إعلان

النقد والنقاد الحسانيون

أحد, 04/25/2021 - 06:44

ممو الخراش

 

 

مفهوم النقد، في المخيلة الحسانية، يختلف جذريا عن مفهومه عربيا وعالميا، حيث يتخذ منحيين: أحدهما قدحي، هو ما نسميه ب"اشكاره"، والثاني مدحي "تقريظي" مجامل، يمكن أن نطلق عليه اسم "التِّنزال"، فالأول تحول دونه العصبيات القبلية، إذا اتجه لشعر شاعر غير مبتدئ، إذْ كل شاعر يمثل قبيلته، وجهته، ونحن أمة لا تميز بين الكاتب والمكتوب، وكل نقد عندنا للمكتوب تحامل على كاتبه، وحسد له، وليس الشعر العربي الفصيح استثناء من ذلك، أما منحى المجاملة و"التقريظ" فهو الغالب.

وليس من طبع أسلافنا طلب الموضوعية، ولا عقد محاكمات نقدية جادة، بل لا يلجأ الشاعر عندهم ل"الشَّكَّار" إلا في بداياته الشعرية، وبعد حصوله على تزكيات باستقامة الوزن يستقل، ويصبح شاعرا، وهنا تنتهي "اشكاره" ويستمر "التنزال" حتى بلوغ درجة الكمال والتسليم، فيلتحق بالمؤسسة الأدبية. (التنزال مصطلح نحتُّه من عالم المحظرة(.

 

ثمة مؤسسة أدبية مسيطرة، ومؤسطرة، ولدت قديما في صالونات فنية متنقلة، تمنح الشعراء شهادات الكفاءة، ويزدحم صغارهم عند بابها بحثا عن التزكيات (التنزال)، وربما تسلقوا إليها بانتزاع السجالات، لعلهم يحظون بكلمة تسير بها الركبان.

 

هؤلاء "النزاله" مجتمع ضيق جدا ومغلق، يقوم على التمادح، لكنهم مع ذلك يصنعون الذوق، فالحسن ما استحسنوه، والقبيح ما استقبحوه. والمسابقات الشعرية المعاصرة امتداد لتلك المجالس، واستعادة واعية وغير واعية لكل تلك الأشياء القديمة، من إنشاء، وإنشاد، وملبس، و"اتزيوين"... ثم إن الشاعر يمسي شاعرا، ويصبح ناقدا، بعد حصوله على عضوية المؤسسة، وما يحدث في المسابقات من "نقد" لا يخرج على المزج بين "اشكاره" و"التنزال"، مع إضافة "بهارات" ليست من صميم العملية الإبداعية، كالحضور المسرحي، والارتجال، و"الحكاية"... ما رأت عيناي أفظع من شاعر يعتلي منبرا حديثا ليلقي بطريقة قديمة!، فالمناسب أن يجلس، ويسدل عمامته.

الملاحظات، في جوهرها نقد عقلاني جزئي للمعاني، مع تعليقات من قبيل: "هاذ النص زين؛ لأنو ذكرني ابكذا..." ولا يرتفع الناقد بذلك لمستوى الحديث عن التناصات، بل يبقى في حدود التصوف الأدبي الرجعي (الجمال يدل على الجميل)، وهنا يكون النص "حسنا بغيره" لا بذاته، مع استخدام ضبابي لبعض المفاهيم المعاصرة كالصورة الشعرية، التي تذكر دائما دون تحديد أبعادها في الشعر الحساني، كما نجدهم متفقين على تمجيد الزخرفة البديعية، وتشجيع الصناعة التافهة...

ومما استحسنته من ملاحظتهم إعجابهم بالنص إذا طوع صاحبه مفردات قديمة لروحه المعاصرة (النفس التقليدي، كما يسميه د. المجاطي)، وكذلك اجتراحهم معجما أدبيا حسانيا خالصا، ومع ذلك يبقى نقدهم مجاملات، وسلفا جر نفعا عن طريق التمادح، وقد ينقلب تحاملا.

