ولد ابنو يحاضر في تونس عن أزمة استتباع المؤسسات الدینیة وأزمة التكوین

أحد, 08/11/2019 - 01:34

في مستوى الظاھرة المعاصرة : بین أزمة استتباع المؤسسات الدینیة وأزمة التكوین 

  

  

الدكتور بدّي ابنو 

أستاذ بجامعة باریس دوفین ومدیر معھد الدراسات والأبحاث العلیا في بروكسیل 

  

   

  

" ولأن ھاھنا طائفة تشبھ العوام من جھة، والمجتھدین من جھة، وھم المسمون في زماننا ھذا بالفقھاء، فینبغي 

أن ننظر في أي الصنفین أولى أن نلحقھم ؟ وھو ظاھر من أمرھم أن مرتبتھم مرتبة العوام وأنھم مقلدون." ابن رشد 

  

فاتحة 

  

الأستاذ الدكتور العزیز الفاضل محمد بالطیب، الأستاذات الدكتورات والأساتذة الدكاترة الأفاضل، 

  غني عن القول إنّي لستُ مختصا في الظاھرة الدینیة في تونس العزیزة وتظلّ دائمة العبارة القدیمة "أھل مكّة 

أدرى بشعابھا" عبارةً وجیھة في أغلب السیاقات. 

مساھمتي قدْ لا تخصّ الظاھرة الدینیة في تزنس ولكنھا تھدف إلى طرح عدد من الأسئلة ـ التي نفترَض أنّھا ملحة 

ـ طرحھا على كل دارسي الظاھرة الدینیة في تونس وفي غیرھا من البلدان ذات الأغلبیة الإسلامیة .  

أول ھذه الأسئلة یتعلّق بما تعنیھ فرضیة استقلالیة الھیئات التربویة والأكادیمي، استقلالھا النسبي كسلطة ضبط 

رمزي تفُترض قدرتھُا على رفض الاستتباع الدعائي المباشر. فھي مستھدفة بشكل مزدوج لتصبح أو لتظل ھیئات 

تبویقیة لصالح إیدیولوجیا السلطة الحاكمة أو لصالح أیدیولوجیا سلطة الحركات البدیلة أو المعارضة. ومنْ ھنا 

الدور المركزي الذي أصبحَ یلعبھ ـ دعائیا وإعلامیا ـ بعضُ المحسوبین علیھا (بشكل فعلي أو متوھّم) في 

الاستقطابات الصِّدامیة الحالیة. إنھا إذاً ساحةُ معركة مستھدفة من الطرفین (الأطراف) لجعلھا أو لإبقائھا 

مؤسسات دعائیة إیدیولوجیة تبریریة لا مؤسسات رصینة نسبیا بحكم مھمتھا التربویة والعلمیة. 

  

  

1ـ في ذاكرة الاستقلال والاستتباع 

  

اـ من المھمّ أن نتذكّرَ بھذا الخصوص ـ وعكساً لعدد من الصور النمطیة السائدة حالیا ـ أن أغلب العلماء والفقھاء

القدماء الذین كان لھم تأثیر اجتماعي في التاریخ الإسلامي ھم اللذون رفضوا ـ بشكل نسبي وجزئي بطبیعة الحال

ـ أن یكونوا آلیة تبویقیة تبریریة. أي رفضوا الاستتباع الإیدیولوجي من قبل السلطة السیاسیة سواء تعلق الأمر

بالاستتباع من طرف أصحاب الحكم أي من طرف السلطة القائمة أو من طرف أصحاب الفرق المعارضة أي من 

طرف السلطة البدیلة. ولا یخفى أن تلك النظرة الحذرة لدى بعض العلماء تجاه السلطة السیاسیة ھي، في بعض 

جوانبھا المركزیة، إحدى الانعكاسات العمیقة لتداعیات الفتنة الكبرى والصراعات السیاسیة والمذھبیة الكثیفة 

التي تلاحقت تبعا لھا والتي اختصرتْ دلالَتھا عبارةُ الشھرستاني الشھیرة "وأعظم خلاف بین الأمة خلافھا على 

الإمامة إذْ ما سُلّ سیف في الإسلام على قاعدة دینیة مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان". (الشھرستاني، الملل 

والنحل، ج.1، ص .31) 

ب ـ ویكفي للتدلیل على ھذا الموقف الحذر لدى عدد من العلماء القدماء  ـ في الفضاء "السني" التقلیدي مثلا 

