إعلان

في الحفرة رأيتُ حيوات كثيرة وكنتُ أبحثُ عن السماء

أحد, 09/17/2017 - 13:04

رافي ميناس المصدر: "النهار"
حين كنتُ طفلاً، صَنعَ لي جدّي عدّة للحفر. كنتُ مهووساً بالحفر ونكش التراب، بإحساس التراب وهو يصافحني ويملأ دهاليز أنفي بعطره العتيق جداً. حين كنتُ طفلاً، كان اعتقادي أنّ الحفر عميقاً في جسد الأرض سيُظهر لي السماء! كنتُ انتظر تلك البقعة الزرقاء وعليها "رتوش" الغيم. حفرتُ طويلاً، لكنّي لم أجد سوى جثّة حلزون وأحجار بأشكالٍ وأحجامٍ وألوانٍ مختلفة. صادفتُ ديداناً ونملاً. رأيتُ حيوات كثيرة، لكنّي لم أرَ السماء في آخر الحفرة! 

حين كبرت، عرفت أنه إن لم أصل للسماء تلك، فيكفي أني حفرت. والأهم أني رأيت واختبرت تلك الحيوات.

حين كنتُ طفلاً، بحثتُ عن السماء في نهاية الحفرة، لكن لا نهايات للحفر. نهاية الحفرة هي بداية لشيء آخر! مثلاً الآبار التي كانت تُحفر في مدينتي أيام الحرب بحثاً عن الماء، كانت نهايات الحفر هي بدايات لطوابير طويلة من الذلّ والإهانة. طوابير طويلة لأطفال يحملون الأوعية والغالونات من أجل الحياة.

في الخليج، نهاية الحفرة هي بداية لنبع من الدولارات! ونهاية الحفرة في المقبرة، هي نهاية حكاية جسد، حكاية إنسان، مسكنٌ جديد له ـ أو مائدة ـ لديدان ستبدأ بالتهامه بكل وقاحة! نهاية الحفرة عند المزارع هي بداية للبذرة، لتبحث عن طريق حياتها في الظلام.

حين كنتُ طفلاً، لم أدرك كل هذه الفلسفات السخيفة التي أتفوه بها الآن... كنتُ أبحث عن السماء فحسب!

***

كان القصف عنيفاً علينا، لا أدرِ من يقصف وما هي نوع القذائف وأي بلد قد صنعها. كل الذي كان يدورُ في رأسي أن شظية صغيرة كافية لتصيبني بالشلل أو تضيف لصورتي شريطاً أسود. كنت أركض كالنمر، أحتمي بالأنقاض أو الجدران التي مازالت واقفة ـ حتى الآن ـ رأيتُ من موقعي حفرة عميقة تشكّلت جرّاء احتضان الأرض لصاروخ ثقيل. ركضتُ بسرعة من مكاني وارتميت في جوفها. إلى تلك اللحظة كنتُ احتسب نفسي ذكيّاً وآمناً وأن الحفرة هذه ستكون ملجأي. إلى تلك اللحظة كنت احتسب نفسي أني في حفرة!

استيقظتُ لأجد نفسي في دهليزٍ طويل جداً لا نهاية له. استويت واقفاً كأن وزني صفر. أخذتُ أمشي وأمشي وما زلت مكاني. لا جديد! أنا في دهليزٍ أبيض شبه شفاف، لكن ما أشعر به أنّ هذا المكان ينطلق بسرعة خيالية كأني في مركبة فضائية.

أخذت أنظر إلى الخارج لعلّني أعرف أين أنا. رأيت ما يشبه الدهليز الذي أنا فيه، كان هناك الملايين منه. سألت نفسي، هل أنا في الفضاء وما هذا المكان اللامتناهي الذي أنا فيه؟ بعدها شعرت كأني في غلافٍ جوي جديد أو أن سائلاً بطعم الحامض أخذ يلفّ مركبتي هذه. كان يتراءى إلى سمعي صراخ الذين في تلك الدهاليز. كانوا يذوبون. سرعان ما تلاشى هذا الشعور الحامضي وتلاشت معه الأصوات، لأندفع بعدها بقوة عبر نفقٍ، شعرتُ بضيقه وأخذت أسبح فيه. ضاق النفق أكثر ومعه عادت أصوات الذين لم يعد في استطاعتهم الاستمرار. صراخ وعويل وموت..! ضاق الدرب أكثر. فجأة سمعت أصواتاً تصرخ:

"قوات الجهاز المناعي تهاجمنا... إنها تخطئ هدفها... نحن لسنا من الأعداء... نحن لسنا من الأعداء...".

