إعلان

شنقيطي البغدادية

اثنين, 12/03/2018 - 04:18

المصدر: السومرية - متكا

 

 

شنقيطي البغدادية (الجزء الأول)

التقيت به في الجامعة الأردنية في صباح عمّاني ماطر زمهريري حوله حضوره الدافئ الصحراوي ليوم ربيعي مملوء بالندى والازهار والبساتين

لقد كان يومها عبد الوهاب كحال جميع الشناقطة عندما تلتقي بهم لأول مرة ،لا يملك الهيئة التي تثير الاهتمام وتدعوك للأقتراب منه لكن ما ان يقول (كلمة) واحدة حتى يشدك من اقصى اقصاك له وهذا ما يجعله رجل الدهشة وما يجعل الشناقطة مدهشين على الدوام فالشنقيطي حين تعرفه لا يمر من خلالك مرور الكرام بل يقيم فيك الى الابد.

كان عبد الوهاب يجلس بجوار الشيخ الذي كنت قاصدة اياه شاخصا بصره نحوي بكل مافيه من شموخ وكبرياء ووسامة وكل شيء فيه يصيح ثقة ..ثقة..ثقة ، بينما كنت انا لا مبالية وغير مكترثة ومشغولة بأقناع الشيخ بطلبي حتى قال عبد الوهاب مقاطعا حديثي مع الشيخ:

– من اي عراق انت ؟

– انا من عراق العرب

-فأنشد : يا دارَ عبلةَ بالعراقِ تكلّمي

هل أصبحَتْ جنّاتُ بابل مقفرة؟

 

هـل نَهْرُ عبلةَ تُستباحُ مِياهُهُ

 

وكلابُ أمريكا تُدنِّس كوثرَه؟

 

فعلت هذه الابيات بقلبي فعل الخنجر المسموم وشعر هو بأضطرابي وهجوم الاحزان علي وادرك خطأه في اختيار هذه الابيات الموجعة التي نادت الدموع لأطراف عيني

 

فحاول ان يتدارك فعله بأبيات لعبد الرزاق عبد الواحد اختار منها :

 

بغداد.. أهلك رغم الجرح ، صبرهمو

 

صبر الكريم، وإن جاعوا، وإن ثكلوا

 

قد يأكلون لفرط الجوع أنفسهم

 

لكنهم من قدور الغير ما أكلوا!

 

ثم تحول وجهه الوديع الناضج الملامح لوجه طفل شقي وقال

 

–اظن انك العراقية الوحيدة التي قد تأكل نفسها

 

-لماذا؟

 

-لأنك بقلاوة

 

ووجدت الدموع التي ناداها الحزن لعيني طريقا للحرية غير الذي اتت به ..لقد ضحكت حتى خجل مني الضحك وتشبه بالبكاء وبعد موجة الضحك التي اخذتنا نحن والشيخ معنا سألني مرة اخرى

 

-لماذا فتاة جميلة تطلب العلم؟

 

-طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة

 

-فرض كفاية كفاكن مؤنته الرجال

 

كـُتب القتل والقتال علينا *** وعلى الغانيات جر الذيول

 

– لم نراكم في قتل ولا قتال لذا رفعنا الذيول وشمرنا عن السواعد

 

واخذتنا موجة ضحك اخرى

 

***

 

لنفصل القول في عبد الوهاب قليلا :

 

هو طفل في الثلاثين من عمره،يملك أكرم اخلاق الرجال وشقاوة الاطفال وغفرانهم ،شامخ الطول ،قوي البنية ، ناريّ العينين ،ملامحه مترفة بالوسامة والخدر،وفي كل ملمح من ملامحه يسكن شيطان وملاك بسلام ووئام ،ربما لهذا اشعر بالانتماء لوجهه العراقي اكثر من كونه موريتاني،وكثيرا ما اقول له عيناك وطني !في حديثه من وطن غربتي الاولى ومرابع صباي في بلاد الشام الكثير،عندما يتحدث بلغته العذبة الرائقة الزلال تشعر ان الكلمات تقبل فمه حين تخرج منه عرفانا وتقديرا لحسن تشييعه لها الى الاذن ولأختياره العادل لها وانصافه اياها ولأنتعاشها بطيب انفاسه ونداوة اسنانه ونورها وضيائها.

 

قابلت الكثير من الاشخاص الاذكياء لكن لم يحدث ان قابلت ذكاء على هيئة رجل الا عبد الوهاب،يعرف ما تريد ان تقول دون ان تنبس ببنت شفة ويعرف ماذا تريد قبل ان تريده ويعرف متى يجب ان يتحدث ومتى يصمت ويعرف كيف يجعلك تقول ما يريدك ان تقوله ،قال لي بعد مرور عام على لقائنا الاول انه استقصد ان ينشد لي ابيات عن العراق موجعة لكي يخلق لكلمة” لأنك بقلاوة” المناخ الذي يجعلها لا تبدو غزلا مبتذلا ورخيصا.

 

ومن اوجه ذكائه الخارق هي قدرته على خلق الكوميديا وهذه اعلى مراتب الذكاء، الابكاء في عصرنا سهل لكن الاضحاك هو معضلة الانسان العصري لذلك اصبح عالمنا مليء بالمهرجين الذين يدفعوننا للغثيان لا للضحك وحين نشتاق للتلذذ بالكوميديا ونعود لمشاهدة كوميديا الزمن الجميل ونشعر بالحزن على حالنا الان،وما بين كوميديّ الحاضر والماضي نعيش مأساة العطش للضحك ،اما كوميديا عبد الوهاب فهي نوع راقي من السعادة دون تهريج ولاافتعال ولاتكلف ولا ابتذال ودون سخف وحمق تتدفق لروحك خالقه فيك انتعاشا ومرحا وفرحا ومعنى ،وترتقي بعقلك وتجعلك لماحا واكثر حصافة.

 

اما اجمل سماته الشخصية فهي الكرم،وهي سمته في كل شيء،سمة وسامة هيئته واناقته الانجليزية الروح وشمائله وروحه وغضبه الشهي وفي علمه ووقته واهتمامه الخ..،ومن سمو كرمه ان كل شيء منه تشعر انه هدية حتى الاوقات العصيبة ولحظات سوء الفهم ،وان الهدايا العينية من فساتين واقراط وعطور وشوكلاته هي من حقوقك عليه لا من فيض كرمه.