 

"النقاد" يمكن تقسيمهم قسمين:

_ رواد الصالونات الفنية والأدبية (وهم "الشكاره" و"النزاله"، وهم أيضا المؤسسة الأدبية الحاكمة) ومن صفاتهم أنهم رواة، ومؤرخو أدب، ومطلعون على مقامات الموسيقى، ومضطلعون بالإنشاد، ومنطلقهم الصالونات، وكلمتهم هي العليا؛ لأنهم صناع الذوق، لكنك حين تلقي السمع إلى "نقدهم" تجدهم يعولون كثيرا على الذوق، ويكثرون من المجاملة، ومرتبتهم لا يصل إليها إلا من ألم بشؤون القبائل، والجهات، وعرف كيف يحابي الجميع، ومن طبع الأنظمة السياسية أن تستثمر فيهم أيضا؛ لأنها تحتاجهم في مواسمها، وفي صرف النظر عن مساوئها، وقد طبعوا في الذاكرة الجمعية أن ما يمارسونه نقد، وأنهم نقاد، والحقيقة أنهم لجان تحكيم تنظر في الوزن والمعنى، انطلاقا من التقاليد المعروفة، وما ألفوا كتابا – على قلة منجزهم – إلا بدأوه بفصل خاص بالأوزان، وربما أضافوا إليها، وحتى لا أغمطهم حقهم، فقد استطاعوا - كما مر - تأسيس جهاز مصطلحي حساني، وإن لم ينضج بعد، وحافظ كثيرون منهم على صفاء الذوق، بينما شجع آخرون ألعابا شعرية تافهة ك"الترواغ"...

 - أما التيار الثاني فيمثله المدرسيون الذين يسعون لتطبيق المناهج النقدية، بأسسها المنهجية، على الشعر الحساني، بوصفها مناهج محايدة قابلة للتطبيق على كل نص، مع إمكان تذليلها، وهؤلاء قليلو الحظ من معرفة الموسيقى، وما يصاحبها من إنشاد، قليلو الرواية، وكثيرون منهم لا يستطيعون عد عشرة بحور وزنية (ابتوته)، وهم مجهولون في المجالس، لكنهم، في النهاية، هم الذين سيكتبون عن الشعر الحساني كتابة موضوعية، تنصفه، وتنصف الشعراء القدماء والمعاصرين. وما يزال خلو الجامعة من مقعد خاص بهذا الشعر من أهم معيقات التحديث.

ما اطلعت عليه - حتى الآن - من مؤلفات شعرية حسانية، لا يمكن وصفه بالكتب النقدية، فهو بعيد من ذلك، لكنه دواوين، وتاريخ أدب، وملاحظات، وكتب عروض (من الطريف أن لا كتاب حسانيا يخلو من "لبتيت ثمان حركات، التيدوم سبع، بو عمران سبع...) فهي كتب متناسخة، كأن بعضها يشرح بعضا!.

 

المسابقات الشعرية الحسانية

 

 شاركت في مسابقة البداع، أولى المسابقات الشعرية الحسانية، وسجلت نصا في البريد الصوتي، في انتظار الاتصال بي، إن هم أجازوا النص، وقبل ذلك علمت أنهم يعتمدون التصويت بالرسائل النصية، فأغلقت هاتفي، ولم يظهر اسمي، وتابعت الحلقات بعد ذلك، فازددت قناعة بموقفي، رغم لوم كثيرين.

ثم شاركت لاحقا في النسخة الأولى من مسابقة شاعر المليون شاعر، بقناة شنقيط، حين علمت أنهم لا يعتمدون التصويت، وفعلا حضرت لتقديم مشاركتي، وقبل بدء التسجيل تقدم إلي المشرفون بورقة لتوقيعها، فقلت: حفظكم الله، لقد وقعت قبل فترة على مواد مبهمة في مدرسة تكوين الأساتذة، وبان أنها مواد تمنع الإضراب، فضاعت الحقوق! قالوا: هذا تعهد يفيد أنك لن تنتقد اللجنة ولا نقدها! فقلت في نفسي: "ما أكثر الماضي يجيء غدا"! هم شعراء، وأنا شاعر (على الأقل بمعيار "اشكاره")، وقد حكمتهم؛ لأنهم يمثلون المؤسسة الأدبية الحاكمة، لا لأنهم نقاد، بيد أني لم أصل بعد لمستوى الخنوع الذي لا يكون لي فيه اعتراض! وقعت بسرعة، وألقيت النص، ولم أصغ لما يقولونه، فبالنسبة لي هذا آخر عهد لي بالمسابقة، ولا يهمني أغضبوا أم رضوا!.

