مختلفة، حتى ولو ظل تطورها محدودا". ثم تستدرك الوثيقة: "وإذا قُيّض لأنواكشوط مخطط حضري جيد التصميم، فقد يمكن لها أن تصبح مدينة جميلة تفتخر بها البلاد".

ولا شك أن مثل هذه الملاحظات تشي بحقيقة عقلية الإمبراطورية الفرنسية، التي كانت عالقة في نوع من وثنية علم الإثنولوجيا الاستعمارية، التي تحولت إلى أيديولوجيا تبنتها الدولة آنذاك، حيث تقسم مستعمراتها إلى ثلاث مجموعات كبرى: مستعمرات شمال إفريقيا، ومستعمرات إفريقيا جنوب الصحراء، ومستعمرات الهند الصينية. فهذه التقسيمات وإن كانت جغرافية فهي تستند إلى خلفية "عرقية" أو مظهرية مثل "السود" و"الموريين" و"الهنود الصينيين".

لكن تلك التقسيمات كانت تفتقر للمرونة والدقة، وتساهم بفعالية في تجسيد تصورات معينة عن نمط الهوية وإدراك الآخر، وبالتالي فهي تعمل حتمًا على صياغة وتحديد تصورات المستعمر عن الشعوب الأخرى وعن المناطق التي تخضع للاستعمار.

قاد هذا النوع من تقسيم الأقاليم الاستعمارية الأفريقية بين شمال إفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء إلى مأزق حقيقي. فهو قد خلق فراغًا جغرافيًا وهوِيَّاتيا في حالة موريتانيا، التي لم تكن تندرج بديهيا لا في الفئة الأولى (جغرافيا شمال إفريقيا)، ولا ضمن الفئة الثانية (الهوية "السوداء").

ولما كانت قوالب التصنيف هذه، التي تعتمد غالبًا على خرائط أثنولوجية واثنوغرافية جامدة (جغرافية واجتماعية)، مصممة غالبا بين أربعة جدران في عاصمة الإمبراطورية، فقد بقيت مجرد قوالب مصطنعة لا تعكس كثافة ومرونة الفوارق والحدود والمشتركات الاجتماعية والجغرافية للمناطق التي تتعلق بها.

لم يكن ذلك الهوس النسقي والتنظيمي لدى الإمبراطوريات الاستعمارية يتمتع بالمرونة اللازمة لفهم منطقة شاسعة - مثل موريتانيا- بشكل صحيح، وهي بلا شك منطقة ظلت تتمتع بتنوع ثقافي وعرقي وجغرافي كبير.

وهكذا فقد فُرضت تصنيفات رسمية تدعم مفهوم "شمال إفريقيا" مقابل "إفريقيا جنوب الصحراء" و مفهوم "الموريين" مقابل مفهوم "السود" بطريقة حدية ومُتعجرفة. وقد تبلورت مفاهيم إثنوغرافية متصلبة، ساهمت في تشكيل وتجسيد حدود الهوية من النواحي السوسيولوجية، والجغرافية والسياسية. وأدت تلك المفاهيم إلى إنشاء تصنيفات نمطية تحيل إلى تمثلات معينة لسلاسل هرمية، واجتماعية وجغرافية داخل المناطق التي كانت خاضعة للسلطة الإستعمارية.. وتلك قصة أخرى بلا شك...

ومهما يكن من أمر، فقد بُذلت جهود متواصلة لوضع تصور أولي وتصميم مخطط لمدينة أنواكشوط منذ صدور القرار بنقل عاصمة الدولة الموريتانية الوليدة من سينلوي بالسنغال، إليها. وهكذا، فقد تم تقديم ما لا يقل عن أربع مخططات عمرانية متتالية لمدينة أنواكشوط بين عامي 1957 و 1958.

في تلك الفترة، تم وضع معيارين أساسيين لبناء العاصمة هما السرعة والاقتصاد. أما مقتضى السرعة، فهو مفهوم بالنظر لوجود تهديد سياسي خارجي قوي، كانت تجسده آنذاك الأطماع المغربية بالتوسع لبسط نفوذ المملكة نحو الأراضي الموريتانية. لذا، فقد كان من الضروري العمل على تجسيد إنجاز مادي وعمراني ملموس على الأرض يكون غير قابل للطمس.

وإلى جانب وجاهة السعي للإسراع في تشييد العاصمة، بسبب المبررات السياسية الآنفة، فقد كانت هناك أيضًا دواع اقتصادية وجيهة تملي التحرك بسرعة في ذلك الإتجاه. وكان من الواضح أن الأمر يتعلق بالفرص الواعدة التي يتيحها استغلال المناجم الضخمة من المعادن المكتشفة حديثًا آنذاك في الأجزاء الشمالية من البلاد، والتي كانت تشمل على الخصوص، الحديد والنحاس والذهب.