 

كرم يمينه لا يعد ولا يحصى ولا يجازى بثمن،في احدى المرات كنت ابحث عن كتاب توقفت طباعته فقال لي انه يملك نسخة منه ولكن في لندن حيث درس وتخرج ويعيش نصف عامه فيها وكنت اظن فيه الكرم نعم وانه سيأتيني به بعد ان يذهب للندن-كان حينها في موريتانيا-لكن لم اتخيل أنه في اليوم التالي سيرسل مفتاح شقته الى لندن لصديق ليأخذ الكتاب ويرسله له مع المفتاح لموريتانيا ثم يرسل لي الكتاب في البريد من موريتانيا لحيث اعيش!

 

اما الخصلة الاخرى التي يعجز الرجال ان ينافسوه عليها هي الشجاعة المطلقة والحاضرة في كل شيء في حياته، شجاع على الحياة لا يخشاها ولا يتركها تتلاعب به،شجاع في قول الحق ومقارعة الظالم،شجاع في المعارك وفي القتال،شجاع في مواجهة الناس بحقيقتهم،شجاع في العلم،شجاع في مشاعره،عندما يشعر بأي شيء مهما كبر او صغر يفصح عنه بل يسخر من الرجال لأنهم في حالة هرب ازلية من النساء والمشاعر،شجاع في اعترافه بذنوبه ومساوئه،شجاع في حبه وعشقه والاهم شجاع على الخير.

 

>>>>>>>يتبع<<<<<<<<<<

شنقيطي البغدادية (الجزء الثاني)

سألته مرة

 

-لماذا تحبني ؟

 

-لأنك لست كافية فقط بل فائضة عن حاجة الرجل

 

– دع عنك هذا ..انتم جنس لا يشبع

 

-هذا لا ينطبق على رجل مثلي زير نساء ذاق انوثة الشرق والغرب والجنوب والشمال

 

– ربما انا الانسان الوحيد من بين الجميع -الذين انت نفسك من ضمنهم- يظن انك لست زير نساء

 

-ضحك حتى كاد يغشى عليه ثم قال .. معقول ؟ بعد كل الذي قصصته عليك ؟

 

-نعم لا انكر ان العدد مهول لكن انا افهم الرجال ..حسنا هل قرأت قصيدة الشاعر سامي البارودي ماذا على قرة العينين لو صفحت ؟

 

-لا

 

-هذه القصيدة تلخص سيكلوجية الرجل بقصيدة

 

-كيف هذا ؟

 

– يقول قي مقدمة القصيدة ابيات تشف عن قلب مطحون بعشقه حتى يخيل للقارئ انه رجل غادرته الدنيا والحياة بعد خصام محبوبته له يقول فيها :

 

ماذَا عَلى قُرَّة ِ العَيْنَيْنِ لَوْ صَفَحَتْ

 

وعَاوَدَتْ بِوِصالٍ بَعْدَ ما صَفَحَتْ

 

بايَعْتُها الْقَلْبَ إِيجاباً بِما وَعَدَتْ

 

فيالَها صفقة ً فى الحبِّ ما ربِحَت

 

قد يزعمُ النَّاسَ أنَّ البخلَ مقطعة

 

ٌ فما لقلبى ِ يهواها وماسَمحَتْ ؟

 

ثم يأتي بأبيات يصف بها حسن محبوبته تتيح له العذر في استجدائها والتوسل بها والسعي لنيل رضائها يقول فيها:

 

خوطيَّة ُ القدِّ ، لو مرَّ الحمامُ بها

 

لم يَشْتَبِهْ أَنَّها مِنْ أَيْكِهِ انْتَزَحَتْ

 

خفَّت معاطفها ، لَكن روادفُها

 

بِمِثْلِ ما حَمَّلَتْنِي في الهَوَى رَجَحَتْ

 

وَيْلاهُ مِنْ لَحْظِها الْفَتَّاكِ إِنْ نَظَرَتْ

 

وَآهِ مِنْ قَدِّها الْعَسَّالِ إِنْ سَنَحَتْ

 

يَمُوتُ قَلْبِي وَيَحْيَا حَيْرَة ً وهُدى

 

ً في عالَمِ الْوَجْدِ إِنْ صَدَّتْ وإِنْ جَنَحَتْ

 

كَالْبَدْرِ إِنْ سَفَرَتْ، والظَّبْيِ إِنْ نَظَرَتْ

 

والْغُصْن إِنْ خَطَرَتْ، والزَّهْرِ إِنْ نَفَحَتْ

 

واخَجْلَة َ الْبَدْرِ إِنْ لاحَتْ أَسِرَّتُهَا

 

وحيرة َ الرشإِ الوسنانِ إن لمحَت

 

لها رَوابِطُ لا تَنْفَكُّ آخِذَة

 

ً بعُروة ِ القلبِ إن جدَّت ، وإن مزحَتْ

 

يا سَرْحَة َ الأَمَلِ الْمَمْنُوعِ جَانِبُهُ

 

ويا غَزَالَة َ وادِي الْحُسْنِ إِنْ سَرَحَتْ

 

ترفَّقى بفؤادٍ أنتِ منيَته

 

ومقلة ٍ لسوى مرآكِ ما طمحَتْ

 

ثم بعد ذلك يصف لنا شمائل محبوبته وطيب خصالها الروحية ورجاحة عقلها وذكائها وتحنانها وحسن معشرها قائلا:

 

أفسدتُ في حبَّكُم نفسى جوى

 

ً وأسى ً والنفسُ فى الحبِّ مهما أُفسِدَت صلَحَتْ

 

ما زِلتُ أسحرُها بالشعرِ تسمعهُ

 

مِن ذاتِ فهمٍ ، تُجيدُ القولَ إن شرَحتْ

 

حتَّى إذا علِمَت ما حلَّ بى ، ورأّت سُقْمِي، وخَافَتْ عَلى نَفْسٍ بها افْتَضَحَتْ

 

حنَّت رثَت عطفَت مالَت صبَت عزَمتْ

 

همَّت سرَتْ وصلَتْ عادَت دنَتْ منَحَتْ

 

فبتُّ فى وصلِها فى نعمَة ٍ عَظُمَت

 

ما شِئْتُ، أَوْ جَنَّة ٍ أَبْوَابُهَا فُتِحَتْ

 

بل ان هذه المحبوبة في غاية الكرم لم تغفر له فقط بل اكرمته بثغرها وهذا أجود ما تجود به العذارى

 

أنالُ من ثغرِها الدُّرِّى ِّ ما سألَتْ

 

نَفْسِي، وَمِنْ خَدِّهَا الْوَرْدِيِّ ما اقْتَرَحَتْ

 

في رَوْضَة ٍ بَسَمَتْ أَزْهارُهَا، ونَمَتْ أَفْنَانُهَا، وَسَجَتْ أَظْلاَلُهَا، وَضَحَتْ