 

ليس لدي موقف مسبق من المسابقات، إلا في ما يتعلق بتحكيم جماهير القبائل في الشعر، وهي العاجزة عن تحكيم ضمائرها في اختيار من يمثلها في مجالس الشعب!

 

للشعر فنيات هي أساس الحكم عليه، وهي السبيل الوحيد للموازنة الموضوعية بين الشعراء، وبين النصوص، دون الحاجة للجمهور.

 

أما مضمون "اشكاره والتنزال" في المسابقات، فقد سبق الحديث عنه في الحلقة السابقة، وتكملة لذلك أقول: إنهم يشجعون الألعاب اللغوية، ويوجهون الشعراء، من خلال ذلك، لمسارات أدبية تافهة. ولعل الجانب المضيء في تلك الحنادس يتلخص في التعريف بالمواهب الشابة، وتدريبها على اعتلاء المنابر، ولو كان المشرفون على المسابقات يرتقون بما فيها من "اشكاره والتنزال" للمنزلة التي يصير فيها نقدا حقيقيا، يجمع في كتاب بعد انتهاء المسابقة، لكان ذلك خيرا، ومساهمة جلى في تدوين المدونة الشعرية الحسانية وفي بلورة نقد حساني جاد.

 

وليست البرامج الأدبية، في عمومها، ببعيدة مما أسلفت، فقد تفرق دمها بين القبائل، منذ نشأتها، وكرست الجهوية، وسادها منطق لمعني ألمعك، ويبقى الفرق بينها محصورا في تفاوت قدرات المقدمين لا أكثر. وويل للشعر من اجتماع صحفي لامع، وفنان قدير، وأديب كبير، في برنامج مثير. قد يقال: إن هذا تضخم أنا، أو حسد، لا يهمني ذلك، ما دمت مؤمنا به، ومستعدا لنقاشه مع من شاء.

 

الصورة في الشعر الحساني

 

حظيت الصورة الشعرية بالكثير من البحث، عربيا، وغربيا، غير أنها في الفضاء الحساني ظلت غفلا، لا يذكرها "الشكارة"، ولا "النزالة"، ثم انتبهوا لها أخيرا، دون ضبط لمفهومها، فاستخدموها حصرا في سياق الإعجاب بالنص، والصورة لا تجلب للنص الجمال في حد ذاتها، بل في عمقها، واتساع أرجائها، وما تكشف عنه من سعة اطلاع، وبعد غور...

 

لا خلاف في أن الصور البيانية من أهم مكونات الصورة، وهذه الصور موجودة في جميع اللغات واللهجات، تضاف إليها عناصر حديثة منها الرمز والقناع، والأسطورة... وعناصر خاصة بكل عبقرية أدبية.

 

وفي فضائنا الحساني، نعتمد المكونات البيانية، ويمكن أن نضيف إليها الطرفة التي يبنى عليها النص، وهي تشبه ما يسمى في الموشحات الأندلسية بالخرجة، فتظهر لك بعض النصوص تسير في اتجاه جملة سيكون بها الختم، تحمل نوعا من الجدة والطرافة، وتكون أكثر ارتساما في ذهن المتلقي، وترددا على لسانه!

 

من منا يجهل "معود حراك آكوم = ماهو فاهم الأخبار"؟ التي صارت مثلا سائرا، وصار "حراك آكوم" هو كل شخص لا يعرف قيمة الشيء، ومنشأ ذلك هو الطرافة في التناول، وفي الإبهام، فضلا عن التركيز على "آكوم" بوصفه شاهدا على "الأخبار" التي جهلها من أحرقه!

