إعلان

أخبار "التود" تبقى في القول /يعقوب بن اليدالي

أحد, 11/20/2022 - 20:04

 

لكل مجتمع وسائله الترفيهية ورياضاته البدنية، وقد عرفت موريتانيا رياضة بدنية كانت متداولة إلى عهد قريب، وقد اختفت نهائياً من الملاعب إلا أنها بقيت في المجالس من خلال قطع شعرية يتجاذبها السامرون، ويطرب لها متذوقو الأدب الرفيع. وهي ما يعرف محليا بكز" التَّــودْ" أو"الغوراف"
لم يبق من هذه الرياضة اليوم إلا ذكريات لدى الشيوخ، - تشهد لها تشوهات في أصابع اليدين أو آثار جروح غائرة في الأطراف السفلية لبعض اللاعبين السابقين،- أو بعضُ الأمثلة الشعبية تسمعها من حين لآخر مثل : *"الكَـزْ وَاعِرْ"* و *"أَخْــبَارْ التـَّـودْ تـّبكَ في الكَودْ"* الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال مع تصحيف بسيط.
وبما أنني أنتمى إلى الجيل الذي حرم متعة الفرجة على هذه اللعبة، وبالأحرى المشاركة فيها، فقد فكرت في جمع واستنطاق بعض النصوص النادرة التي خلد فيها الشعراء لحظات الفوز، كما رسموا من خلالها لوحة لمباريات جمعتهم مع أكفاء أو أنداد لهم. وبعد مطالعتي لعينة من تلك النصوص، لفت انتباهي أن اللعبة كان يمارسها علية القوم، و أن المهارة في لعبها تعد ركنا من متممات الفتوة. يقول الشيخ *امحمد بن أحمد يورَ*:
نَعْرَفْ عَنْ كوْمِ مَا اتْخَــافْ *** مٍنْ حَدْ إِفْكزْ الكُـورَ
أنَعْرَفْ عَنْ حَدْ اكْبَيلْ شَافْ *** إِعْوَيناَتْ الـمَشْعُورَ
مَا يَنسَاهُــمْ وِالـكَافْ كَافْ *** امْـحَمّــَدْ لَـحْــمَدْ يُــورَ

تصنع "التـَّـودُ" أو "تاكَ" من نوع من النعل يسمى محلياً ب”الكِــرْكْ” فإن لم يوجد فمن جلد البقر ؛ وخصوصاً منطقة الجلد المحاذية للرقبة، وتقوم بخياطتها سيدة صناع اليد، ويتم حشوها بالقماش؛ ليسهل رميها ولا يزيد حجمها عن ملء اليد الواحدة. يقول الشاعر المجيد *محمذ بن والد البوميجي*:

ترن إذا ما أوجع الضرب جلدها *** دوي الغضا أحناه هز الشمائل

وهي تشبه كرة الغولف من حيث أن اللعب بها عصوي، فلابد لها من مقالي وهراوي، وتصنع تلك الصوالج محلياً من الشجر الأخضر؛ وخصوصاً من السيال "الطلح" أو من القتاد "أيروار".

إذا ضربوها بالصوالج حلقت *** كما حلق العصفور خوف الأجادل

والمقالي "غَوْرَافَ" هي عصي تُثقف وتُعقف رؤوسها، وقد تكون على شكل حرف اللام باللغة اللاتينية فتدعى محلياً ب "المرفك" لشبهها بمرفق الإنسان. وقد تُـلون بليِّ لحائها عليها ليًّا قطرياً ثم تحرق؛ فيسْود منها ما عدا ما تحت اللحاء.