 

تَكَلَّلَتْ بِجُمَانِ الْقَطْرِ، وَاتَّزَرَتْ

 

بسُنْدُسِ النبتِ والريحانِ ، واتَشحَتْ

 

ترنحَّ الغصنُ مِن أشواقهِ طرب

 

اً لمَّا رأى الطَّيرَ فى أوكارِها صدَحَتْ

 

صَحَّ النَّسِيمُ بها وَهْوَ الْعَلِيلُ، وَقَدْ مَالَتْ بِخَمْرِ النَّدَى أغْصَانُها، وَصَحَتْ

 

فما الذي فعله هذا العاشق المدله بعد ان نال الصفح والقبلة؟ اسمع هذه الابيات

 

وَلَيْلَة ٍ سالَ في أَعْقَابِهَا شَفَقٌ

 

كَأَنَّهَا بِحُسَامِ الْفَجْرِ قَدْ ذُبِحَتْ

 

طَالَتْ، وَقَصَّرَهَا لَهْوِي بِغَانِيَة

 

ٍ إن أعرضَتْ قتَلَتْ ، أو أقبلَتْ فضَحَتْ

 

هيفاء ُ، إن نطقَت غنَّتْ ، وإن خطَرَتْ

 

رنَّتْ ، وإن فوَّقَت ألحاظها جرَحَتْ

 

دارت علينا بها الكاساتُ مُترعة

 

ً بخمرة ٍ لو بدَت فى ظلمة ِ قدحتْ

 

حَمْرَاءَ سَلْسَلَهَا الإِبْرِيقُ في قَدَحٍ

 

كَشُعْلَة ٍ لَفَحَتْ في ثَلْجَة ٍ نَصَحَتْ

 

رُوحٌ إِذَا سَلَكَتْ في هَامِدٍ نَبَضَتْ عروقهُ ، أو دنتْ من صخرة ٍ رشحَتْ

 

طارتْ بألبابنا سُكراً ، ولا عجَبٌ

 

وهى الكُميتُ إذا فى حلبَة ٍ جمَحَتْ

 

حتَّى بدا الفجرُ مِن أطرافِ ظلمتِها

 

كغرة ٍ فى جوادٍ أدهمٍ وضحِتْ

 

فيا لَها ليلة ً ما كانَ أَحسنَها

 

لو أنها لبِثَت حَولاً وما برِحَتْ

 

-ضحك عاليا ثم قال هذه الابيات تجب ما قبلها

 

-لا اظن ذلك ،لاحظ طبيعة المفردات ومناخ القصيدة ونفسية الشاعر في الشق الاول كلها حب واحترام وتواضع بينما في الشق الاخر كلها شهوة واستخفاف وتكبر ،وهو يريدهما معا لكن ان خير الشرقي بين الاثنتين سيختار الاولى لكن لن يستطيع ان يكون وفيا وينضج على العبث بالنساء حتى يجد الانثى التي تستطيع ان تكونهما معا .

 

-وانت ايهما ؟

 

-انا كلتاهمت

 

-لا اظن ذلك.. انت الاولى

 

-ممممممممم ربما

 

– وأنتِ لماذا لا تحبيني ؟

 

->>>>>>>>>>يتبع<<<<<<<<<<

شنقيطي البغدادية الجزء الثالث

اليك يامن زرعت في كل مسامة في جلدي زهرة..

 

أكتب أليك من إسنطبول او بلقيس كما يحلو لك ولأحمد شوقي تسميتها أو من سوراقيا كما أحب أن أسميها.. حسنا لايهم الإسم بل ما يهم هو أنني أفكر فيك كثيرا في هذه ألمدينة وهذا أمر خططت له جيدا أيها الخبيث  … اه ما أغلى خبثك وما أشهاه!

 

لم يخطر في بالي تلك الليلة التي قضيناها سويا نتحدث بالهاتف لساعات وساعات قبل سفري وأنت تحدثني عن اسطنبول أنك كنت ترتب لي رحلتي منذ لحظة نزولي الى أرضها وحتى إقلاعي عنها , ربما لموهبتك في فن الكلام  التي لا يجاريك أحد فيها أوحيت الي أن اذهب الى كل الاماكن التي حدثتني عنها لكي تريني بعدا اخر في طريقة تفكيرك ألفاتنة ونظرتك ألفريدة للأشياء أو ربما فعلت ذلك دون قصد.. قلت لك سابقا عقلي يهودي  !

 

في أول يوم لي هنا ذهبت الى شارع الأستقلال ولم امشِ فيه كعادتنا حين نزوره بل فعلت ما تفعله أنت ,اتكأت على حائط فيه وصرت اتأمل وجوه المارة وأمارس هوايتي في تسمية الناس وإيجاد كلمات مناسبة تعبر عنهم ولكي أكون صريحة معك عدت تلك الليلة اسحب حزنا جذوره في دمشق وبغداد وصنعاء والرياض والقاهرة والقدس وأوراقه في صدري .. استنفذت حصيلتي اللغوية الحزينة  كلها ذلك اليوم يا عبد الوهاب وهذا ما جعلني اشعر برغبة جارفة في أن أختبئ في حضنك الذي لا يدفع الحزن عني سواه  .

 

سأسرد لك بعض التعبيرات التي قدحت في رأسي وأنا اتأمل العرب الذين مروا أمامي(جوع أنيق,ذل ذكي,عجز,رعب,عاهرة قسرا,فراق,وجع مكابر,أسف,سارق مبتدئ, قابض على جمرة,محارب خاسر,ثكلى مسؤولة,هارب ,ناجح لولا الحرب,تائه مهتدي,فلاح بلا أرض,عروس عانس,خلوق سابق,مجنون في اوقات فراغه,انوثة متعبة, الخ ).

 

في اليوم الثاني ,قررت ان امارس هوايتي في إرتياد ملاهي الأطفال وكذلك لم اذهب الى فيالاند كعادة السياح بل الى مدينة الملاهي القديمة التي حدثتني عنها ووجدت فيها كل ما يشفي بداخلي الطفلة التي سلبتها الحرب مراجيحها , مازلت أذكر دموعك الحبيبة حين أخبرتك عن عقدة رائحة الحديد في ألعاب مدينة الألعاب الكبيرة-كما كنا نسميها في بغداد-بداخلي وأن الحرب جاءت في مرحلة من عمري كان يجب ان اودع فيها الطفولة كما يجب ,لست وحدي بل كنا جيل كامل من الاطفال المختبئين في بيوتهم من القصف “فلا بيدر في سهول العراق ولا صبية في الضحى يلعبون”  كما يقول السياب لذلك بقيت تلك المرحلة من عمري بلا نهاية وأنت وحدك من دون الرجال الذين مروا من خلالي.. أدركت ذلك.