ثم من منا يجهل "... حامد للقيوم = ال ما دايم طربي فيه = لعل حزمي فيه ايدوم" فالشاعر سلك مسلكا طريفا جدا، لا أعتقد أنه سبق إليه.

وانظر إلى إحساس ول اتفغ اعمر بالزمن:

"خاظ اعليك الصبح وول

وخاظ اعليك الزوال اكبيل

يا لطيف العصر اصل

ولات كدامك كون الليل"

 

إنه يتأمل الزمن، مستخدما معجم الرحيل، وكأنه يرمز بمحطات الوقت اليومية إلى محطات الإنسان العمرية، ويختمها بالليل، وما أدراك ما الليل!

 

الصورة - بالطبع - لا تختص بالخرجة، لكن كبار الأدباء الحسانيين يجتهدون عندها، مقتدين، ربما، بما استقر عليه النقد العربي القديم، من تقسيم النص إلى براعة استهلال، وحسن تخلص، وختام.

 

وإلى جانب الخرجة التي تكون أحيانا حلا لعقدة، وما لاحظناه فيها من طرافة هي عماد الصورة، يكون النقل الحي دون تعليق صورة:

"طاحت عيشه

منت المختار

فوك احشيشه

من فوك احمار"

 

فتصريح الشاعر باسم عيشه منمية لأبيها، وتفصيله للمشهد، جعل "الكاف" صورة كلية رغم خلوه من عناصر المجاز، فصمته عن التعليق صار تعليقا في حد ذاته، وصار المشهد الواقعي كناية عن حال اعترته، عبر عنها بالحقيقة، وأراد اللازم… إلى غير ذلك من العناصر التي يمكن استخراجها بالبحث في المدونة الحسانية.

 

وثمة جانب آخر مهم في الصورة هو خلفيتها، وانسجامها النفسي، وبهما تتميز الصورة، ويتقدم بعض الشعراء، ويتأخر بعض.

 

وبعد، فقد أهملت تجارب بعض المعاصرين المتعلقة بإسقاطات مظلية للمعجم الرومانسي، وللرمز الحديث على الشعر الحساني، فهي، في نظري، بقيت نشازا، ولم تستطع الاندماج، والتجديد لا يكون تجديدا إلا بشرطين: الفائدة، والاندماج.

 

الشعر الحساني الحديث

بعض ما يسميه الإعلام أدبا حسانيا حديثا، ليس من الحداثة في شيء، ولا ترتاح له النفوس، بمعيار الذوق القديم، ولا باستخدام الأدوات المعاصرة التي يفترض أن ما وصف بالحديث يمكن إخضاعه بسهولة لسلطانها، وسآخذ نموذجين، عنا لي، لا أعرف كاتبيهما، لكنني اخترتهما؛ لشهرتهما، "محكيين"، مصحوبين بموسيقى توحي بأنهما أنشدا في برنامج أدبي، في حضرة صحفي لامع، وفنان قدير (كالعادة(.

 

كرواحي والنسيم  

وأفراحي واتراجيم

تفكادي واتلاطيم

سيل الروح اف روحي

وانتي باطل يالريم

هي كاع افروحي

وانتي باط اغداي

واشرابي وابلوحي

وانتي راص الغايه

واعشايه واصبوحي

 

"الكرواح والنسيم" متقاربتان معجميا، إذا اعتبرنا "الكرواح" اسم مصدر، وإلا فهما بمعنى واحد، أما "اتلاطيم السيل" فصورة غامضة، ف"اتلاطيم - في الحسانية - يكون للشهبان"، أو بمعنى المصادفة، وفي العربية توصف به الأمواج (الالتطام)، لكن هذا الشعر حساني، و"سيل الروح" الذي يلتقي في الروح هو نص العجب العجاب.

 

صورة بنيت بكلمات متنافرة، لا رابط بينها، ولو قال: "... واتلاطيم @ نار الفكد اف روحي" لكان الخطب أسهل، مع العلم أن التعبير عن القلب بالروح ليس مشتهرا في هذا الباب.

