إعلان

تيشيت: منارة الصحراء وجوهرة طريق القوافل

اثنين, 12/13/2021 - 02:15

محمد ناجي أحمدو

نشر في العدد الأول من يومية مدائن الصادرة عن مهرجان "مدائن التراث"

 

في نقطة تكاد تكون منتصف طريق القوافل بين حاضرتي الصحراء الكبرى الكبيرتين شنقيط وتمبكتو، شاء الشريف عبد المؤمن أن تكون تيشيت.

وشاء الله، ولا راد لمشيئته، أن تغدو منارة إشعاع وعلم وحضارة، ومبوأ صدق تجبى إليه خيرات القوافل من الشرق والغرب والجنوب والشمال.

الشريف القادم من الشمال، متسلحا بعلوم أحد أشهر رجالات الفضاء المغاربي - الأندلسي: القاضي عياض بن موسى السبتي، ربما لم يرقه المشروع السياسي والفكري لخلفاء حلفاء شيخه، فانتبذ من الصحراء مكانا قصيا.

وفّر القاضي عياض غطاء الشرعية لثورة مسلحة على خليفة بن تومرت، عبد المؤمن بن علي، مستندا إلى مشهور مذهب إمام دار الهجرة، الذي يقول إن البيعة تبقى للأسبق على اللاحقين، وتبعه أهالي حاضرة العدوة الدنيا طنجة، ولم تسمح مكانة الإمام اليحصبي واحترام العامة له، بأن يطال عنقه السيف الموحدي.

في هذا السياق ولدت فكرة انزياح الشريف الإدريسي إلى الجنوب، وقدما كانت الطموحات السياسية والهجرات، بحثا عن موطن عز وسيادة سببا في ميلاد دولتين منافيتين (نسبة إلى عبد مناف) في أقصى تخوم بلاد الإسلام، أولاهما الدولة الأموية الثانية التي أنشأها صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، وثانيتهما دولة الأدارسة، التي وقف خلفها جد الشريف عبد المؤمن إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المحض، بعد فشل ثورة أخويه محمد النفس الزكية وإبراهيم، والتي للصدفة لقيت دعما وتأييدا شرعيا من طرف إمام دار الهجرة نفسه، للسبب ذاته الذي دعم من أجله حفيد الإمام مالك علميا؛ وليس دمويا؛ القاضي عياض ثورة فلول المرابطين على أتباع مهدي الموحدين، وهو وجود البيعة السابقة في أعناق الرعية.

هو سياق ثقافي وتاريخي مترابط، فلم تعش المنطقة بمعناها العام انفصالا مطلقا، بل كان حلقات التاريخ مترابطة متداخلة.

بنى الشريف عبد المؤمن المسجد في سرة موريتانيا الحالية، وعقارب الزمان تتجاوز بقليل منتصف العشرية الرابعة من القرن الهجري السادس.

لم يكن وجود الشريف وتلامذته هو الحدث البشري الأول الذي يعرفه موقع المدينة التي تقع على شاطئ بحر الرمال الجنوبي، متكئة على صهوة الامتداد الشرقي لهضبة تكانت.

الحفريات تقول إن أسلافا لنا أقاموا هناك قبل خمسين قرنا، وأن أحفاد أولئك الأسلاف أكلوا من خيرات المكان، وكانوا يملكون تقاليد زراعية راسخة.

على قنة الجبل وحافة المفازة، أقام أهالي تيشيت مدينة - دولة، أو قل مدينة ذات استقلال ذاتي.

حوليات المدينة تحدثنا عن تقسيم الخطط بين الأهالي: خطة الإمامة والإقراء والإفتاء والقضاء.

كان بحر الصحراء يمور مورا، وكان طموح زعيم قبيلة او عريف حي بدوي يمكن أن يحيل حضارة مدينة عريقة خبر كان.

لكن أهالي تيشيت صبروا وصابروا، وحافظوا على كيان مدينتهم مدى قرون لم ينم فيها أهل مدائن التراث، إلا بعد أن يغلقون عليهم أسوار مدنهم، ويتحصنون باسم الله.

مرت القوافل ذاهبة آئبة بالتي شاء عبد المؤمن، الملح والذهب والكتب والجمال كانت عملات صعبة، يتبارى أهل المدينة في اقتنائها وتصريف فعل باع وشرى فيها.

وسلك ركب الحاج دروب المدينة، في رحلة قد تطول أعواما؛ لكنها ستروى غليل أرواح صديت إلى الجذور؛ إلى المنابع، إلى البلاد التي إليها تهوى أفئدة من الناس.

إجازات علماء الأمصار التي يمر بها الركب، وصولا إلى الحرمين، وجديد ونفيس الكتب هي مقتنيات الحاج التيشيتي، وهي زاد الركب في رحلة الأوبة وبلوغ المنى والمنة.

الناس في تيشيت على مر التاريخ، رغم أنهم شادوا المعمار الباقي يتحدى العاديات، ينظرون إلى الخالد دوما: الكتب والعلم والدين.

طالت منارة تيشيت؛ كما منارات شقائقها مدائن المجد في الغرب الإسلامي، بدءا من مراكش مرورا بوادان وشنقيط، وليس انتهاء بإيولاتن وتمبكتو.

استقطبت المدينة على مر العصور عشاقا ومحبين، اطمأنوا إليها وهفت قلوبهم لها، أهلا وأغرابا.

إضافة إلى شلال العلماء القادم في رحلة التواصل الأزلية بين شمال وجنوب الغرب الإسلامي، زار آخرون ينمون لمحيط مغاير تماما للسياق المحلي المدينة، ورحب بهم الروض.

فهذا فرناديز المؤرخ البرتغالي يزور المدينة ويكتب عنها أربعة عشر عاما فقط بعد سقوط غرناطة، آخر قلاع الإسلام في الأندلس.

على مر القرون الموالية، كانت منابر ومحابر تيشيت فاعلة في الفضاء الشنقيطي الممتد الإشعاع، وكان أهلها دررا في تاج الفخار الشنقيطي.

واليوم تأبى موريتانيا، المؤمنة بماضيها، المعتزة به في حاضرها، البانية عليه في رسمهما ملامح مستقبلها إلا أن تعود تيشيت كما كانت واسطة عقد صحراء الملثمين.