 

حين خرجت من بغداد زرت العشرات من ملاهي الاطفال ولم أجد تلك الرائحة فيها وبقيت طوال سنوات أسلي نفسي في أبيات يقول فيها السياب :

 

“علينا لها أنها الباقيه

 

وأن الدواليب في كل عيد سترقى بها الريح جذلى تدور

 

ونرقى بها من ظلام العصور الى عالم كل ما فيه نور

 

رصاص رصاص رصاص

 

حديد عتيق لكون جديد”

 

حتى جئت يا شنقيطييّ فشخصت وعالجت كل عقدي وجراحي وحماقاتي !

 

في اليوم الثالث,ذهبت الى متحف الفن الحديث في اسطنبول وأنا أعد نفسي مسبقا للضحك ,مررت على كل القطع التي حدثتني عنها وأضحكتني عليها والتي يسمونها مجازا فنا وضحكت حتى بلَّ دمعي محملي ولولا أني سافرت بلا هاتف لكنت أتصلت عليك أسمعك غزلا ما حلم رجلا عبر التاريخ ان يسمعه ,نحن معشر النساء لا نصل لأقصى مراحل الاعجاب بالرجل الا حين يضحكنا وأنت يا سيد الضحك الأنيق لا أحد يدانيك في هذا المجال !

 

لكن ما عكر صفو سعادتي هو تذكري لعبارة لبيجوفيتش رحمة الله عليه يقول فيها” أن الفن يحكي قصة غربة الانسان في الطبيعة” فلو تتبعنا مراحل تطور الفن منذ رسومات انسان الكهف الى ما قبل ظهور المدرسة التكعيبية و المدرسة الحداثية وما بعد الحداثة أن الانسان والطبيعة  في الفن كانا واضحين ثم تلاشت ملامحهما  بعد سيزان حتى صار الفن كما نرى اليوم يحكي قصة التلاشي و اللاشيء.

 

في اليوم الرابع,ذهبت الى ضريح الصحابي أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وكعادتي عند ذكر الصحابة بكيت كما يبكي الوليد ومثلي لا يذاع له سر,لا أدري سر هذه الحالة الشعورية التي تعتريني عند ذكرهم حتى أني اتحاشى جدا ان اسمع حديثا عنهم او ان اقرأ عنهم أمام الناس , وقصة أبو أيوب بالذات تلمس شعوري بالخوف من الموت غريبة في أرض غريبة كما عشت طوال عمري غريبة.. اقرأ ماذا يقول الشاعر رحيم المالكي في الانتقال من وحشة الغربة الى وحشة القبر:

 

ليش الوحدك من غير جنّاز

ومن هو اليغسلك ويغمض العيون..غريب ابنص محطة والوادم اجناب

وهلك عنك بعيد اشلون يدرون؟اليموت بنص هله نتهدل اهدال

عليه امه وخواته اطيح المتون..

واشوفك وحدك وانته القبل جان

الجبل والساتر بسدك يلوذون..

 

ملك موتك استعجل لو توانيت

ترد الديرتك جا هسه مدفون..

 

دليني بجوازك رايد اقراه

واشوف اصالك بالغربه مدفون..

 

من وحشة الغربه لوحشة الموت

وشربت الوحشتين بفرد ماعون..

 

عليك امك تعاين بلجن تعود

وضعنك ما رجع من دون الضعون..

 

تريد عون الهه بتالي الشيب

وهسه انت ضعت وتريد العون..

 

وحدك تنعى روحك جنك تقول

اهلي الضيعوني اشلون ينسون..

 

أنا اليوم في اليوم الخامس سأذهب الى أيا صوفيا بعد قليل ولن اكتب لك ماذا سيحدث بل سأتركك تحزر , أكتب لي رسالة على هذا البريد الأكتروني قبل ان اعود وألا سأعلن عليك الحب!

المخلصة دوما

 

 

شنقيطي البغدادية (4)

لن أخفيك يا بلسم الروح بأني بكيت بعد أن خرجت من المشفى عندما زرتك حتى بل دمعي حقيبتي وجذبت أنظار المارة,لم أتمالك نفسي فهرعت الى اقرب مدخل عمارة  ودخلت نوبة بكاء تحت السلم ,اخرجت فيها كل  أوجاع بلادنا من صدري وربما من صدرك ايضا .

 

حين رأيتك ملقى على السرير تصارع الالم والراحة ,الموت والحياة ,الذاكرة والنسيان ,الاغتراب والوطن بوجه ضحوك ومنطق ساخر وعينان ينبع منهما صدق الانسانية كله ,لم أشفق عليك بل أشفقت على نفسي التي منذ عرفتها تسعى ولا تصل ,تختار ولا تأخذ,ترقى ولا ترتقي,تأمل ولا تحصل,تتفائل ولا تجد, كأنني عالقة وحدي في دولاب هواء سرمدي, لا الارض لي ولا السماء لي ولا رفيق لي ,فقط دوار.. دوار.. دوار !

 

المؤلم في الأمر اني احصل على افضل الاشياء كذلك بل أنا محظوظة جدا في حياتي , حصلت على افضل وطن وافضل عائلة وافضل وضع مادي وافضل منفى وافضل حبيب وافضل اصدقاء  الخ ..

 

لكن جميعها تسلب مني في لحظة غير متوقعة وجميعها أوجعتني وجميعها ليست لي بل حتى  أنا كما يقول درويش لست لي ,,, وانت كذلك ايها الغالي لست لي ولست لنفسك!

 

كيف يقوى المرض على مهاجمتك يا صغيري الكبير؟

 

حتما اغتالك من الخلف لأن وجهك الوضاح يا مهجة القلب يدفع عنك كل شرور العالم وأن اقصى ما قد يدفع الاخرين لفعله هو المبارزة لأنها فعل شريف يليق بك , يا  ايها الشريف في ماضيه وحاضره ومستقبله وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته وفي باطنه وفي ظاهره وحين يموت وحين يبعث كما ولد وعاش ومات شريفا  !

 

الان ادركت فقط ان المرض غير خلوق البتة واني لن اغفر له ولو اصاب كل مجرمي العالم ولو اباد كل الاشرار في الحياة ولو خاصمني مدى الدهر ولو تجنب كل من احب وسأحب كرمى لي.. لن اغفر له وسأقول لله يوم الحساب يارب ان المرض سلبني عبد الوهاب وانت تعلم يارب ماذا يعني عبد الوهاب !

