إعلان

من يوميات حطط.. (الجزء  الرابع الحلقة  -  116) / إبراهيم الأندلسي

أربعاء, 07/17/2019 - 14:59

ألِفَت خيمة الوالد هرصبوب مشاهدَ
من الماضي جديرة باهتمام الباحثين،
هذه الخيمة كانت ملتقى الوجوه،
بجميع ألوانها و توجهاتها،
هنا عُقِدت تحالفات قبلية، و وقِّع صلح بين قبائل، و هنا جلس فلان
المشهور ، كان في ذلك الركن القصي،
لكأن المكان يتذكر كلماته، بنبرته
الصادقة الهادئة.
إن الأركان و الأماكن و الجهات تشتاق
هي الأخرى، و لكنها لا تملك الدموعَ،
فهل الدموع رمز رقة أم رمز ضعف؟
إنها تشتاق بصمتها ، دون أن يُحدث
ذلك الصمت أي إشارة، و المتبصِّر وحده يَعرف ذلك و يُشاهده.
يقول حطط في مجال حديث ذكريات
جمعه ذات ليلة باردة مع شلة من الرفاق، قال:
لقد حدثني الوالد عن أغرب ما رأى
من خبر شجرة آدرس، التي يُطلقون
عليها اليوم البشام، و لا علاقة لها
بالشام و لا بأبيه أبدا، كان الوالد غاضبا من ذلك التعريب الفج،
فهو لا طعم له و لا يحمل شحنة
العاطفة، و لا مقاطعها الجميلة.
قال لنا الوالد هرصبوب: 
إن تلك الشجرة
كانت لها عصارةٌ نادرة، مريرة الطعم،
لكن فيها أنواعا من الدواء غريبة
سريعة المفعول، و كانت تستخدم
استخدامات أخرى، و لحبها عندهم
سمَّوها أُمَّ الناسِ، فكأنها أمُّهم.
كانت حبوبها أيضا ذات فوائد كثيرة.
و الأغرب من ذلك قدرة أغصانها
و جذوعها على الحياة من جديد،
فحين يقف الغصن مرة ثانية يمد 
جذوع المودة إلى التربة من جديد،
فيكون عناقُهما حياةً جديدة ذات
أزهار و أوراق و روائح ندية.
كم أنقذت الشجرة من حياة في متاهات الصحاري، فعيدانها لرقتها
سريعة الاشتعال، يكفيها احتكاك
بسيط ليخرج الضوء المخبوء داخلها.
ارتبط مسواك آدرس بقصص الجمال
و الحب و العشق، و أصبح رمز التكريم ، و قد فاز على أقرانه بأنه
يرتشف أعذب ابتسامات الزمن،
و يكون حاضرا في أغلب المشاهد،
فكم كُتب من الأدب الشعبي و الفصيح فيه، إنه يتحدى جميع
الأغصان في العالم، بل أصبحت
الزهور و الورود في صراع دائم
معه، فهي مدار الشم و النشق،
و هو الوحيد الذي يفوز بالقبلات،
و لوقت طويل، فكم تمنى العاشق
أن يكون مسواكا من آدرس.
لقد دخل حياة الأدب، و الحياة
الاجتماعية، و حياة  الصبا، فمن
يمكنه أخذ مكانه اليوم، حتى
معلبات الأسنان أثبتت فشلها
الذيع ، فلم يذكرها ذاكر رغم مرور قرنين على ميلادها، و مازال المسواك
في مركز الصدارة، و بدون منافس
حقيقي جاد.
إن غضب آدرس اليوم و محاولته
مغادرة الأرض هو غضب حقيقي،
و له جذور ثقافية و مناخية، فلماذا
لا نقيم حدائق آدرس؟
فهي التي تُتقن الحسانية و تهتزُّ لسماعها في كل وقت.
لماذا لا نلتفت إلى انسحابه التدريجي
من حياتنا الواقعية، و من ثقافتنا؟
إن كثيرين سيخجلون حين لا يستطيعون تقديم مسواك من آدرس
لأبنائهم، حين يذكرونه كما تُذكر العنقاء في كتب الخرافات،
يقول هرصبوب مازال الوقت متاحا،
و لكنه لن ينتظر حتى يُفيق النائم
من سبات طويل.
كان الوالد ينثر دموعه حين يتذكّر
غابات آدرس، على الكثيب الغربي
و في سهول التلال المجاورة،لقد
كانت مناظر مُقتنَصة من جِنان
الخلد و من نبضات زمن جميل.