إعلان

"موسم الهجرة إلى......." / أدي آدب

سبت, 09/15/2018 - 12:12

 

من وراء هذا العنوان المَبْتُور،الذي أسْتلْهِمُه من الروائي السوداني الكبير،فَقيدِ الأدب العالمي:الطيب صالح،يَطُلُّ عليَّ هذا العِمْلاقُ مِنْ برْزَخِه الغَيْبِي، مُتَسَائلاً: مَوْسِم الهجْرَة إلَى ماذا؟
فأُجِيبُه:رَحِمَكَ اللهُ لقدْ كانت الهجْرةُ - يوْمَ وضَعْتَ عنوانَ رِوايَتِكَ الرائعة - لَهَا بَوْصَلة تَعْرِفُ اتِّجَاهَهَا المُناسبَ، حَسَبَ اختلافِ المَواسِم، فكتبْتَ عنْ "موْسم الهجرة إلى الشمال"، ولكنَّ أجْدادَك الشناقطةَ، سُلالة التَّرَحُلِ الأزَلِي الأبَدِي، الذين ترَكُوا لَكَ منَ أنْجَبَكَ في السُّودان، خلال موسم هجرتهم إلى الشرْق، حَجًّا للبيْتِ الحَرَام، قد كانتْ –ومازالتْ – لهجراتِهم مواسمُ واتجاهاتٌ، لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى.
فقديمًا كانُوا يَمُوجُونَ دَاخِلَ فَضائهمْ المَفْتوح، في كُلِّ اتجاهاتِ الجغْرافيا، ومَهَابِّ الرياحِ، ومَساقِطِ الغيْثِ، ومَنابِتِ الكَلَأ، والمَزَارِعِ، ومَنَاهِلِ الماء، ومَعاقِلِ الأمْنِ، ومَحَاضِرِ العِلْمِ، وحَضَراتِ التَّصَوُّفِ، وأسْواقِ التِّجَارَة والميرَة....
فإذا ضاقتْ بهمْ أرْضُهم بما رَحُبَتْ،وشَحَّتْ مَوارِدُها عن اكْتِفائهمْ الذاتي،قَذَفَتْهمْ حُدودُها المَفْتوحةُ باتِّجاهاتِ الجِوارِ المُتَعَدِّدَةِ، فانْبَثُّوا في "المَسَالِكِ والمَمَالِكِ"،{رِجَالاً ورُكْبَانًا وعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}،حيْثُ يُهاجِرُونَ من الشرْقِ باتجاهِ دَوْلَةِ مَالِي ومَا جَاوَرَها، ويُهاجِرُونَ من الشِّمَالِ-عَبْرَ بَحْرِ الرِّمَالِ- باتِّجاهِ مملكة المَغْرب الأقْصَى وأحْوازِها، ويُهاجِرُونَ من الغرْب والجَنُوبِ باتِّجاه بِلادِ السينغال، ومَا وَرَاءَ النهْر، إضافةً إلى هجْرَةِ الكُلِّ، باتِّجاهِ الكُلِّ، التي هي حَرَكةُ الحَياةِ ذاتها عِنْدهم.
إنه عشْقُ التَّرَحُّلِ، المُنْحَدِرُ سِرُّهُ إلى دِمَاءِ هؤلاءِ القوْمِ، من سَحيقِ عُهُودِ التاريخ، مِنْ تَفَرُّقِ عرَبِ اليَمَنِ أيْدِي سَبَا،بعْدَ انْهيارِ سَدِّ مَأرِبَ،ومِنْ إيلافِ قُرَيْشٍ رِحلتيْ الشتاء والصيْف، ومِنَ الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ الغَرَّاء،ومن أجْدادِهم الفاتحينَ،الذين طَوَّحَتْ بهمْ شَجَاعَتُهمْ إلى ما قَصَّرَ عنه غيْرُهمْ من أقَاصِي التُّخُومِ، ومن تَغْريبَةِ بَنِي هِلال الشهيرة، ومن إيلافِ قبائلِ المَعْقلِ والبَرْبَر- معًا- للإيغالِ في الصحْراء، انتباذا بالعِزَّةِ من ذلِّ السُّلْطان، ومن مُجْمَلِ "مِيراثِ السَّيْبَةِ" المُتَجَذِّرِ في هذا "المَنْكِبِ البَرْزَخِي"، عبْرَ تاريخَيْهِ: القريبِ والبعيدِ مَعًا.