 

ليتني لم اعرفك, أنت كثير جدا يا عبد الوهاب,كثير في عطائك وجمالك وادبك ورقتك وعذوبتك وعطفك بل لأصدقك القول لم أظن يوما ان كفك الحانية  قد حملت السلاح ولولا أنك عبد الوهاب الذي يصدق حتى في كذبه ما استمعت  لقصصك عن ايام الجهاد ولو للحظة فلا يعقل ان الرجل الذي حن علي اكثر من امي قد يغضب حتى!

 

 

شنقيطي البغدادية الجزء الخامس

قلت لك مرة ان الدخول بعالمك اشبه بلعب البلاي ستيشن فكان جوابك

 

-وما هو البلاي ستيشن

 

– مستحيل.. لا تعرف البلاي ستيشن؟

 

-يا سيدتي انا رجل بدوي لا اعرف الا الاكس بوكس .

 

يالله ما اظرفك يا سيد ضحكي وصانع افراحي, وما اسرع بديهتك في ابداع النكتة وتحويل اي ظرف لطرفة وهذا ما يميز طرافتك عن الناس, فالناس تتناقل الطرائف وانت تصنعها !

 

ثم يجب ان تعلم ان  اضحاكي صعب بل انني ادخل دوما في تحدي” اتحداك ما تضحك” وافوز لانني  انتمي لعائلة كوميدية لا تفرق بين كوميديا صفراء وسوداء وبنفسجية فصار سقف الكوميديا عندنا اعلى بكثير من كوميديا الناس .. تخيل عائلة مهووسة بالضحك لا تراعي مشاعر الاخرين وليس عندها حدود في المزاح كيف ستكون الكوميديا فيها!

 

انت الانسان الوحيد الذي يضحكني ويجعلني على طبيعتي (بنت الفرح, اميرة النكتة,عدوة التشاؤم) ,لذا البكاء منك امر طارئ وغريب, ارجوك لا تجعله عادة, قاوم المرض قاوم يا عبد الوهاب لأجلي.. لا تكن انت والعراق علي,قلت لك مرارا انا لا انتمي لكل العراق,حزن الاهوار والاغاني التراجيدية ونصوص الوجع منذ الشاعر السومري الاول وحتى كريم العراقي لا تمثلني لكنك حين قلت لي وانا اهم بالرحيل عندما زرتك في المشقى -كما اسميه-“نلتقي في الجنة”.. شعرت أن حزن العراق منذ فجر التاريخ الى اليوم في حلقي… تخيل شعور الحزن في الحلق!

 

لذا سكتت ومضيت وانهرت تحت سلم احدى البنايات ولم اقل لك ” اسم الله عليك,, يومي قبل يومك”

 

لكن الان يجب ان اقول لك ما اردت ان اقوله.

 

هل تذكر حين شكوت لك من عدم خروجي في موعد اول( first date) كما يسميه الاجانب مع اي رجل من قبل, واني لم اجرب يوما ان اجلس مع رجل احبه في مقهى نتبادل الغزل والحديث ويحاول ان يمسك يدي وانا اجرها كما يحدث في المسلسلات واني لم يمسك يدي رجل قبل وحين عرضت علي ان افعل هذا معك قلت لك لن افعلها الا مع رجل احبه واتزوجه فيما بعد حتما ؟

 

دعنا نفعل ذلك, ولا ادعوك لذلك بدافع الشفقة او لكي احثك على مقاومة المرض فقط بل انا حقا اريد ذلك , اريد ان امنح علاقتنا فرصة,ولا اقول بأني احبك حب المرأة للرجل فالخداع ليس من شيمي بل كل ما هنالك اني الان مستعدة جدا وجدا وجدا لأستقبالك في قلبي استقبال الحبيب ,, لأنك أهل لذلك بل أكون غبية ان لم امنحك قلبي واعوضه عن كل ما فاته منك, بل صرت اسأل نفسي مرارا وتكرارا خلال اليوم لماذا لم احب عبد الوهاب؟ فلا اجد الا اجابات فتاة حمقاء, جبانة,موهومة,مترددة تخشى ان تتألم من جديد ليست انا ولكني لفرط جهلي اطعتها!

 

كيف امكنني ان ازهد في لقائك في مقهى لقاء العشاق واتركك تنتظرني طوال سنة في الواتسب اب والتيليقرام وتراني عبر السناب شات وفي اروقة الجامعة او في ندوات فكرية فقط ولا اجول معك مدينتنا الجميلة واشرب معك القهوة في كل مقهى فيها ,, يا ويل نفسي كم جنيت عليها!

 

ارجوك لا تزهد بالحياة, يجب ان تتشافى ,, يجب ان نخرج في موعدنا الاول ,, بل كتبت لك هذه الرسالة  ولم اتصل بك لأقول هذا الكلام ولم ازورك مرة ثانية ولن افعل حتى تتشافى ونلتقي في مقهى (عرب) القديم الذي كتبت لي فيه اول قصيدة.

انتظرك

 

شنقيطي البغدادية.. 6

“ما كنت نقدر…. عن مشيت لحباب تكدر”

 

ليلة ألبارحة بعد عودتي  للمرة ألثالثة من المشفى خائبة, أخذت أنقب في صفحات الأنترنت عن التبراع الذي لطالما أنت والكثير من الأصدقاء ألموريتانيين كنتم تحدثونني عنه حتى يخيل لي أحيانًا إنه الموضوع الذي يلزم كل موريتاني نفسه أن يحدث عنه الآخرين في لقائه الأول معهم,وربما لو قيل لي ما العيب الذي يراه فيك عبد الوهاب سأقول فقط أني لا أجيد الحسانية ولا اقول التبراع أما باقي مساوئي فكلها محببة الى قلبه وقد غفرها لي مسبقًا.

 

سهرت طوال الليل استمع لمقاطع التبراع في اليوتيوب, لم أعقل الكثير من الكلمات لكن شعرت بكل نغمة صحراوية سمعتها من تلك الحناجر العذبة,تارة أضحك وتارة أبكي وتارة أذوب, شعرت أن التبراع يحكي قصة  الأنثى الشرقية منذ أقدم العصور وحتى أليوم وأن كل تبريعة ليست سوى صرخة مكتومة لم تسعها الوسادة, والله يا عبدالوهاب لو كان لوسائد الفتيات الشرقيات روح لأنقرضت الوسائد منذ عصور من حرّ ما تلقى كل ليلة من بكاء مكتوم وآهات صامتة وأحلام تولد لتوءد.

