إعلان

مجالس الأدب لدى العرب

أربعاء, 12/29/2021 - 02:59

 

أحمد مولود اكاه

أحمد مولود اكاه

 

 

التاريخ الإسلامي - تراث - المجالس الأدبية

 

ظاهرة المجالس الأدبية عرفها العرب بشكل ظاهر منذ وقت باكر (شترستوك)

 

 

 

مثّل القول الأدبي محورا مهما داخل الثقافة العربية، وأسهم ذلك في صياغة عدد من الظواهر الاجتماعية والثقافية والأدبية، ومن بينها ظاهرة المجالس الأدبية التي عرفها العرب بشكل ظاهر منذ وقت باكر، وشكلت آلية حضارية لتعزيز تداول المادة الثقافية، وإيجاد فُسَح ترويحية من نوع خاص، إلى جانب رفد الروح الأدبية المجتمعية.

وهو ما عززه الإسلام حين وافى المجتمع العربي لدرجة تجهيز وإمداد المسجد النبوي بآليات إقامة الأنشطة الثقافية، وذلك كما في البخاري من أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يضع لحسّان منبرا في المسجد" لإلقاء الأشعار.

واهتم بها العرب جزءا من موروثهم غير مفوّتين فرصة الأمكنة العامة، بعدما عمروا بها بيوتهم وفضاءات الأحياء السكنية، كما استقبلتها قصور المُلك من أول وهلة حتى في النطاق غير الغربي حيث يحدثنا أقدم شعراء العرب امرؤ القيس عن مجالسته لقيصر ملك الروم بقوله:

ونادمتُ قصير في مُلكه .. فأوردني وركبتُ البَريدا

وذلك فضلا عن غيره من الشعراء الذين تفيد المصادر بمشاركاتهم في مجالس ملوك العرب من الغساسنة والمناذرة، وهو ما أسس لارتباط الأدب بقصور الملوك في الحياة العربية، وقد تحدثت بنت النعمان عن غايته وهدفه الأصيل المتمثل في "إدمان الشراب ومحادثة الرجال".

وضمن تشعب خريطة مجالس الأدب، حملت فعلا لواءها بيوتات الأعيان التي ارتبطت بها بشكل أكثر تنظيما كما هو الحال في مجلس سكينة بنت الحسين.

ولا يخفى أن المجالس الأدبية النسائية خطفت الأضواء في ما يتعلق بإسهامات العرب المختلفة في هذا المجال حيث نالت مجالس بنت الحسين وعقيلة بنت عقيل وليلى الأخيلية ولادة بنت المستكفي، أفضل مراتب الشهرة.

وكانت أولَ ما يتم الاستشهاد به عند طرق هذا الموضوع، حيث تشكل تلك الأسماء سلسلة تمرّ عبر حلقاتها الأولى بأم جندب في العصر الجاهلي وتستمر إلى صالون مي زيادة في القرن الماضي.

كما أنها تعبير عن تجذر هذه الظاهرة، نشأ على صعيد المجال التأليفي لون خاص من التصانيف؛ وقد شمل طائفة من الكتب والأمالي والموسوعات التي بسطت اهتمامها حول المجالس الأدبية واللغوية لتدوين ما دار فيها ورصده بدقة وشمول.

فظهرت تآليف "مجالس أبي مسلم، مجالس ثعلب، الأغاني للأصفهاني، نزهة الجليس ومنية الأديب والأنيس، أنس الفريد، مجالس العلماء"، فضلا عن "العمدة وخزانة والأدب، ومحاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني" وغيرها من الكتب.

وزخرت هذه الكتب بأخبار المجالس وسلطت عليها الضوء تتبعا لتوغل الأدب في الحياة العربية، ولما تمثّله المجالس من مكانة وأهمية وارتباط بالجميع حيث يورد ابن هشام في المغازي أنه "لم يكن من قريش فخذ إلا ولهم ناد معلوم في المسجد الحرام يجلسونه" وذلك إلى جانب المجالس الأخرى التي يعقدونها في بيوتهم وما حولها.

ويعبّر عن وجودها وحضورها ما ورد في قول زهير في أشعاره: "وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم، مجالس" واصفا قيمتها، كما نطالع من ناحية أخرى مثل هذا التوثيق الشعري للمجالس في قول المهلهل "واستبّ بعدك يا كُلَيب المجلس".