----------------

نواكشوط: قصة عاصمة في خطر! (3/4)

 

أخيرًا، تم اتخاذ قرار تاريخي بنقل العاصمة الموريتانية من سينلوي بالسنغال إلى أنواكشوط. وتم التوقيع على مرسوم النقل بتاريخ 24 يوليو 1957. وقد بات من المؤكد الآن، بأن المدينة الوليدة سيتم تشييدها فوق هذه الكثبان الرملية العارية، في ربوع تغفو على سمفونية أمواج المحيط الهادر، ولا يطرق فيها المهاجع في سكون الليل سوى عُواء الذئاب وبنات آوى، وهي تجوب المكان بحثا عن فرائس أو بقايا طعام.

صحيح أنه "لا توجد هنا مصادر للطاقة، ولا مواد البناء، ولا حتى أيادٍ عاملة، ولكن، ورغم كل ذلك، هذا الميدان هو الذي سنخوض فيه المعركة".. هكذا يلخص الأستاذ المختار ولد داداه، أول رئيس للجمهورية، ملحمة بناء أنواكشوط، أو العاصمة التي ستخرج كالقوقعة من بين أضلاع الرمال.

ومن أجل تحاشي أي نزاع قد يحصل على ملكية الأرض المخصصة لإيواء العاصمة الجديدة، عرض مجلس الحكومة الموريتانية عددا من القطع الأرضية على المتضررين كتعويض لهم عن مصادرة الدولة لأراضيهم، كما كشفت عن ذلك الباحثة "أرميل شوبلين"، في أطروحتها للدكتوراه حول موضوع "بناء عواصم بين العالم العربي وأفريقيا السوداء: نموذجا أنواكشوط في موريتانيا والخرطوم في السودان-دراسة مقارنة"، التي قدمتها في جامعة السوربون سنة 2006، مستندة إلى وثائق من الإرشيف سبق أن اطلعت عليها الباحثة.

وفي هذا السياق، جرى توقيع محضر اتفاق في سينلوي في شهر نوفمبر 1958 بين السيد رينيه بيريز René Perez,، حافظ الملكية العقارية في سينلوي، وممثلين عن فخذ "إشوگانن" من قبيلة "تندغه"، كإجراء لتوثيق الحقوق العرفية التي تعود للمجموعة على الأراضي في أنواكشوط. وقد نص المحضر على أنه "لا توجد سيطرة فعلية على الأراضي، ولكن يتم تأكيد الحقوق العرفية للمجموعة بحكم المراسيم العقارية الصادرة بهذا الخصوص بتاريخ 20 مايو 1955 و10 يوليو 1956. وهكذا، وافق فخذ "إشوگانن" على عدم إبداء أي اعتراض على تسجيل تقطيع الأراضي التي ستشكل القطاع رقم 1 من العاصمة أنواكشوط، عندما تنتهي الآجال القانونية للطعون المتعلقة بتسجيل الملكية العقارية الجديدة.

وفي المقابل، فقد وعد مجلس الحكومة الموريتانية بتخصيص 100 قطعة أرضية في أنواكشوط، لفائدة من فقدوا أراضيهم لصالح إقامة العاصمة الجديدة. ولعل مجلس الحكومة قد استحضر عند قراره آنذاك، الحكم في نازلة أسبقية ملكية الأرض، الذي تذكر المصادر بأن العلامة أعمر ولد المختار النابغة القلاوي، المتوفى سنة 1848م، قد أصدره في نزاع يتعلق بمن يحق له الإشراف على مرفئ "بورتانديك"، مؤكدا أسبقية قبيلة تندغه بملكية أراضي الساحل البحري، وهو الحكم الذي لخصه بقوله المشهور:

واعلم أن الأرضَ أرضُ تنْدَغَا *** ومن أراد سبْقَهُم فقد بَغــَــى

وبعد اتخاذ كل هذه الإجراءات، فكل ما تبقى هو تعبئة الموارد المالية اللازمة لبناء أنواكشوط لتكون العاصمة الجديدة للدولة الفتية ومركز السلطة وصناعة القرار فيها.

وهكذا، تم توفير أول جزء من التمويل المطلوب وهو مبلغ 700 مليون فرنك غرب أفريقي، قُيِّد على حساب الحكومة الموريتانية، وقد أضيف إليه مبلغ آخر قدره 800 مليون فرنك غرب أفريقي، تمت تعبئته من طرف صندوق الاستثمار الاستعماري فيدس FIDES. باختصار، رصدت الدولة الفرنسية ميزانية قدرها 1.5 مليار فرنك غرب أفريقي لبناء مدينة أنواكشوط. وهو مبلغ متواضع بلا شك، ولكنه كان يعتبر آنذاك مبلغًا كبيرًا في نظر موريتانيا الفتية. وفي يوم 9 فبراير 1957، قدم الحاكم الإستعماري لموريتانيا ألبير لويس موراگ، رسميا الميزانية المخصصة لتشييد العاصمة أنواكشوط.