 

لا أدري لما بحثت عن التبراع,ربما كنت أحاول أن أخفف من وحشتي ألوجودية بعد أن أغلقت في وجهي كل أبوابك حين منعت ألزيارات -أو ربما حقًا ما يقال لي في كل مرة أزورك فيها إنك سافرت وتركت البلد- وهاتفك ميت تمامًا,أختفيت كما لو إنك لم توجد يومًا على وجه الأرض, ولا أعرف أن كنت تقرأ رسائلي البريدية لك أم لا , حينها شعرت فعلًا بما قالته عاشقة موريتانية يومًا “القلب أحموم/ والجسم أخبر فيه أنتوم”.

 

ما أعذبك في الوصل والجفاء, بل مثلك لا يجفو حتى إنني لم أغضب من رحيلك ولم أشعر بالخيانة والترك والإقصاء العاطفي ولم أجلد ذاتي جلدة واحدة, ولم يمرني الشعور المخزي الذي يمر كل نساء العالم كل يوم عندما يختفي الرجل من حياتهن فجأة دون سابق انذار, أنا أثق بك جدًا, بل لا أثق في رجل غيرك, لا لشحة المكارم في الرجال بل لإنك الرجل الوحيد الذي يتبع قلبه وربه مع النساء ويتحاشى أن يعاملهن بمنطق الرجال رفقا بالقوارير وإكرامًا لوصية والدتك الراحلة رحمة الله عليها حين قالت لك”عامل النساء بعقل امرأة” ,يااااه ما أعظم والدتك ,إن أكرمني الله بدخول الجنة حتمًا سأبحث عنها وأجلس معها جلسات طويلة وأطلب منها أن تحدثني عن طفولتك أيها الشقي الظريف المعسول دومًا وأبدًا.

 

لذا حتمًا أنت لم تريد إيذائي أو فررت مني فرارًا عاطفيا فلطالما عرفتك كرارًا شجاعًا يقول ما يشعر به ولا يترك للآخرين فرصة أن يحددوا قيمته,مازلت أذكر حين سألتك

 

-ألا تخشى من الرفض حين تقول ما تشعر به لكل أنثى؟

 

-ولماذا يجب أن أخشى؟

 

-لأنها قد ترفضك او توبخك وتجرح كرامتك وكبريائك.

 

-كرامتي وكبريائي وأحترامي لذاتي أنا وحدي من يملك أن يجرحها  , أن قلت لفتاة أحبها عن ما أشعر به وهي رفضت مشاعري هذا لا يعني بأنها جرحت كرامتي , الأمران مختلفان عن بعضها البعض, الكرامة شيء والمشاعر شيء آخر,الناس تشعر بالخزي بعد الرفض العاطفي لأنها اعتادت ان تربط قيمتها بمدى قبول الآخرين بها أما أنا فقد تعلمت منذ زمن طويل أن تكون قيمتي محفوظة من عبث الآخرين.

 

-منذ زمن طويل يا “لوتي”؟

 

-ضحك ضحكة كان وقعها في قلبي كوقع أول ضحكة لوليد جاء بعد سنين عجاف في قلب أمه التي ظنت لطول صبرها أنها عاقر ثم قال:لست وحدك من يتفكر في مفهوم(القيمة) يا هيجل زمانك , لكن وحدك من يبحث عن حلول لها وهذه من فيوض بركاتي الهاشمية عليك.

 

الآن عندما تذكرت تلك الضحكة وأبتسامتك الشهية التي لا يصفها الا قول أحدى مواطناتك”عندو تبسيمه==باني فيها ابليس اخويمه” شعرت إن أحشائي تذوب بحرّ قلبي واختنقت,, اختنقت,, اختنقت!

 

عد يا عبد الوهاب

 

انا أتفقد هاتفي كل لحظة, أبحث عن أسمك في الأنترنت,أراجع محادثاتنا, أستمع لرسائلك الصوتية القديمة ,أخرج هداياك من الخزانة, آكل من الشوكلاتة  الاوربية التي أرسلتها لي في العيد حين سألتك عن حلوى الشناقطة في الاعياد ,اتعطر بالعطور التي أهديتني اياها واشم عطرك الخاص الذي اعطيتني اياه,أرتدي الاساور التي أهديتني اياها, اضع الشال الذي جلبته لي من الهند,اقرأ رسائلك البريدية التي ارسلتها لي من لندن,اضبط وقت الساعة التي أهديتني اياها ,اقرأ في الكتب التي اشتريتها لي من الرياض,اقلب في صورك الورقية القديمة التي جلبتها لي من موريتانيا بعد ان طلبتها منك ,اضع من المكياج الذي جلبته لي من بيروت كل هذا بشكل هستيري  افعله طوال اليوم في أنتظاري لك ولسان حالي كحال الشاعر العراقي الذي قال:

 

اظل مناطرك بلكت اليه تعود

وعلى البلكت دخيلك عاشت امالي

وعلى ريحت ضحكتك عشت عمري الراح

هسه خلاف عينك شوفني شحالي

جنت عالي بوجودك تدري هسه شصار

دمعاتي بغيابك صوتهن عـــــــــــــــــــالي.

 

شنقيطي البغدادية (الجزء السابع)

لم تكن صدفة ان تعزف عازفة المترو في محطة ياني كابي-إحدى محطات المترو في إستنبول- لحن اغنية تايتنك عندما عدت الى فندقي بعد زيارتي لك في المشفى,بل كانت رسالة قدرية!

 

طوال الطريق منك الى المحطة كنت غاضبة جدا يا عبد الوهاب وناقمة من حظي العاثر الذي جاء بك إلي ثم سلبني إياك,ناقمة من المرض الذي حقق لك أمنيتك  التي كنت ترددها علي دوما حين أقول لك:

 

-وهاب, أنت ليش حلو؟

 

-أنا لست حلوا,حسنا ربما لو كانت بشرتي أكثر بياضا كنت سأوافقك,بصراحة اتمنى لو كانت بشرتي بيضاء.

 

-كنت دوما أقول أن الله منح أهل شنقيط نصف حصة أهل الأرض من مكارم الأخلاق وثلاثة ارباعها من قدرة الحفظ وأورثهم شاعرية العرب وعلومها كلها وأخذ منهم جمال الشكل,لكن يبدو أنه منحها لك كلها دفعة واحدة!

 

-حسنا ان كنت مصرة فقد منحني نصفها والنصف الآخر مشروط بحصولي على كريم تبييض بشرة جيد.