كنت اسمع كيف تسقط الضحايا جراء جهل قوات الجهاز المناعي. بالحقيقة كنت أصلّي ألا أكون ضمن تلك الضربات الخاطئة. ولكن لمع برأسي سؤال: لِمَ يخطئون بنا؟ ألا يعرفوننا؟ أيعقل أن نموت على أيدي أخوتنا؟

علِمت أن الآلاف سقطوا. نحن الآلاف من المركبات ـ الدهاليز ـ أخذ يسبح من تبقى منّا، ظهر أمامنا نفقان، سألت نفسي ما الفرق بينهما؟ دخلت مع آلاف إلى أحدهما ـ من دون قرارٍ مني ـ بينما اختار الآخرون الذهاب عبر ذاك النفق. نفقنا هذا مليئ بالأعشاب، شعرت بالشعيرات تداعب مركبتي، لكن بعض المركبات علقت بالشعيرات وتحطمت. يا إلهي، ما هذه الجحيم التي أنا فيها؟

فجأة، شعرتُ بشيء ارتطم في مركبتي، التصق بها، وأخذ الدهليز يشعّ كإصبع أورانيوم. ثم انطلق بقوة هائلة، أكثر نشاطاً من ذي قبل!

لا أعرف من يقود مركبتي.. وكيف تسير وحدها.. ما هي تلك الجاذبية التي تسحبها بهذا الشكل! بدأت الرؤية تتضح. من ملايين المركبات لم يبقَ الآن سوى العشرات. هل يعقل أنّ الجميع مات؟ صرخت: أين نتجه يا رفاق! لم يجبني أحد.

نظرتُ أمامي وإذ كرة ضخمة مغطاة بغشاء على شكل تيجان. كرة رهيبة مهيبة. ظننتُ أنها النهاية، لكن اندفعت المركبة بقوة واخترقت تلك التيجان لنواجه غلافاً شفافاً. دفنتُ وجهي في يديّ لأن الاصطدام سيكون مدمراً هذه المرة. إلا أن المركبة هدأت والتصقت بهدوءٍ وساد صمت عميق. رفعتُ وجهي. الكل واقفٌ في دهليزه ينتظر الدخول. باستطاعتي عد من تبقى على أصابع يدي. كيف لي أن وصلت إلى هنا.. ما هو الامتياز الذي لدي؟

أخذ شيء يلامس المركبات ـ الدهاليز ـ وبدأ الهتاف والصراخ يتعالى كأننا في حلبة سباق للخيول. وإذ بمركبتي تخترق الجدار وتدخل، وسرعان ما ارتطمت بجدارٍ آخر سائل. سمعت باقي المركبات تشتمني وتلعنني، إلا أن الحرّاس أخذوا يسكبون عليها مادة كيميائية تصلب على أثرها الجدار وأخذ بالذوبان! شعرت بأن المركبة انطفأت الآن وأخذت تمشي آلياً عبر الجدار السائل الذي أحاط المركبة بالكامل وبلعها.

بين ملايين ملايين المركبات وصلت مركبتي فقط إلى هذا التجويف الرهيب، إلى داخل هذه الكرة. إنها أشبه بالكون. ألم يحن موعد خروجي من هذا الدهيز؟ أعتقد أني أمضيت أسابيع هنا.. لا بد أني ارتطمت بحجرٍ في تلك الحفرة ودخلت في غيبوبة طويلة... يا إلهي، لا! أنا داخل نطفة وهأنذا داخل البويضة!

بعد الانقسامات .. قفزتُ عبر الصبغيات، وبقفزتي هذه تحدد الجنس .. أنثى!

***

حين كنتُ طفلة، صَنعَ لي جدّي عدّة للحفر. كنتُ مهووسة بالحفر ونكش التراب، بإحساس التراب وهو يصافحني ويملأ دهاليز أنفي بعطره العتيق جداً. حين كنتُ طفلة، كان اعتقادي أنّ الحفر عميقاً في جسد الأرض سيُظهر لي السماء في نهاية الحفرة.

لكن لِمَ تراودني هذه الفكرة دوماً؟