ولأنها ضرورة حياة في مفهوم الجميع، ما كان للبعض ممن هاموا على وجوههم فرادى، أن يقنَعوا بالاستغناء عنها، فقد عمدوا إلى توفيرها من خلال مجالسة النجوم، وذلك ما نلقاه عند جذيمة الأبرش الذي يقول "أنا أعظم من أن أنادم إلا الفرقدين، فكان يشرب كأسا ويصبّ لكلّ واحد منهما (الفرقدين) في الأرض كأسا".

كما نطل على المجالس من خلال أخبار أعيان العرب وساداتهم اللابثين في مقارِّهم، حين يفِد إليهم الناس ومن ذلك تصوير الأحنف لمجلس قيس بن عاصم "رأيتُه قاعدا بفناء داره، محتبيا بحمائل سيفه، يُحدِّثُ قومه" وبما أنه شخصية أدبية مصنف في شعرائهم فلا يمكن إلا أن تتصور رشْح القصيد في تلك الأنحاء.

ومن يتجول في كتب تاريخ الأدب كأنه يتجول بين تلك المجالس وسيفتح أمامه الباب ليعاين تفاصيلها وما يدور فيها فيتلهّى بمثل ما ورد من أنّ "الزبرقان والمخبل السعدي وعبدة بن الطيب وعمرو بن الأهتم تذاكروا في الشعر والشعراء وادعى كل منهم أسبقيته في الشعر وتحاكموا فقال الحكم أما عمرو فشعره برود يمانية تطوى وتنشر، وأما الزبرقان فكأنه رجل أتى جزورا قد نحرت فأخذ من أطايبها وخلطه بغيره، وأما المخبل فشعره شهب من الله يلقيها على من يشاء من عباده، وأما عبدة فشعره كمزادة أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء".

والواقع أنه عندما كانت ظِلال الإسلام تمتد رويدا رويدا داخل حياة المجتمع العربي، كانت عادة المجالس واضحة في نظام أوقاتهم، حيث نرصد أنه "لما توجه المشركون إلى بدر كان فتيان ممن تخلف عنهم سمارا يسمرون بذي طوى في القمر حتى يذهب الليل يتناشدون الأشعار ويتحدثون، فبينما هم كذلك ليلة إذ سمعوا صوتا قريبا منهم ولا يرون القائل رافعا صوته يتغنى" كان ذلك مقطعا من الحكاية وفي مقطع التكملة ما يفصح لنا بقوة عن تأصل هذا التقليد، حيث إنهم "خرجوا فزعين في طلب الصوت حتى جازوا الحجر فوجدوا مشيخة منهم جِلة سمارا فأخبروهم الخبر".

كما أن مما يشرح بعض عوامل انتشار المجالس قديما، ما أشار إليه بعض الدارسين من أن الشعر في أواخر العصر الجاهلي كاد يكون فنا يدرس ويتلقى، وهو الأمر الذي يعززالمجامع والمجالس التي يتم من خلالها ذلك.

وتعود فكرة المجالس الأدبية عند العرب، في جوهرها، عموما، إلى تلك الروح الأدبية المرهفة، والنفسية المحتفية بالأدب الذي تجد فيه الروعة والمتعة فتهبه التفاعل، وهو التعامل الذي وضعه الإسلام في موضع التقدير وأسنده وباركه، فتحدث الصحابي جابر بن عبد الله عن أكثر من 100 جلسة شهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، حيث قال "فكان أصحابه يتناشدون الأشعار في المسجد وأشياء من أمر الجاهلية".

وفي حديث آخر "كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتناشدون الأشعار، ويضحكون، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس يبتسم معهم"، كما حمل الصحابة مشعل الروح الأدبية وجاسوا بها أنى توجهوا ولو إلى الأماكن المقدسة، حيث نجد نقلا عن الشعبي: "رأيت رجالا من الصحابة -رضي الله عنهم- بفناء الكعبة يتناشدون الأشعار".