 

وها أنت الآن أبيض من شدة شحوبك وألمك,كيف حصل هذا؟

 

عيناك البليغتين كيف غارتا؟

 

أ يمكن ان يسلب مرض اللغة بأفواه ناطقيها بلاغة قول صريع الغواني “يجودُ بالنفس إن ضنَ الجوادُ بها … والجودُ بالنفس أقصى غايةِ الجودِ”؟

 

لا أخفيك يا عبد الوهاب أني عندما تركتك تمنيت لو أنني استمعت اليك حين رفضت مقابلتي,ولم أقطع كل تلك المسافة الى أستنبول لأراك,لأني رأيت فيك الفراق والرحيل ورغم كل محاولاتك لطمأنتي وإقناعي بإنك ستظل متمسكا بالحياة لأجلي لم أستطع أن انام يوما من حينها على وسادة جافة.

 

***

 

أول مرة شاهدت فلم تايتنك كانت في عام 1998 في بغداد قبيل القصف الأمريكي علينا,لم يعلق بذهني منه الا مشهد النهاية حين كانت روز مستلقية على الباب الذي أنجاها من الغرق في وسط المحيط وجاك يطفو بجوارها متجمدا,قبلت يداه عندما أدركت انه توفى ثم أفلتته ببساطة!

 

لعنتها ملايين المرات ووجدت أن تصرفها يجسد كل معاني الحقارة والأنانية, لماذا لم تترك له مكانا على الباب الذي كانت تطفو عليه لماذا لم تتمسك به, كيف أفلتته؟

 

وفيما بعد عندما بدأ القصف كنت في كل مرة يشتد القصف علينا أتذكر فعلتها فأذهب لأحضر لعبتي(ماري أنطوانيت كما كنت أسميها)كي لا أكون كروز أفكر بنجاتي قبل نجاة من أحب.

 

ثم كبرت ومضت السنون لأجد نفسي أوضب أمتعتي للهرب من بغداد بعد حربين تمسكت خلالهما بماري انطوانيت فوقعت عيني عليها وحين مددت يدي لأحملها معي في هجرتي تذكرت أن حقيبتي صغيرة وأن هناك أشياء اهم فقبلت ماري أنطوانيت وتركتها ورائي لكني وعدت نفسي أن لا أقطع وعدا  بالوفاء لأحد او لشيء.

 

ثم بعد هجرات كثيرة وحين ظننت أنني قد أستوطنت وأصبحت قادرة على العيش بشكل طبيعي جئت أنت ووعدتك أن أبقى بجانبك, لكني حين جلست بجوار سريرك في المشفى عرفت بأننا كروز وجاك, انا اطفو في محيط الألم على باب الرجاء وأنت تكاد تغرق فيه,فأدركت أن وعدي لك بالبقاء بجانبك ليس من الوفاء بشيء,فمجانبتك تعني بأن وجودك شيء وأنا شيء وحين ترحل سننفصل الى الأبد وستختفي الى الابد بل يجب أن أعدك بأني سأحملك بقلبي وأنك أني وأني انت لذا يجب أن امضي قدما وأعيش طويلا كي تبقى أنت.

 

الآن فقط فهمت معنى أغنية التايتنك التي تقول:

 

 

 

Every night in my dreams

I see you, I feel you

That is how I know you, go on

Far across the distance

And spaces between us

You have come to show you, go on

Near, far, wherever you are

I believe that the heart does go on

Once more you open the door

And you’re here in my heart

And my heart will go on and on

Love can touch us one time

And last for a lifetime

And never let go till we’re gone

Love was when I loved you

One true time I hold to

In my life we’ll always go on

You’re here, there’s nothing I fear

And I know that my heart will go on

We’ll stay forever this way

You are safe in my heart

And my heart will go on and on

***

ما الذي يجعل الإنسان يفضل أن يبقى من يحب بجانبه؟

 

لماذا لا يقول الناس لبعضهم أبقى بي أو أبقني بك عوضا عن أبقى بجانبي ؟حتى أن المجانبة في اللغة تعني البعد والمفارقة أو على الاقل أن يقول له ابقى أمامي؟ لأن الانسان ينظر الى الامام بطبعه لا الى الجنب,وما من شيء يبهج خاطر المرء ويعاونه على كدر الحياة كالنظر الى المحبوب بملء العين لا بطرفها.

 

ربما هذا ما جعلك تطلب مني أن أصمت و أتركك تنظر إلي,لم أشعر بغرابة كعادتي حين تطلب مني أن اتركك تنظر إلي فقط بل شعرت بأن هذا ما يجب أن نفعله أن ننظر لبعضنا فقط ولا نتحدث,ما فائدة الكلمات اليوم؟

 

لكن عندما سألتني

 

-من أين لك كل هذا الجمال والسحر؟

 

وأجبتك

 

-هذا مما أنزل على الملكين  ببابل هاروت وماروت

 

وضحكت أنت تمنيت أن أجمد الزمن وأعيش بقية عمري أتأمل بهاء محياك.

 

شنقيطي البغدادية (8)

إليك يا طيب الأعراق يا طلق اليدين

 

قبلة على جبينك وبعد:

 

سهرت ليلة البارحة أراجع محادثاتنا عبر الواتس اب, وآه كم أشتقتك وأشتقت لنمير حديثك ومعانيك الجليلة وكلماتك الأخاذة,وضحكاتك التي تملئني بالغفران والأريحية والطرب والأنس ولصوتك الفاره المهيب وهبت فداه.

 

تذكرت عندما قلت لك مرة وأنت تسمعني أبياتا لبدوي الجبل أسمح لي أن أتقدم لخطبة صوتك كزوج لي فضحكت وقلت للأسف لن أستطيع لأنه متزوج بناتاشا, تلك الأنجليزية التي لم تستطع أن تمنحها  طوال سنوات زواجكم ما منحته لي بسنة واحدة ولكنها على إستعداد تام لمنحك حياتها,وتذكرت حديثك عن جمالها ورقتها وهيامها فيك وجلوسها كل ليلة تحت أقدامك حاملة ديوان ابي فراس الحمداني طالبة منك ان تقرأ لها دون ان تفهم كلمة مما تقول فأشفقت على ناتاشا لحبها لك وصبرها عليك ولأنك تركتها لأجل لغة أخرى لا امرأة أخرى,ربما لو كانت العربية أنثى لخفت مصيبتها,على الأقل ستراك خائنا وربما كانت ستكرهك وستجد عذرا لنسيانك ولا تعود رجلا (غير قابل للنسيان) كما قالت لك بعد سنوات من فراقكم”You’re an unforgettable person”على منشورك في الفيس بوك,ترى لو لم أرى التعليق هل كنت ستخبرني عنها؟