وبالقشر منها نمـقت غـير أنها *** يسر الفتى إقبالها وصدورها

وتجدر الإشارة إلى أن قوة المقلاء معين على الفوز؛ لأنها قد تنكسر عن طريق ضرب عصي المنافسين، وفي ذلك يقول الشاعر النحرير واللاعب القدير *محمد بن أبن بن احميداً* الشقروى:

لعمرك ما مِـقلاءُ عُوِّدَ عُودُها *** جِذابَ الكُرينَ النور حينَ تعودُها
أقيمتْ ومُـلَّتْ واستُميلَ ثِقافُها *** على وجهة اليـمنى فــساغ عنودها
تخير من دوح من النبع غصنها *** فكانت كما يهوى ولا حـت سعــودها
وفي كل مـقلاء ملاقية لها *** كــوادح ضرب ما تخان عـهودها
يود المباري كسرها حسدا لها *** فكل فتى يأتي الكـرين حسودها

يتم تكوين الفرق من خلال الاعتماد على "الأعصار"؛ وهم الشباب الذين تجمعهم نفس الفئات العمرية، لكن الفريق الواحد قد يتكون من أكثر من عصر، فينضم إلى كل عصر "نعريته" وهم أعضاء العصر غير المواليين له في الترتيب التصاعدي للأعصار. وتتراوح أعمار اللاعبين عادة ما بين العشرين والثلاثين سنة، ولا يشترط في هذه اللعبة تساوى عدد أفراد الفريقين، بل إن المهارة واللياقة البدنية هما المعيار الوحيد في الفوز.

لهم كرة فيها التنازع بينهم *** وكل لمولى نصره غير خاذل

أما الملعب فيكون غير بعيد من البئر على جرعاء سهل ممتد منقطع الرمل، ودائماً تكون هنالك نقطة انطلاق معروفة يتمايز الفريقان حولها، كما أن للملعب حدود يتم ترسيمها قبل بداية اللعبة، أما وقتها المختار فبعد صلاة العصر مباشرة؛ يقول الشاعر *محمذ بن والد* الديماني البوميجي :
تراهم على ما كان كل عشية *** يخبون نحو القاع حول المناهل

تنطلق المباراة بعدما يأخذ كل لاعب موقعه، حيث تُنزى الكرة بين الفريقين ويتسابق اللاعبون إلى دهدهتها، وينتج عن ذلك التدافع على الكرة ما يطلقون عليه محلياً "غَرِتْلَ"، ولا يخرج الكرة من ذلك المأزق إلا اللاعب الماهر، يقول الشيخ الأديب *حمدا بن اتاه* في مرثيته للقاضي *أحمد سالم بن سيد محمد رحمه* الله:

وترى رجال الحـي خلف خيامهم ** كرة تفرق جمعــهم وتوحد
أنت الذي أخـرجتها من بينهم ** وترى نساء الحي وهي تزغرد
يندبن فـيك فتى العشيرة كلها ** وعلى ابن ديد مـن الـثناء يمجد …

فإذا ما ساعد الحظ "رَيَّاظَ" أحد الفريقين (وهو المدافع) بأن أوصل الكرة إلى"حَوَّاصْ فريقه" (وهو المهاجم) الذي دائما يكون في موقف التسلل الذي كان جائزاً في شرع من قبلنا ، فسيحاول الأخير بكل ما أوتي من قوة وسرعة، أن يصل بها إلى أبعد نقطة في حدود منافسيه، لكن الفريق الخصم لن يبقى متفرجاً، بل سيحاول صد الهجوم بجميع الطرق . وقد صور الأديب الشقروي *محمد بن أبنُ بن احميداً* هذه الملحمة بقوله:

إذا احرنجم النادي عليها وقسمت *** وناحت نواحيها وشـبّ وقــودها
وجالت بها الفتيان شرقاً ومغـرباً *** وقد خيف فيها أن تــجاز حدودها
وخان مدهـديها عـواص عصيه *** و أيديهم تشكو العصي جلودها
ترى الكـرة انقـادت إليها كأنها *** تقاد وما إن ثم شيء يـقودها