أما بعد تعبئة الموارد المالية، فلم يبق سوى التخطيط لإقامة العاصمة الجديدة. وقد بدأت بالفعل جهود حثيثة في اتجاه وضع الخطوط العريضة للمخططات العمرانية للمدينة الجديدة في نفس العام 1957.

في البداية، تم رسم أنواكشوط من طرف الحاكم الإستعماري موراگ نفسه. فقد قام آخر حاكم استعماري لموريتانيا، وهو شخص يبدو أنه كان مهتما بالتخطيط الحضري، بأول محاولة لوضع مخطط عمراني لمدينة أنواكشوط، رغم أنه لم يكن بعدُ قد عرف بالتحديد في بداية عام 1957، أين سيتم بناء العاصمة؟ هل ستكون على الشريط البحري الساحلي؟ أم في بلدة أجريْدة؟ أو في مكان آخر؟ وقد تم في ما بعد، تطوير ذلك المخطط الأولي من طرف مصالح الطبوغرافيا الاستعمارية المختصة.

لاحقا، تم استدعاء متخصصين في تخطيط المدن للمساعدة على تخطيط أنواكشوط. وهكذا، في مارس 1957 أجريت سلسلة مسوحات طبوغرافية، أفضت إلى إدراك أن الموقع الوحيد الممكن لبناء المدينة هو الهضبة الرملية الواقعة جنوب الكثيب الرملي الكبير الذي اتضح بأن رماله كانت شديدة الحركة. أما الشريط البحري الساحلي فكان يعاني من نفس العيب، فرماله متحركة أيضًا، علاوة على أنه ضيق جدًا. أما منطقة آفطوط الساحلي، وهو منخفض على طول سلسلة التلال الرملية، وكذلك بلدة لگصر وهي قرية المنشأ، فكانا مكانيين معرضيْن للفيضانات. بل أن جزء كبيرا من البلدة القديمة قد تم تدميره في ديسمبر 1950 بسبب فيضان نهر السنغال، رغم أنه يقع على بعد 200 كيلومتر إلى الجنوب من انواكشوط.

واستنادًا إلى الرسم الأولي الذي قام به الحاكم الإستعماري موراگ، فقد عكف العديد من مخططي المدن على بلورة مشروع تخطيط أنواكشوط. وسرعان ما تتابعت المخططات، وقد اشتركت مختلف الدوائر الفنية الحكومية في الجهود المبذولة، حتى أنه جرى التفكير -في وقت ما- في تنظيم مسابقة أفكار لتخطيط أنواكشوط، قبل أن يتم التخلي في النهاية عن الفكرة لأنها كانت تنطوي على خطر تأخير مراحل إقامة العاصمة ضمن الظروف الإستعجالية التي سبق أن تحدث عنها آنفا الجزء الثاني من هذه السلسلة.

في البداية، ظهر مخطط برنارد هيرش (1927-1988) في أبريل 1957 الذي كان مدير الأشغال العامة في موريتانيا. وقد صمم مخططًا ينسجم مع الموقع، لكن الرسم التخطيطي بقي أوليا للغاية، ولم يصل بعدُ إلى مستوى رسم يليق بمدينة. كان المخطط يُفصح عن طريق كبير يشق أنواكشوط من جهة الشرق نحو الغرب، يفصل المدينة إلى قسمين كبيرين. فمن جهة، كانت تبدو منطقة "المداين" وأسواقها ومسجدها، وفي الجهة الأخرى، كانت توجد العاصمة بما تمثله من رموز للسلطة، والحي الإداري بمبانيه العامة. وكان كل ذلك مستوحى من مخيلة الروح الاستعمارية للمدن القائمة على الفصل والتمييز بين سكانها.

وبعد شهر واحد فقط من ظهور مشروع هيرش، استدعى الحاكم العسكري كبير مهندسي الحكومة العامة لإفريقيا الغربية الفرنسية AOF في داكار، هنري سروتي-ماؤوري ((1899-1972، وكلفه باقتراح مشروع مخطط عمراني لأنواكشوط. وقد قام المهندس بتثبيت المحور الشرقي/ الغربي الذي يعبر المدينة بدون تغيير. واللافت للإنتباه هو أنه قد تم الإبقاء على ذلك المحور في جميع المخططات حتى المسودة النهائية، بغض النظر عن أصحابها. كما أصبح رسم المدينة معه، "أكثر دقة، مع استمرار الأخذ بعين الاعتبار التمايز بين المناطق، خاصة بين الجنوب الشعبي والأهلي والشمال الإستعماري والأبيض".