 

نعم أنا أفهم مدى الغربة التي كنت تعيشها معها بل أشفقت عليك كذلك عندما قلت لي إنك كنت في أكثر اللحظات حميمية بينكما  عندما تفيض روحك بالمشاعر نحوها تشعر إنك أخرس يصرخ لا الصراخ يهدأ في روحه ولا الناس تسمع استغاثاته,وكم من القصائد اثارتها معانيها فيك و تمنيت أن تقولها لها وحين قلتها لها ولم تفهمك شعرت بالسخف وخيبة المسعى,وأعلم أنك تستطيع ان تتحدث الأنجليزية كأهلها وتستطيع أن تفكر بالأنجليزية لكنك عاجز تماما على أن تشعر أو تحب بالأنجليزية,لكني حزينة عليها لأني أدرك إن خسرانك لا يلحقه ربح بأي شيء ابدا,وإن فراقك لا يلحقه لقاء بأي كان مطلقا,وأن نأيك لا يوصل بعده واصل قط,وأكثر ما أوجع قلبي عليها هو إنها لا تملك لصوتك تسجيلا واحدا ولن تستطيع أن تسمعه مرة أخرى للأبد,هذا الصوت الذي حين أسمعه أستشعر طعم رضابك في فمي,هل قلت لك سابقا أن كلماتك أغلى علي من دمي؟

 

وإن لحظة سماعي لصوتك لحظة مفصلية في تاريخي؟

 

وإني كنت قبل صوتك بيداء فصرت بعده مرجا,وكنت أطلالا فصرت صرحا,وكنت صبية فصرت امرأة!

 

لقد صيرني صوتك لأشياء رائعة يعجز قلمي عن عدها,وربما هذه هي مأساتي ومأساة كل أنثى مر صوتك السحري من خلالها وتغلغل فيها وحولها لشخص أجمل وأفضل وأقدس وأحصف,فصوتك الغالي لا يسمع بالأذن يا فديتك بل يسمع بكل الجسد والروح والوجدان,يتلبس الأنثى فيجعلها ترى العالم بعينيك-بروحي هما-وتفهم الأشياء بفهمك يا سيد الإتزان والكياسة,وتتحدث بلسانك الحصيف فيرتفع سقفها حتى يصبح كل رجال العالم دونك بلا طعم ولا لون ولا رائحة فلا يعود نسيانك فقط هو المتعذر بل الإعجاب  برجل غيرك هو المستحيل بعينه وأنت لا تدري كم يصبح العالم موحشا حين لا يعود به شخصا يدعو للإعجاب ويثير في النفس الدهشة!

 

أ تدري يا عبد الوهاب إن من أكثر اللحظات التي شعرت فيها بالضعف معك او نحوك أو أمامك لا أدري لكني أعرف إني كنت ضعيفة وذائبة ومدله ومولعة ولهجة وشغوفة وهائمة فيك في آن واحد,حين جلست أمامي في مكتبة الجامعة مرتديا قميصا ابيضا كانت أناقتك فيه ستسحب روحي من جسدي لو ابقاها عطرك الآسر,وكنت تقلب طرفك في المكتبة وأنت تتحدث عن شيئا ما لا أذكره لأني كنت أصاب بالدوار في كل مرة تدير عينك نحو جهة ما,أنت لا تعرف كم هو مهيب المشهد عندما ترسل طرفك الى جانب ما أو كما يقول اهل الجزيرة”تسلهم بعينك”يكاد المرء يظنك ولدت دون بؤبؤ لسعة عينيك ونصاعة بياضهما وحين  ترمش بهما كأنهما شمسين غربتا من خلف بستان وحين تشخص بهما نحوي أشعر أن نظرتك تحيط بي من أمامي ومن خلفي ومن يميني وعن شمالي فأعجب كيف لسقيم كل هذه القدرة!

 

وفي خضم ذلك يدخل صوتك فاتحا قلبي على صهوة قصيدة تقول فيها:

 

وفتاة ٍ ما زادها في غريب الـ  ـحسن إلا غرائب الأخلاق

ذقت منها حلواً ومراً ، وكانت لذة ُ العشق في اختلاف المذاق

ضرَبتْ موعداً، فلما التقينا جانبتني تقول: فِيمَ التلاقي؟

قلت: ما هكذا المواثيقُ، قالت: ليس للغانياتِ من ميثاق

عطفتها نحافتي ، وشجاها شافعٌ بادرٌ من الآماق

فأرتني الهوى ، وقالت : خشينا والهوى شُعبة ٌ من الإشفاق

يا فتاة َ العراقِ، أَكتمُ مَنْ أَنـ ـتِ، وأَكنِي عن حبِّكم بالعراق

لي قوافٍ تَعِفُّ في الحبّ إلا عنْكِ، سارت جوائِبَ الآفاق

لا تَمَنَّى الزمانُ منها مزيداً إن تمنيت أن تفكي وثاقي

حمِّليني في الحبِّ ما شئتِ إلاَّ حادث الصدّ ، أو بلاءَ الفراق

واسمحي بالعناق إن رضي الدّلُّ وسامحت فانياً في العناق

 

يا الله ما أجمل إلقائك للشعر!

 

سأقول لك شيئا لم أخبرك به من قبل,أنا أحب كل شنقيطي على الأرض ألا إتني لا أحب إلقاء غالبيتهم للشعر فكأن القصيدة عندما يقولونها تسقط من عقولهم على لسانهم دون أن تلقي على قلوبهم حتى تحية الإسلام عداك أنت وعرابي,ثم إن مخارج حروفك كقلبك صافية ونقية وكأنها ينابيع ماء عذب تخرج من جبل أخضر ولا أدري كيف عافاك الله من التهوع الذي يرافق إلقاء الشناقطة للشعر فوالله لم أغار من شيء يوما كغيرتي من القصائد التي تزف من فمك إلى قلبي!

 

لنعد مرة اخرى إلى صوتك..

 

في ذلك اليوم عندما زرتك في إستانبول كنت في أمس الحاجة لسماع صوتك,بل كنت عطشى عطشى عطشى له,فلما أرويت عطشي بالدموع؟

 

عندما سألتني وملء عينك وجل

 

هل ألتقيتي به في أستانبول؟

 

ما كان مجرد سؤال بل صفعة!

 

أعلم أن دخول الممرضة في تلك اللحظة لم يكن الا من لطف الله بي لشدة ما لقيته من هذا السؤال خلال ثوان فقط!

 

لماذا فعلت بي هذا؟