ـ التذكیر بمواقف أئمة المدارس الفقھیة الأربعة : كما یبینھا مثال رفض أبي حنیفة لتعیینھ قاضي الكوفة في عھد 

الخلیفة الأموي یزید ابن الولید أو لمنصب قاضي بغداد في عھد الخلیفة العباسي المنصور. بل إصرار ھذا الفقیھ 

بحسب الرواة على رفض المناصب التي عُرضتْ علیھ رغم السجن والقمع الذین تعرض لھما لإرغامھ على قبولھا 

أو قبول بعضھا (أبو زھرة ، أبو حنیفة حیاتھ وعصره ـ آراؤه وفقھھ، ص .35ـ59). بل تذھب بعض الروایات 

إلى أنھ قتٌل مسموما أو سجینا بسبب مثل ھذه المواقف (ھذا طبعا بغض النظر عن تبني العباسیین لاحقا في عھد 

الرشید للمذھب الحنفي). وتنُسب لمالك ابن أنس مواقف شبیھة بعد سجْنھ خلال حكم الخلیفة العباسي المنصور 

ثم رفْضھ اقتراحَ الأخیر بأن یصُبحَ عالمُ المدینة ما یمكن أن نسمیھ المحِّدِّثَ والفقیھ الرسمي والحصري للدولة 

العباسیة عبر رفضھ مشروع اعتماد مؤلفھ المستقبلي في الحدیث ـ أي الموطأ الذي ألفھ مالك بعد ھذه الحادثة ـ 

رسمیا كالمرجع الوحید المسموح بھ في الأحادیث النبویة. وھناك روایات ذات دلالة شبیھة عن رفض الشافعي 

لھدایا قدمھا لھ ھارون الرشید (الغزالي، مقامات العلماء عند الخلفاء والأمراء، ص43 ؛ عطیة رزق، العلم 

والعلماء في عصور الخلفاء، ص .123) أما موقف ابن حنبل خلال ما عرف بمحنة خلق القرآن فھو أكثر من مشھور. 

ج ـ الروایات المتعّدّدة بھذا الخصوص مھمة ظاھراتیا لما تكْشفھ وتصدرُ عنھ أكثر من أھمیة فحص حقیقتھا 

التاریخیة بما الأخیرة كذلك. وأھمیتھُا ھنا تصدر أساسا عما تعُبّر عنھ داخل الذاكرة الكتابیة الجماعیة ـ ولیس 

ضرورةً داخل التاریخ بالمعنى الحصري ـ التي احتفظتْ واحتفتْ بھا. یمكن أن یقال عن ھؤلاء كما تصفھم الذاكرة الجماعیة إنھم لم یقبلوا أن یكونوا جزءا من سلطة المعارضة عكسا لعلماء الفرق المذھبیة السیاسیة ولم یقبلوا

أن یكونوا جزءا من الجھاز الدعائي لسلطة الحكم القائم عكسا لعلماء البلاط وظلوا نسبیا سلطة أدبیة لا تتمتع

بجھاز مؤسسي متعین. فاعتراف المجتمع التدریجي بمكانتھم العلمیة ومن ثم بمكانتھم الاعتباریة ھو ما بھ أساسا

تكَرّستْ سلطتھُم الأخلاقیة. بل یمكن أن نقول إن المجتمع انتصر ذاكراتیا لھم عبر تركیز الاھتمام على مدارسھم 

الخاصة وآرائھم الفقھیة وعزوفھ عن كثیرین غیرھم ممن كانوا یتمتعون بشرعیة السلطة القائمة أو البدیلة .ویكفي تمثیلا ھنا أن نقارن بین المكانة التي مازال یتمتع بھا فقیھ كأحمد بن حنبل والإعدام الرمزي الذي َّ تعرضَ 

لھ قاض مثلا بمستوى یحیى ابن أكثم الذي تكاد لا تستدعیھ الذاكرة الجماعیة إلا بخصوص الروایات غیر الجادة 

التي تھتم بنمط حیاة المأمون بن ھارون الرشید. 