أما خلال صيف عام 1957، فقد قام لينفيل Lainville، وكان هو مهندس إدارة التخطيط الحضري والأشغال العامة في داكار، بدوره بتقديم مشروع إلى الحاكم الإستعماري؛ وكان هو المخطط الرابع لأنواكشوط. ولم يُدخل ذلك المخطط أي تغييرات كبيرة مقارنة بالمخططات السابقة. بل اقتصر على إضافة لماسات صغيرة ولكنها كانت أكثر دقة، حيث وفر امتدادات لـ "المداين" تجعلها قابلة للتوسع إلى الشمال. كما أن الفجوة بين شمال وجنوب العاصمة، أصبحت أقل وضوحًا في هذا المخطط. إضافة إلى أنه قام بتهذيب ملامح المدينة بأشكال معمارية مستوحاة من فن الأرابيسك، مثل الأقواس والقباب في بعض المباني، وهو ما منح المدينة انسجامًا أكثر وخفف من تجهمها.

أخيرًا، تم تعديل مخطط لينفيل بشكل طفيف من قبل مهندس معماري باريسي هو André Leconte أندريه لكونت ((1894-1966. وقد أبقى مخطط لكونت على تقسيم المدينة فعليًا إلى كيانين: في الجنوب الغربي، كانت المدينة الجديدة المسماة "العاصمة" التي تنقسم بدورها إلى جزأين؛ أما في الشمال الشرقي فتوجد البلدة القديمة التي احتفظت باسمها التاريخي "لگصر". وكان كلٌ من قطبي المدينة يبعد عن الآخر بحوالي كيلومترين، لكن ضمن مدينة واحدة، أعتُبر فيها "لگصر" تابعا يدور في فلك "العاصمة". ومع هذا الإجراء، حدث أول انقلاب في النظام الجيوسياسي المحلي في أنواكشوط.

بعد ذلك، تم إصدار النسخة النهائية من المخطط العمراني لأنواكشوط مع مقرر حضري بتاريخ 25 فبراير 1958. وتم اعتماده بتاريخ 11 يونيو 1958. وقد جرى رسم المخططات التنفيذية بالإضافة إلى عدد كبير من مخططات البناء الخاصة بمدينة أنواكشوط تحت إشراف أمانة التخطيط العمراني وبعثات الإسكان الإستعمارية (SMUH).

كان المخطط النهائي لأنواكشوط يتعلق بمدينة حديثة تخرج كالصدفة من بين رمال الشاطئ، مهيأة لكي يقطنها ثمانية آلاف نسمة، وقد جرى تخطيطها وتشييدها بناء على توقع أقصى هو أن يصل عدد سكانها إلى مائة ألف نسمة بحلول عام 1980.

كان المخطط العمراني الذي تم تبنيه بشكل نهائي في مارس 1959 يأخذ شكل الحرف اللاتيني "S" الذي يعتبر المحور الرئيسي للمدينة، والذي سيطلق عليه فيما بعد شارع عبد الناصر، في الوسط، حيث كان يشكل في الأصل مرجعية لتمييز الأحياء السكنية الشمالية والمركز الإداري والاقتصادي عن أحياء "المداين" إلى الجنوب. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك شارعان آخران متقاطعان كالصليب يشكلان العمود الفقري للعاصمة الجديدة.

وهكذا، يتضح بجلاء أن المخططات الخمس التي تأسست العاصمة أنواكشوط على ضوئها، كانت منذ البداية تعاني من صعوبة بالغة في إيجاد تصور ملائم، يعبر عن ملامح عامة منسجمة للمدينة الجديدة. لكن، هل كان بإمكان تلك المخططات أن تتنبأ بالتحديات الكبرى الديموغرافية والبيئية التي ستواجهها العاصمة في المستقبل؟

 

******

 

 

نصوص تمت ترجمتها وإعادة صياغتها من طرف محمد السالك ولد إبراهيم، مختارة من عدة مصادر ببليوغرافية متخصصة في تاريخ أنواكشوط: أوديت دي بيگودو؛ جان روبرت بيت؛ إبراهيما أبو صال؛ عبد الودود ولد الشيخ؛ أرميل شوبلين؛ جيروم تشينال؛ إيساگا دياجانا؛ فنسنت كوفمان؛ زكريا ولد أحمد سالم؛ جوانا لوكاس؛ كاميل إيفرار؛ إيف بيدرازيني؛ وأوريلي ثينوت.

الرحالة الفرنسية أوديت دي بيگودو
مقتطف من جريدة باريس داكار، 26 يناير 1951
ترجمة: محمد السالك ولد إبراهيم

الرحالة الفرنسية أوديت دي بيگودو