و لكنْ مَهْمَا تَعدَّدَت المَقاصِدُ الحافِزَةُ لأمْوَاجِ هذه القوافلِ العَريقةِ في امْتِهانِ التَّرَحُّلِ، فإنَّ اللهَ عَلاَّمَ الغُيوبِ يُرَتِّبُ جَزاءاتِ الجميعِ علَى حسَبِ النِّيَّاتِ المُخَبَّأةِ في كُنْهِ الضَّمائرِ المُسْتَتِرَة،"فمَنْ كانتْ هِجْرَتُه إلى اللهِ ورسولِه، فهِجْرَتُه إلى اللهِ ورسوله،ومن كانتْ هِجْرَتُه إلى دُنْيَا يُصِيبُها.. أو إلى... فَهِجْرَتُه إلى ما هاجَرَ إليْه"
واليومَ- في موْسم الحملة الانتخابية- تسْتَنْفِرُ الجيناتُ في كيْنُونَتِهمْ مُوَرِّثَاتِ ذلكَ التَّرَحُّلِ فِي كُلِّ الاتجاهاتِ، انْتِجاعا للمَنافع، والمَواقِع، حيث لمْ يَتَعَلَّمُوا في مدرسة الديمقراطية الجديدة على نَسَقِ حَياتِهم- منْذُ نَشْأةِ الدوْلة الحديثةِ- سِوَى تكْريس نَمَطِ الانتجاع السياسي، وعدَمِ الوَلاءِ المُسْتَقِرِّ والمَبْدَئِي، لأيِّ شيْءٍ غيْر المَصَالِحِ الآنِية المُتَغَيِّرَةِ، لأنَّ ظاهِرَةَ التَّحَزُّبِ، والتَّعَدُّدِ المَذْهَبِي الإيديولوجي -هي الأخْرى- جديدةٌ على النَّسَقِ العَقَدِي الأحادي،الذي ترّبَّى عليه سُكَّانُ هذا "المَنْكِبِ البَرْزَخِي"،إذْ طالَمَا عرَّفُوا أنْفسَهم بأنَّهم: مَالكِيُّونَ فقْهِيا ـ أشْعَرِيُّونَ عَقَدِيا-جُنَيْدِيُّونَ تَصَوُّفًا، دُونَ أنْ يَفْتَحُوا أفقَهم لغيرِ هذه الثلاثية، التي لا يَرَوْنَها خُطوطا مُتَوَازِيةً، بقَدْرِ مَا يرَوْنَها مُتَدَاخِلَةً، تَضَافَرَتْ خُيُوطُها الثلاثةُ لتَنْسُجَ – في اعْتِقادِهم- حَبْلَ اللهِ المَتِينِ، الذِّي يَعْتَصِمُ به هذا المُجْتَمَعُ السائبُ في صحْرائه البَرْزَخِيةِ، المُنْتَبِذَةِ مَكانًا قَصِيا، انْحَسَرَتُ عنْهُ ظِلالُ السَّلاطِينِ المُهَيْمِنَة، المُحِيطة به من أغْلبِ الجِهَاتِ، حتَّى لَكَأنَّهَا جَزيرةٌ من الرَّمْلِ، ظَلَّتْ تُحَافِظُ علَى اسْتقلالها،رغْمَ رِمَالِها المُتَحَرِّكَةِ،وسُكَّانِها الرُّحَلِ،وحَيَوانَاتِها السائمة.....وتلك مُفَارَقَةٌ تبْدُو صَعْبَةَ الترْويضِ مَنْطِقِيا.
وما دامَ الحيوانُ كانَ "المُعَلِّمَ الأوَّلَ" للإنسانِ، حيث عَلَّمَ الغُرابُ قابيلَ بن آدمَ كيف يُوَارِي سَوْءَةَ أخِيه هابيلَ،فقدْ ظلَّ بَنُو آدمَ على طول التاريخ يَسْتَلْهِمُونَ من جميع الحيوانات، ويُشَاركونَها بعْضَ سُلوكِها وعَاداتِها،وفي هذا السياقِ أثْبَتَتْ بُحوثُ عُلَمَاءِ الأحْيَاءِ أنَّ كثيرًا من الطيور، والأسماك، والحشرات، والثديات، تُهَاجِرُ بِصُورَةٍ مُنْتَظِمَةٍ، لتَجَنُّبِ التَّغَيُّرَاتِ غيْرالمُؤاتِية، سواء على مُسْتَوَى المناخ ،أوْ مَصادِر الغِذاء.