 

ثم سيطر معجم الأكل على بقية النص، وهو معجم لا يناسب الغزل، ف"الأكل" في الحسانية يكون حقيقة بالفم، ومجازا بالعين، وكلا المعنيين نشاز هنا، وثمة جانب آخر، حين نقول: "بعدنو كالو بيه عزتو"، لكن لا نقول: "كالو بيه عزتو"؛ لذلك لا معنى لسيطرة هذا المعجم، الذي صارت به المرأة جفنة، وهذه الجفنة بحاجة لطاه خبير يرتب عناصرها، فيخرح "راص الغايه" من بين العناصر، ويرتبها ترتيبا زمنيا، يبدأ بالصبوح الذي هو مفتتح اليوم الجديد، ويكون آخرها "لبلوح"؛ لأنه زيادة في ذلك كله:

 

"وانتي راص الغايه

وانتي زاد اصبوحي

واغداي، واعشاي

واشرابي، وابلوحي

 

وقبل هذا النص كنت أظن "لبلوح" خاصا بالنساء، أما الصور فتشبيهية، خلفيتها النفسية لا تنتمي لعالم الورد.

 

يحسب لصاحب النص حشده صورا مختلفة، متناقضة في ما بينها، متآلفة في مستواها العميق، دون اعتماد التقرير والتبسيط، وإن فشل في توظيف ذلك، لكنه سعى سعيا محمودا.

             

جابر مذالي عت أعظام

والراص، وظهري، والتخمام

والحمه جابر، والزكام

والظيك، وكحه في ابليده

والجوف، وليعه من كدام

واللوره عادت يالصيده

ذالكال الطب.. وذالبي

 يا انتي راعي لا زيد

من كلة شوفك يانتي

  في الليل وكلة  ماتيده

 

شفاك الله وعافاك، هذه أعراض كورونا.

"ذالكال الطب" هل يمكن أن يكون الإنسان مصابا بآلام العظام، والصداع، وآلام الظهر، والحمى، والزكام، والربو، والسعال، والإسهال، ولا يشعر بذلك إلا حين يخبره الطبيب؟

 

"جابر" تفيد الاعتراف بالمرض، و"ذالكال الطب" تفيد التشكيك، والتشكيك لا يكون في الأعراض؛ لأنها محسوسة، وإنما يكون في التشخيص، ثم إن أمراض العشاق المذكورة في الغزل ليس من بينها الإسهال، وترتكز أساسا في القلب والجوانح، ويجملونها غالبا!

 

وقد لقي قيسا ليلى ولبنى، وكثير عزة، وجميل بثينة، وآلاف من الشعراء العشاق، ربهم، ولم يذكروا الإسهال في غزلهم، ولا أدري ما الذي يقصده صاحبنا ب"ليعه من كدام ووحده من لوره" فمحل "الليعات" القلب، ولا أعهده يكون في مؤخرة الإنسان مرة، وفي مقدمته مرة أخرى.

 

النص ضعيف النسج، بارد، مليء بالتكرار غير المفيد، والحشو، وكأنما بني بناء هندسيا ليعود آخره على أوله، وتلك إحدى جماليات الشعر الحساني، لكنها لا تكفي وحدها، ولا تجوز التضحية بغيرها لتحقيقها.

 

"من كلة شوفك يا انتي في الليل" لا أدري لم قيد الزمان بالليل، فهل يعني أنه يسكن معها في النهار، ويفترقان في الليل، أم أنه لا يريد لقاءها إلا في الليل؟.

 

 

"لمغنين، والحكايه"

 

كان "لمغني" قديما ذا مكانة في قومها، نظرا للحاجة الماسة إليه للذود عن حمى القبيلة، غير أن شيوع التكسب بين الشعراء هبط بتلك المكانة قليلا، حتى تحول "لمغني" إلى شخص معفو عنه، يقبل منه ما لا يقبل من غيره.