دـ طبعا لا َّ شك أن علاقة السلطة بالمؤسسات العلمیة والدینیة علاقة معقدة بطبیعتھا ولا یمكن اختصارھا عبر 

عصور التاریخ الإسلامي في النماذج التي قدمناھا. كما لا یمكن اختصار علماء السلطة والسلطة البدیلة دائما في 

البعد الدعائي التبویقي أمام التعدد الطبیعي للمعطیات والأوجھ. ولكن ھذه النماذج وكثیرا غیرھا تشھد أنھ كانت 

ھناك رغبة جلیة في ابتعاد ممثلي العلم اجتماعیا عن الاستتباع السیاسي من قبل السلطة الحاكمة أو معارضتھا 

وإبقائھم في مستوى من الاستقلال النسبي یؤھلھم لأن یلعبوا دور أصحاب المعرفة التي تتمیز إذا بمستوى ما عن 

الإیدیولوجیا التعبویة. وھو الاستقلال النسبي الذي ھددتھْ وتھدده ترسانات الدعایة الإیدیولوجیة الحدیثة في كثیر 

من الدول العربیة والإسلامیة. 

  

  

2ـ  من أزمة الاستقلال الأكادیمي الدیني إلى أزمة التكوین 

اـ یجدر بنا أن نأخذ ھنا معطیین بدیھیین في ھذا الباب على محمل الجد. أولھما أن ترتیب معظم الجامعات 

الإسلامیة یأتي في آخر السلم العالمي ولیست لھا أي مكانة  تذُكر في البحث العلمي سواء الإنساني أو البحت .وحتى البحث العلمي الذي یتخذ من العلوم الإسلامیة والعالم الإسلامي موضوعھ فإن مراكزه الأكثر جدیة تحتضنھا 

جامعات وھیئات أكادیمیة خارج العالم الإسلامي رغم ما یمكن أن یعنیھ ذلك سیاسیا. 

ب ـ أما المعطى الثاني فیتعلق بالآلیات التي تتشكّلُ عبرھا معاییر التمایز التخصصي كآلیات ذات دلالات ثخینة 

وحاسمة عند المسلمین كما عند غیرھم. یتعلق الأمر تبعا لذلك بمختلف المیكانزمات السائدة الآن في الدول 

الإسلامیة والتي یتم عبرھا صراحة أو ضمنا مسلسل التمایز المدرسي والأكادیمي بین فئات الجیل الواحد والتي تشُكّل الخلفیة المحددة لتوجیھ أنماط معینة من التلامیذ ثم الطلبة ثم الدارسین أو الباحثین إلى حقل الدراسات

الإسلامیة. لا شك أن ھناك اختلافات معتبرة وإرثا حدیثا متمایزا بین الدول الإسلامیة بھذا الشأن ولكن معطیات

غیر ھامشیة ودراسات میدانیة متعددة تسمح لنا بالقول بأن أصحاب القدرات العالیة وذوي التمیز العلمي

والكفاءات الواعدة، یتمّ في معظم الأحیان الحرص على توجیھھم خارج میدان الدراسات الإسلامیة، ویتم الحرص 

على ذلك مؤسسیا واجتماعیا بشكل مباشر أو عبر سلالم انتقائیة رمزیة متعددة الطابع ومتعددة القدرة التوجیھیة .ج ـ ولا ینتج الأمر ھنا بالضرورة عن نیات مبیتة أو مخططات مبرمجة بشكل واع ولكن عن میول عامة تعبر 

عنھا، في مستوى أقرب إلى اللاوعي الجماعي، المجتمعات الإسلامیة ككل. وھو ما ینتج عنھ في عدد كبیر من 

الدول والجالیات الإسلامیة مفارقة لا فتة یجسدھا كون الفئات الأكثر قدرة على التأثیر في المجتمع أي الأكثر 

مركزیة في إنتاج القیم الروحیة والرمزیة ھي الفئات التخصصیة التي لم تتمتع إلا بأقل مستوى من عنایة المجتمع 

بالتربیة والتكوین مقارنة بالفئات التخصصیة الأخرى. 

  

ـ7ـ خلاصة تساؤلیة أولیة 

یمكن أن نخرُج من ھنا باستنتاج أوّلِي في ھذا الأفق لوضْعھ للنقاش. فاستئناف التفكیر في دوْر الفقھاء والعلماء 

یقتضي إذا صدقتْ المنطلقات السابقة استئناف التفكیر في مدى تمتعّھم أو إمكانیة تمتعّھم باستقلال مدني عن 

سلطتيْ الأنظمة ومعارضاتھا وفي وضعیة الجامعات الإسلامیة عالمیا وفي میكانیزمات التوجیھ التي تؤطر تحدید 

أو اختیار التلامیذ والطلبة والباحثین في حقل الدراسات الإسلامیة. وھو ما یؤول بداھة إلى مساءلة مكانة الحقل 

التربوي في الخیارات المجتمعیة الرئیسة في العالم الإسلامي.