وكانت ظاهرة المجالس حاضرة بشكل عام في حياة مجتمع الصحابة، سواء على مستوى الاهتمام بالأدب وما يقود إليه من الحوارات الأدبية غير المبرمجة سلفا، أو عبر تلك المجالس الثابتة والتي تنظم بشكل مبرمج مثلما ما كان عند عبد الله بن عباس الذي كان يخصص مجلسا أسبوعيا للشعر ومجلسا أسبوعيا للأخبار وقد قال عمرو بن دينار "ما رأيت مجلسا قط أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس، للحلال والحرام وتفسير القرآن والشعر" كما كان هناك مجلس معروف للصحابي زيد بن ثابت.

وفي الإسلام، أثْرت حلقات العلم، أنماط الاجتماع وأشكال اللقاءات في الحياة العربية، واختلطت أمواج العلم الإسلامي فيها بالأدب ونصوصه، وكانت للأدباء واللغويين، الحلقات الخاصة بتخصصاتهم، وعلى تعاقب الدول الإسلامية حيث "اجتمع الكتاب عند أحمد بن إسرائيل فتذاكروا الماضين من الكتاب، فأجمعوا أن أكتب من كان في دولة بني العباس أحمد بن يوسف وإبراهيم بن العباس".

وفي العصر العباسي، كان العديد من معالم الحياة الثقافية في الحضارة الإسلامية، قد تشكلت وأخذت مواقعها ضمن المشهد العام، ومنها المجالس الأدبية التي منحها الخلفاء العباسيون عناية، وشكل الاهتمام الرسمي بها دافعا لانتشار أسلوبها ورواجها، بعد الطفرة التي شهدتها أيضا في العهد الأموي، فعرفت المجالس تطورا وكانت جزءا من أشهر جوانب الحياة في قصور الخلفاء.

يحدثنا الجاحظ في كتاب التاج في أخلاق الملوك أنه "كان أبو العباس في أول أيامه يظهر للندماء، ثم احتجب عنهم بعد سنة، أشار بذلك عليه أسيد بن عبد الله الخزاعي؛ وكان يطرب ويبتهج ويصيح من وراء الستارة: أحسنت والله! أعد هذا الصوت! فيعاد له مرارا. فيقول في كلها: أحسنت. وكانت فيه فضيلة لا تجدها في أحد؛ كان لا يحضره نديم ولا مغنٍ ولا مُلهٍ، فينصرف، إلا بصلةٍ أو كسوةٍ"، ما يشير إلى تجذر فكرة المجالس في طبيعة حياته، بل جاء عنه أنه "كان يعقب بين أصحابه ومسامريه"،  وفي كتاب البلدان لابن الفقيه (ت: 340هـ/951م) "وكان المنصور بعده (بعد السفاح) معنيّا بالأسمار والأخبار وأيّام العرب، يدني أهلها ويجيزهم عليها، فلم يبق شيء من الأسمار والأخبار إلّا حفظته طلبا للقربى منه، فظفرت بها".

ولم تكن مجالس القصور هي كل ما يمت بصلة لفكرة الصالونات الأدبية، خلال عهود دول الحضارة الإسلامية، فكان الشعراء يعقدونها لأنفسهم في ما بينهم، حيث نقف على مشهد من ذلك من خلال ما رواه أبو بكر الأنباري، عن أبيه، عن أحمد بن عُبَيْد حيث قال: اجتمع مسلم بن الوليد، وأَبُو نواس، وأبو الشيص، ودعبل في مجلس، فقالوا: لينشد كل منكم أجود ما قال من الشعر".

كما ينقل لنا الصولي بعض مشاهد مجالس الشعراء والأدباء في ما بينهم، ومن ذلك "حدّثني البحتري، قال: كنت في مجلس فيه علي بن الجهم؛ فتذاكرنا الشعراء المحدثين؛ فمرّ ذكر أشجع، فقال فيه علي: ربما أخلى. فلم أدر ما قال؛ وأنفت من سؤاله عن معناه. فانصرفت إلى منزلي فنظرت في شعر أشجع، فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولة خالية من المعاني واللفظ [فعلمت] أنه أراد ذلك وأن معناه أن الرامي إذا لم يصب من رشقه كله الغرض بشيء قيل أخلى فجعل ذلك قياسا".