 

وعند قيام الدولة الحديثة صار جزءا من السهرة الرسمية، وأداة فعالة لتثبيت الواقع القائم، والدفاع بوعي أو بدونه عن الخنوع والترهل، ولم يظهر "لمغني" الملتزم إلا في استثناءات قليلة تؤكد القاعدة، واختلافه عن غيره يتعلق بخطه السياسي لا بمكانته في السهرة، كأي عنصر تزييني.

 

اليوم، حين تحضر ندوة شعرية تلاحظ أن غالبية الجمهور شعراء، وأنهم مدعوون للمشاركة، فتراهم يتململون، فإذا ألقى أحدهم نصه، غادر!، فضلا عن بعض التهامس، والسخرية، وقد عبث أحد كبار "لمغنين" بالمنبر وأدوات التسجيل والصوت، حين منعوه من مواصلة تشنيف أسماعنا ب"روائعه الخالدة"، وكان ذلك في أكبر تظاهرة أدبية محلية (مهرجان الأدب(.

 

أذكر مرة كنت في أمسية سياسية، وألقيت نصا دفاعا عن ذلك التوجه، وما إن نزلت عن المنبر، حتى استدعاني أحد الشعراء "النزالة" الذين دانت لهم الرقاب هنالك، وذهب بي إلى مكان قصي، وقال لي: هؤلاء الذين صفقوا لك جمهوري أنا، فقلت له: لم أفهم، فأعاد، فقلت: لم آت هنا أديبا، ولا باحثا عن تصفيق، أنا سياسي أبحث لحزبي عن الأصوات، فاضمن لي أصواتهم، ولعنة الله على المنابر!

 

لا سبيل لدخول الساحة الثقافية إلا تشكيل جماعة ضغط تتعامل بمبدأ "لمعني ألمعك"، تكون لهم صلة قوية بالإعلام، وبالوسط الفني، ولا بأس إن أهدوا لك ثواب أغنية، أو "طلعة".

 

وعلى ذكر الأغاني أقول إنه لا علاقة ل"لغن" ب"أزوان"، والدليل أنك لن تعرف بأذنك الحسانية الأصيلة أن "لبير" "يحكى" في مقام "لبياظ" إلا إذا تعلمت "لبير"، وتعلمت "لبياظ"، ووجدت من يخبرك بالعلاقة بينهما. هذه حيل وضعوها، وتواضعوا عليها، لكنها لا سند لها خارج ذلك الوضع والتواضع.

 

غير أنها تنبئ عن رغبة الأسلاف في التقعيد، وعن مركزية الوسط الفني في الثقافة الحسانية، وكون الجيل الجديد من "الشكارة والنزالة" امتدادا للجيل القديم (المؤسسة الأدبية)، وقد أشرت لذلك سابقا.

 

وعلى أساس الوضع والاتفاق قام "فن الحكاية"، واعتُرف رسميا به، وقد بدأ يتلاشى مع المنابر الحديثة، وما يصاحبها من وقوف وتفاعل، فحل الإلقاء محل "الحكاية" إلا في الحالات الاستثنائية التي تعبر عن الحنين إلى الماضي، (البرامج الأدبية مثلا(.

التبراع".. تلقيه ونقده

 

بدءا، "التبراع" أدب نسائي، نشأ في كنف اجتماعي ينظر للمرأة نظرة خاصة، بحيث لا يقبلها شاعرة، وتأكد ذلك إن كان الموضوع غزلا، ثم سمحوا لها ب"التبراع" (نصف نص)، واشترطوا ألا ينسب إلى قائلته، ولم تقتصر النساء فيه على موضوع الغزل، بل تجاوزنه إلى المديح والرثاء... غير أنه اليوم صار مشاعا، موقعا بأسماء "البراعات"، وله جمهور كبير، وحضور في مختلف الوسائط.