أما إذا فشل الأخير في صد *"الحَوَّاصْ"* عن طريقه، وواصل دهدهة الكرة في نفس الاتجاه، فإن الفوز قد تحقق من خلال تسجيل الهدف، و عندها تنتهي المباراة، عبر إطلاق حناجر الفريق الفائز بعبارة *" وَاهَ واغْلبناهَ"*
وتختزل المساجلة التالية، التي جرت منتصف القرن الماضي في ابير التورس بين "عصري" أولاد دمب وأولاد صمب، مشهد مباراة "الغوراف" كما أنها تتضمن أيضا بعض المصطلحات الهامة، المستعملة من طرف المحترفين، يقول الأديب *محمد باب ول محمذ باب* وهو من عصر أولاد دمب:

بِلْبَرْكَ وِالـشَّرْكَ تِنْعَدْ *** كَزَّازِتْ كَوْمِكْ يَلْنَقْـَصدْ
افلانْ افلانْ أُذَاكْ الحَدْ *** مَا فِــيهُمْ وَاحِدْ يَخْطـَاهَ
مَا كَامْ ابَيْــبِ وِرَشَّدْ *** وِالكُـفَّهْ تِنْــهَزْ أوَاهَ

فاجابه الشيخ الأديب  *كراي بن أحمد يوره* باسم عصر أولاد صمب قائلا:

لَحَّكْ لِلْعَصْرْ الِّ مَرْدُودْ *** زَيْنْ اغْنَاهْ الاَهُ مَجْحُوْد
عَنَّ مَا نِبْغُ كَـز الــَّتوْدْ *** كِـن وَكْـتنْ كَـزيْنَاهَ
يَامِسْ وِصَّـوَّبْنَ فِالكَوْدْ ***كـلْنَ وَاهَ وِاغْلَـبْنَاهَ
ألا رَشـَّـدْ فـيهَ مِنَّ حَدْ *** الاَ فِينَ كَـزازْ اخْطَاهَ
والغـَالِبْ لَكَـامْ ارَشَّدْ *** مَـاهِ شَـْينَ وِابـمَعْنَاهَ

ويكثر في هذه اللعبة التدافع، ويبدو أن الفريق الأكثر تحملاً والأقوى بدنياً، هو من يفوز في النهاية، خصوصاً إذا ما علمنا أن التدافع والعراك مسموح به مع غياب الحكم. يقول القاضى *أحمد سالم بن سيد محمد الأبهمي*:

أقسمت بالبضل و أم البركا *** وكل غار أدخلته علكا
بأن دون غلبنا لَعركا *** نطعنهم مخلوجة وسلكى

ويصف *الشيخ باب بن الشيخ سيديا* سير المباراة، ومسار الكرة في جميع الاتجاهات، وحالة التعب والأين، التي يصل إليها اللاعبون في آخر المباراة بقوله:

قد أبصر الناس قـاريها وباديـها *** ورائحوها وغاديها وساريها
لما تعطى المقالي بيـننا كرة *** إذ أشـأمت وهي في أقصى تدهديها
طوراً تسير على الوعساء هاوية *** عن الدلاء وخانـتها عراقيها
وتارة مـثل ما مر الجهــام ضحى *** وعاصف مــن رياح الصـيف حاديها
وراح أكـثرنا تيهاً قبيل وغى *** أقلنا بعد ما كان الوغى تيـها
ومل كل فـتى مقـلاءه وقلى **** كل الكماة على عــجز مقـاليها

ودائماً يكون فوز بعض الأعصار، مناسبة شعرية يفتخر فيها الغالبون، ويعتذر فيها المغلوبون ويتوعدون بعقاب يوم مفسد. يقول *محمد ول أبنُ* أيضا:

قد شاع في الناس بل في الصحف قد كتبا *** أن "المغافر" و "الأجواد" قد غلبا
ومن على غلبه الأقوام قـد شـهدت *** لم يستطع أبدا- لهواً ولا لعبا