كما يتضح أن هناك بعض المجالس التي يألفها أولئك الشعراء في تلك الفترة مثل ما دوّن من أن"مطيع بن إياس ويحيى بن زياد كانوا يجتمعون عند أبي الأصبغ المقين وكان له عدة جوار قيان، وكان فتيان الكوفة يألفون منزله وينفقون عنده، وكان هؤلاء الأدباء يغشون منزله".

وإلى جانب مشاركاتهم، كانت للأدباء أيضا إشاداتهم وتعليقاتهم التي تفضل بعض هذه المجالس على بعض وتحتفي ببعضها حيث نجد ابن حيان متحدثا عن مجلس ابن كيسان بقوله "ما رأيت مجلسا أجمع للفوائد والطرف والنتف من مجلس بن كيسان"، كما نظّروا لمجرى وطبيعة هذه المجالس فقال بشار بن برد "لا تجعلوا مجلسنا سمرا كله".

ولم تكد أخبار كبار الشعراء العرب، ومرويات نصوصهم، تنفصل عن المجالس وأخبارها، فالمتنبي تطل أخباره عبر مجلس سيف الدولة، ومنها إلى جانب غيرها تكوّن صداه الذي انتشر في الآفاق، فعبارة "مجلس سيف الدولة" دارجة في الكتب والمؤلفات حين تتحدث عنه وعن علاقته بالشعراء.

ومن ذلك هذا المقطع "تذاكرنا ليلة في مجلس سيف الدولة بميافارقين وهو معنا، فأنشد أحدنا لمولانا أيده الله شعرا له قد ألم فيه بمعنى لأبي تمام استحسنه مولانا أدام الله تأييده فاستجاده واستعاده، فقال أبو الطيب هذا يشبه قول أبي تمام، وأتى بالبيت المأخوذ منه المعنى، فقلنا قد سررنا لأبي تمام إذ عرفت شعره، فقال: أو يجوز للأديب ألا يعرف شعر أبي تمام، وهو أستاذ كل من قال الشعر بعده".

ولم يكن هذا المجلس ميدانا فقط لشعراء الرجال من أمثال أبي فراس وكُشاجِم -محمود بن الحسين الرملي (ت: 350هـ/961م)- والمتنبي، بل تضمن المشاركات النسائية في المجال الأدبي ومن ذلك ما يرويه صاحب المسالك عن جارية اسمها جيداء، قال "وحكي أنها كانت تنافث العلماء، وتطارح الشعراء، وكانت لا تزال تحضر مجلس سيف الدولة وراء ستر يسبل دونها، وهي بإزاء عين سيف الدولة، حيث ينظر فلما أقام أبو الطيب المتنبي لديه ماثلا، وأنشد في مدحه قائلا قصيدته التي أولها:

لكلّ امرئ من دهره ما تعوّدا .. وعادات سيف الدّولة الطّعن في العدا

اهتزت لها من وراء الستر طربا، وصنعت لحنا في قوله منها الطويل:

تركت السرى خلفي لمن قل ماله .. وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا

وقيدت نفسي في هواك محبة .. ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته .. وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

وزيادة على أن هذه المجالس عنصر مستقل داخل أنواع الأنشطة العامة، فإنها أيضا لمحوريتها ظلت تظهر في شكل فقرات داخل المجالس العلمية، فالمحدث الزُّهْرِيِّ كَانَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: هَاتُوا مِنْ أَشْعَارِكِمْ، هَاتُوا مِنْ حَدِيثِكُمْ ; فَإِنَّ الْأُذُنَ مَجَّاجَة، وهو أسلوب كان ابن عباس رائدا في مجاله حيث جاء عن ابن عباس أنه كَانَ إِذَا أَفَاضَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ قَالَ لِمَنْ عِنْدَهُ: أَحْمِضُوا بِنَا، أَيْ: خُوضُوا فِي الشِّعْرِ وَالْأَخْبَارِ.

كما كان للعلماء والفقهاء اهتمام بمواد الجلسات الأدبية وإنتاجات الشعراء، فهذا يحيى بن يحيى الليثي ترصده الكتب و"هو يكبر للصلاة على جنازة وأبيات مكتوبة على ظاهر كفه"، حيث كان سمع أبياتا من الشعر فاستلطفها وكتبها على يده وهو في طريقه للصلاة.


 

 

المصدر: مدونات الجزيرة