 

النقد لا يمكن أن يعتمد كليا على الذوق، ولا معنى لأن يسمى نقدا وصف النصوص بأنها موزونة، وأخطر من ذلك الاضطراب الكبير في استخدام المصطلحات العلمية والنقدية، كيف نسمي ناقدا من لم يجلس قط للتفكير في بلورة نظرية نقدية؟

 

لا يشترط في "التبراع" تكافؤ الوزن من حيث عدد السواكن والحركات، وقد يحصل التكافؤ بين المصراعين، والثابت فيه موسيقيا وجود قافية وروي موحدين. لكن أي محاولة نقدية جادة ينبغي أن تدرس نقطتين:

 

أ - شعرية "التبراع": وهذه تدرس من خلال تحديد الفنيات، وأهمها اللغة، والإيقاع، والموضوع، والأسلوب، والصورة.

بالنسبة للغة، لا يخفى الفرق بين اللغة الشعرية في جمالها، وفخامتها، واللغة المباشرة، أما الإيقاع فيستأنس فيه بالإيقاعات الشعرية الحسانية، دون إلزام التكافؤ بين المصراعين، والموضوع ينظر إليه في مقصديته وسموه، أما الأسلوب فبلاغي منه الخبري والإنشائي، والصورة الشعرية منها البلاغية، وهذه لا تختلف عن نظيرتها في الفصحى، وثمة وسائل تصويرية أخرى تعتمد على اللغة، وعلى عنصر التأثير النفسي فيها بما يقتضي النقل الصادق للشعور، وقد تبنى الصورة على طرفة، ونسميها صورة شعرية، أو أدبية، أو فنية، لتجمع البلاغة وغيرها...

 

ب - نسوية "التبراع": لا يكفي اليوم أن نقول إن "التبراع" أدب نسائي، بل لا بد أن ندرس جانب الفرادة النسوية فيه؛ لنكون قادرين على تمييز ما تكتبه امرأة مما يحتمل أن يكتبه رجل، سيما إذا علمنا أن بعضهم ينتج نصوصا نواتها "تبريعة" ويسمي ذلك تجديدا، مما يشجع الرجال على اقتحام هذا الفن.

 

لا بد من دراسة نفسية المرأة في ما تنتجه، مستفيدين في ذلك من كل أشكال التحليل والتأويل، ومما وصل إليه النقد النسوي، دون الارتهان للصراعات الجندرية.

 

قبل مقاربة تينك النقطتين يظل الحديث عن نقدٍ ل"التبراع" ضربا من العبث، لا يختلف في شيء عما يحدث في الشعر الحساني من "اشكاره والتنزال"، وهو شر لا مفر منه، في ظل وجود شعراء بحاجة إلى منابر، وإعلام لا يساهم في رفع الوعي الأدبي والثقافي، بقدر ما يبحث عن مشاهدة، وملء فراغ زمني.

 

 

قراءة "كاف":

"امريم منت اباه جات

لاعليات احذيان

وكامت تظحك مودعات

لعليات ال ملان"

 

جو النص يطغى عليه التحول بما في ذلك من تغيير للمكان وللزمان.

بدأ النص بالمسند إليه (امريم) مصغرا تصغير التحبيب، ومن معاني تقديم المسند تعجيل المسرة، ومن معاني التصريح باسم المحبوب الاعتزاز به، والتلذذ باسمه (منت اباه)؛ لتأكيد الاعتزاز بالمحبوب والتلذذ به.

 

المسند هو الفعل (جات) فاعله ضمير مستتر يفسره المسند (امريم).

الفعل (جات) لازم عدي بحرف الجر/ اللام، لينقل بذلك تأثيره إلى (اعليات)، وهؤلاء "لعليات" "احذيان" بمعنى أننا أمام مجموعة حاضرة في مكان حاضر لم يحدد، هذه المجموعة تتكون من نسوة بزيادة الشاعر، غير أن الشاعر أصر على الإتيان بكلمة "احذيان"؛ ليدلل على أن بينه وبينهن حدا.

 

المشهد الثاني (كامت تظحك) الفعل "كامت" فعل مساعد، يضفي على الحاضر صبغة الماضي، والفاعل هو الضمير العائد على امريم.

(مودعات لعليات ال ملان) هذا هو المشهد الثالث.

