إعلان

عندما يَسْتَبِدُّ بك الشجن ... / (من حكايات زمن الظرفاء)

جمعة, 04/19/2019 - 03:04

ناجي محمد الإمام

 

كان الوقت ليلاَ ، ذات مصيف ساخن تعرف العاصمة سرَّهُ ، من سنة 1983 عندما توقفتْ سيارة "إسوزو قلاّبة" جديدة ،أمام الغرفة الخشبية التي نزلتُ بها بعد خروجي من المعتقل، ظننت أول الأمر أنه وفد من زوار الليل جاء ليعيدني إلى منزلي الأصلي عندهم ، ولكن الرجل الأبيض الطويل ذا الشعر الأسود المنسدل على الكتفين بكثافة ، كان مألوفا لديَّ، دفع السائق الباب ليفسح المجال أمامه لينزل فإذا به الصديق (م م ب) الذي كان مغتربا في شمال القارة الجديدة بابتسامته العريضة وصوته الرزين الأجش المتباطئ : قوم ..قوم ..نجلو عنك الكدر.. 

طلبتُ منه الجلوس ، ولو أن المكان غير ممهد لاستقبال المرفهين القادمين من أرض العم سام، فأبى إلا أن أصحبه إلى حيثُ "بَرَّكَ"
وهذا ما كان ...فاتجهت السيارة رأسا إلى الشاطئ وتوقفنا قبالة ما كان يعرف بفندق صباح فتنكبناه إلى الشاطئ مباشرة ...
أشرفنا من الزبارة و البدر في ليلة تمه على منظر يشفى من البله....
طنافس مبثوثة و زرابى تكسو رملاً أنعم منها ونمارق بألوان فراشات ربيع الواد الأبيض.. وسرب من النواعم وبينهن المفاجأة الكبرى ...إنه سيد احمد البكاي ولد عوَّه في كامل أناقته و قمة مزاجه السعيد وضحكته الملعلعة ...
مضت سنتان لم نلتق فيهما ، لظرف معلوم، و رغم هول المفاجأة عليه فلم ينس قبل المصافحة أن ينشد بيتا ...
إنك لو شهدت يوم الخندمه :: إذ فرَّ صفوان و فرَّ عكرمه
فقال (م م ب): أعجب لو عْرفتْ...
ومدّ يده المنحوتة على قصبة التيدينيت لطول المراس وعتق الصحبة قائلا :أبَّه بويَا أنتَ كنت فْ "سلُّورو" ... مانك مْدايقْ ..
مانك سارقْ ...ألاّ سْلاطه و خْلاصْ...
وجلسنا بينما انهمكت البنات في تحضير المائدة و استقبال بعض الوافدات القليلات ...وأخيرا و صل الرجل الأخير مضافا إلى ثلاثتنا ..فاستثار مكامن الشك في روع سجين لمَّا يمض على تسريحه
شهر،إنه مفتش شرطة ،و صديق قديم للمضيف ، لكن ...
ولما لحظ (م م ب) أن الأمر قد لا يكون موفقا همس لي :تعرفُ 
علاقتي به إنه جاء من غيرسوء نية والخطأ مني...
في حدود العاشرة كان السماط قد رفع و استوى الحديث، فمجالس الظرفاء تبدأ بدوزنة اللغة وتساوق المفاهيم و تناسب المعاني و استجرار المقاصد حتى تصل إلى رَحابة الإنسجام ليصبح المجلس كطائرة الجامبو عندما تستوي في المسار ويصفو الجو يربط الربان المحركات بالملاحة التلقائية ويأوي إلى سريره مطمئن البال...
وقفت منتحيا جانبا و أغمستُ قدمي في ماء المحيط الأطلسي ومكثت برهة أطيل لذ ة ثلج الوصل على كبد المهجور ..
أصغي إلى أنين المحار يختصر قصة الشاطئين ليلة "يد" ..
وأسبلتُ دمعًا أضن به على الناس ، وعداً لكبرياء الشعر أن لا يسيل...
وليس في ألم البشر ما يوازي حُرقة كتمان العبرة السخينة ينفيها الصابر إلى البراري الموحشة في ذاكرة الحزن ...
قال (م م ب ): سامحني لم أجد الوقت الكافي لأبلغك أن ما نحن فيه هو جزء حميم من احتفالي بالزواج من (ب ع) التي ، كما تذكر ، رفضني أهلها عدة مرات ولكنني بالصبر و الفلوس تغلبت على الجميع!
...تمنيتُ لو أنني استطعتُ أن أجد لك أثراً فليس متاحا لقاؤكم في هذه الحياة شبه السرية ..ألمْ يطلق سراحك؟
قلت للصديق متخلصا : دعك من حديث الجفاء فالجو ، كما تفضلت، جو مرح وفرح وللحديث بقية...
ــ كما عهدتك لا تهزك الريح...قالها و انطلق من بين سجوف البحر والبر و أجواز الفضاء ...شجن ابن عوة وهو يغني والموج يرجع الصدى....
ألا لله درك مـــــــن أبــــــيِّ .. أديب شاعرٍ حسن التزيِّي
ترنمُ بالقريض و حين تشدو...تَرُدُّ أخا الرشاد لكل غَيِّ
فبينك والمغنين الشوادي .... كما بين الصبيحة والعشيِّ
وصدح وترنح ،ودار، بين السقف والقرار، وساد سكون تحسب فيه حركة الأبارق و الكاسات هزيم رعد .. حتى المدُّ والجزر يسرقان فعلهما الأزلي و يكتمان طق الزبد لكي يبقى شدو ابن حمه رفيق العيون النجل والجمال البزل و بخور النزل دون نشاز

غير حكاياته الغارقة في الشجون...قلتُ هامسا: عوتي لمن الأبيات؟ 
ــ تعرفُ يا وَنِّي ...المرحوم الشفيع ولد المحبوبي ...
ــ إنه يذكر حسن ملابسك ...ماذا كنت تلبس؟ 
ـــ دراعة من "سنطرو"... سروال من شقت بركال عال ، وحول من بلمان.
ـــ أين كان ذلك؟
ـــ جئتهُ في دائرة العيون...عيون المقفى ، فأنعم علي بالعطايا و قال في هذه الأبيات..
وكان العلامة الشاعر الجهبذ الشفيع بن المحبوبي رحمه الله قد تنقل بين أغلب مدن الوطن بصفته مفتش تعليم أو مستشارا تربويا , وكانت عدسته الشعرية تخلد خصائص كل منطقة ...
من ذلك قوله في العيون:
عيون التيس إنسان العيون :: بها ما شئت من لهو المجون
فلا رأت العيون،بجاه طــه :: بها مرضا سوى مرض العيون

وتقلب سد احمد بين جوانب الهول كما يتقلب العاشق المسهد على جنبيه ليالي الهجر و النأي...و ردد:
إن ابن عوَّ حباهُ مانح المنح*حسن الأغاني وحسن اللهو والملح
ولما بلغ الليل وقت هجوعه وبدأت الحسان تتكحلن بالنعاس قال المضيف...
ـــ سنكمل غناءنا بنفس المكان مساء الغد ولكن داخل الفندق...
رفع ابن عوة عقيرته بحديثه المموسق قائلا:
أنا و التدينيت و عدَّال أتايْ و لبتيتْ لن نبرح حتي ينام هذا البحر(أطيموم)...

...يتواصل...