ويبْدُو أنَّ نَصيبَ أغْلبِ نُخَبِنَا- أحْرَى العامة- كانَ كبيرًا، من دُروسِ الترَحُّلِ الطبيعي الذي تُمارسُه أنواعُ الحيوانات،وفْقًا لقانون التوازُن البِيئي،وغَريزَةِ حُبِّ البَقاءِ،حسَبَ المَوَاسِم التي تقْتَضِي فيها مُتَطَلَّبَاتُ الحياةِ ذلكَ، فَفِي مَوَاسِم التَّغَيُّرَاتِ السياسية، التي لا تَكَادُ تخْرُجُ لدَيْنَا عن الانْقلاباتِ والانْتخابات، في جَدَلِهِمَا المُسْتَمِرِّ، الذي أصبَحَ يَحْكُمُ –عَبَثًا- بَحْرَ حَياتِنا مُنْذُ عُقودٍ،مِثْلَ نامُوسِ مَدٍّ وجَزْرٍ مَجْنُون، يَسْتَعِرُ لهيبُ الترَحُّلِ السياسي،بشكْلٍ لا يَقِلُّ جُنُونًا.
فَيَحلُّ - فِي مَهَبِّ كُلِّ انْقلابٍ وانْتِخابٍ- مَوْسِمُ الهجْرَةِ إلى كُلِّ الاتجهات، فتُمْعِنُ أغْلبُ النُّخَبِ في ترَحُّلِها، غيرِ الخاضِعِ لأيِّ مَنْطِقٍ، سِوَى مَنْطِقِ الجَشَعِ، ولا أيِّ قاعِدَةٍ سِوَى قاعدة:" الحاجة تبرِّرُ الوَسِيلَةَ "، ولا أيِّ هَادٍ ولا حَادٍ سِوَى نَشِيدِ الأمْعَاءِ، الذي سَجَّلْتُه عامَ 1998م،في موْسِمٍ مِثْل هذا، حِينَمَا كنْتُ أشَاهِدُ-عابرا- الأبواقَ تَلْتَقِمُ الأبْوَاقَ، اسْتعدادًا لانْطلاقِ نَقِيقِ الضَّفادعِ المُؤَجَّرَة، عند ساعةِ الصِّفْرِ، وكُلُّ سَاعاتِهمْ صِفْرٌ، فكتبْتُ قصيدةً ،بعنوان: "حنْجرة للإيجار" 
هنا في مثل هذه المواسم تَسْتَنْفِرُ الجيناتُ عِشْقَ التَّرَحُّلِ العَريق، في دِماءِ منْ نُسَمِّيهم-حَسَبَ الخَطَأِ الشَّائِع- نُخَبًا، رُبَّمَا اقتباسًا من قانون الانتخاب الطبيعي :"البقاء للأقوى"، فَيُشَرِّقُونَ ويُغَرِّبُونَ، ويَصْعدُونَ ويَنْزِلُونَ، ويَسْتَعِيرُونَ منَ الحِرْبَاوَاتِ تَلَوُّنَهَا بألوان مُحِيطِها، ومن الأفاعي تَبَدُّلَ جُلودِها، عبر الفصول..
فإلى مَتَى نُمَكِّنُ لِهؤلاءِ في الأرْضِ، بانْتِخابهم كُلَّ مَوْسِمٍ، حَتَّى يَحْتَسِبُوا أنَّهم نُخْبَةٌ ومُنْتَخَبُونَ حَقِيقة؟
دَعُونا هذه المرِّةَ نُحَوِّلُ قانونَ الانْتخاب الطبيعي: "الحياة للأقوى"، إلى قانون الانتخاب الأخلاقي: "البقاء للأصْلح"، فلا نَصْطَفِي بأصْواتِنا إلإ الأفْضل والأمْثل، حتى نُعِيدَ للانْتِخَابِ مَعْنَاهُ اللغوي على الأقل.