المشهد الأول: قدوم امريم، ولابد قبل القدوم من غياب؛ لأن الحاضر لا يقدم.
المشهد الثاني: ضحك امريم الذي ثبت عليه الشاعر الكاميرا؛ ليوعز لنا بأنه جعلها تتصدر الأحداث.

 

المشهد الثالث: دخول الشاعر في غربته/ غيابه، حتى لم يعد يرى إلا امريم، أين النسوة الأخريات؟ غبن، رحلن.. ذلك ما يوضحه استخدام اسم المفعول الذي يتقاطع مع البناء للمجهول في اقتضاء حذف الفاعل والإتيان بما ينوب عنه، ومن معاني ذلك الضنانة باسم فاعل الفعل؛ لوضوحه، ولأسباب أخرى متصلة بالصياغة الفنية.

 

النص إذن يمتد من حيث الزمان والمكان على النحو التالي:
 - ما قبل حضور امريم: المكان هنا غائب وكذا الزمان، كل شيء بالنسبة لمريم غائب يقابل هذا الغياب حضور النسوة، إلا أن ذكر اسم مريم قبل فعلها (جات) يدل على حضورها الذهني بالنسبة للشاعر.

"جات لاعليات": هنا نجد الحضور مكتوبا للفريقين.

"كامت تظحك": هذه ذروة الصراع بين الحضورين القديم (النسوة) والجديد (امريم).

"مودعات": هنا ينتصر الحضور الجديد / مريم.

الحضور والغيبة بالنسبة لامريم:

  • غائبة حسا حاضرة في ذهن الشاعر.
  • حاضرة حسا، وفعلا، لكن مع غيرها.
  • حاضرة وحدها.

بالنسبة للنسوة:

  •  حاضرات حسا. 
  • غائبات عن ذهن الشاعر، فقد تحدث عنهن بنوع من التجاهل، استخدم النكرة/ اعليات.
  • غائبات بعد تصدر امريم.
  • غائبات مطلقا.

بالنسبة للشاعر:

  • حاضر حسا غائب ذهنا قبل قدوم امريم.
  •  متفرج على الصراع.
  • غائب مغترب في عالمه.

 

الحضور يساوي الانتصار؛ وعليه تكون مريم انتصرت، لأنها الأكثر حضورا، فقد حضرت في ذهن الشاعر أولا وحضرت فعليا واستمر حضورها، أيضا انتصرت؛ لسيطرتها على وعي ولاوعي الشاعر، كانت فاعلا للأفعال الثلاثة الموجودة في النص، صرح باسمها وحدها ونسبت إلى أبيها صغرت تحبيبا...

لكأن الشاعر ذهب إلى صديقات لامريم يحتمل قدومها عليهن، فشغله عنهن فكره بها قبل حضورها وشغلته عند الحضور وبعده!

 

أما شكل النص فغالبية الألفاظ مستخدمة في حقيقتها، وانزاح بعض إلى المجاز، ولاحقت الأفعال حركة القص، وكثفتها، وقد خلا النص من الألفاظ الغريبة، وطغى عليه معجم السفر/ التحول، وكان هنالك ارتباط عضوي بين أجزاء النص، فخرج "كافا من لبير أكلال" لا يمكنك أن تقدم فيه ولا أن تؤخر، خاليا من محفزات البديع التافهة، موسيقاه سريعة سرعة أحداثه، استخدم المد بالألف مرات وذلك يناسب حالته النفسية.

 

النص غزلي نحا فيه صاحبه منحى العذرية، رغم نواسية التصريح. فكان من أحسن ما وقفت عليه - حتى الآن - من "آكواليل لبير".

 

صاحب النص هو الأديب المرحوم أحمدو سالم ول الداهي، أحد القلة الذين يتصرفون في "لبير" تصرف المالك في ملكه، وقد أخرت ذكره؛ لأنني أتعامل مع النص من موقف نصي يتغيا الخروج على سلطان الرضى المطلق عن القديم، وعن شعر أبناء العشيرة، والقبيلة، والجهة... ولو كانت قراءة سياقية، لنفذنا إليها من "تيمة" الرحيل، وما نعرفه من معلومات عن الشاعر، وبيئته.