ومن أطرف تلك السجالات ما جمع *الأديب محمد بن امو* مع *القاضي أحمد سالم بن سيد محمد* في نهاية مباراة جمعت عصري *الوسط* و *الهمال* في انيفرار. و رغم ما لهذه النصوص من قيمة فنية و أدبية إلا أنها صورت لنا أيضا - وبلغة المعلقين الرياضيين - مجريات المباراة و تقييمها من الناحية الفنية، ومهارات اللاعبين، وطريقة لعبهم ولبسهم... يقول *الأديب محمد بن امو* عصر الهمال:

الْكَزْ الِّ مِـنُّ مَعْــهُودْ *** أَمْـنَادمْ يَجْبَ شُورْ الْكَودْ
إِبْعَجلْتُ وِعُودْ التَّودْ *** يَغْلَبهَ وِامْكَـصَّفْ لِكْلامْ
وِلِّ خَاطِيهْ إدورْ إِكُودْ *** إِلْ شِ شَيْنْ أُكِشفَ وِحْرامْ
وَمَّ هُوَّ يَمْ اتْسَـوْحِيلْ *** وِتْكَافِ هُوَّ وِا سْتَكْبيلْ
فِاتَّودْ أُعِزِّتْ شِ ثَقِيلْ *** وِتْمَجْدِيلْ الزَّينْ ابْلِحْزَامْ
أُتِطْرَاكْ اللِّسْنَ وِاسْبِيلْ *** اللِّسْـنَ وِاخْـصَارِتْ لِكــْلامْ
فِتْنَ طَينَاهُمْ دَهْرْ اطْويلْ *** أُلاَ رَيْنَ فِيهُمْ كـَاعْ الهَامْ
أّمَّانَ يَكَـومْ الْفُتيانْ *** لُلالِ عَنْ فِيـكُمْ لَعْظَامْ
انْكُولِلكُمْ شِمْنْ الكِفَانْ *** إِنَسُّ فِاتَّودْ أُلِخْيَامْ

فأجابه القاضي الأديب *أحمد سالم بن سيد محمد* عن عصر الوسط بقوله:

لاَ يِنفِشْنَ فِاتَّودْ إِحْنَ *** كِلْ اعْشِيَّ بِيهَ رِحْنَ
أُهَاذِ عَادِتْنَ كِلْ إِسْنَ *** ألا نَعِرْفُ شِنْهِ عِلِّتهُمْ
يَكَانْ العِلَّ كِثْرِتْنَ *** وَللَّ عِلِّتهُمْ كِلِّتهُمْ
يَكُونْ الِّ لَجَاوْ أَثْنينْ *** مِنَّ وِعُودُ مِجْـتَمْعِينْ
كَمْ أَهيهْ إِصَّ مِنْـعكدينْ *** يَكِـبْظُوهَ مِنْ كِبْلتهُمْ
أُيِمْشُ بِـيهَ زَادْ إِلَينْ *** تَلْ الكَـودْ إِعْلَ عَجْلِتهُمْ
أُهَاذِى لِمـسَالَ دَلِّتْنَ *** عَنْ عِلـِّتْهُم مِنْ فَعْلِتهُمْ
مَا عِلُّتْهُمْ مِنْ كِثرِتْنَ *** ألَاَعِلـِّتْهُمْ مِنْ كِلِّتهُمْ

ونشير في ختام هذه القراء، إلى أن رياضة "التود" قد اختفت تدريجياً؛ بعدما ضرب الجفاف بجرانه، ونزح السكان إلى المناطق الحضرية، واكتشف اللاعبون البداة كرة القدم الحديثة وتفرجوا على مبارياتها في الشوارع والأزقة، فحلت كرة القدم شيئا فشيئا محل "التود" خصوصًا بعدما بدأ التلفزيون مطلع الثمانينات، نقل مباريات كأس العالم.