إعلان

محمدن ولد إشدو يكتب... كل طرقي تؤدي إلى تونس!

اثنين, 08/26/2019 - 03:17

لم تختلف بداية رحلتي هذه السنة، إلى العراق لحضور مهرجان المربد، عن سابقتها في السنة الماضية إلى بريطانيا.. فكل طرقي تؤدي إلى تونس!

غادرت مدينة نواكشوط بحلوها ومرها يوم الأربعاء 20  نوفمبر 1996  على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية التونسية تربط نواكشوط أسبوعيا بتونس العاصمة.

تم الإقلاع ظهرا. وكانت التعليمات، وبرامج الرحلة ـ خلافا لما به العمل عندنا – في غاية الوضوح, وبلسان عربي وفرنسي مبين، يؤديه صوت نسائي مثقف رخيم.

لم يسعفني الحظ، في هذه الرحلة، بمفاكهة أديب ناقد ظريف "يحملني"، كما في سابقتها، حين جلست إلى الأستاذ الدكتور محمد ولد عبد الحي، طيلة الرحلة، في سمر شيق حول المدارس الأدبية العربية المعاصرة.

خلدت قليلا إلى الراحة, متناسيا هموم نواكشوط. وبعد غداء شهي وشاي، وقهوة لمن أراد, انصرفت إلى رصد الغروب.

ما أجمل أصيل السماء! عالم سفلي يغرق، رويدا، رويدا، في الظلام، فيلفه ثوب الدجى. وآخر علوي لا يزال ينزف شعاعا فضيا، يسربله من المغرب. نهرب منهما معا. فيدركنا قوس قزح تنعكس أشعته الزاهية على أديم مؤخرة طائرتنا السابحة في الفضاء، على ارتفاع عشرة آلاف متر، كما تنعكس ألسنة نار أججت في خشب السيال، على صفحة وجه تلميذ محظرة شاحب. وما هي إلا دقائق عشر، حتى ابتلعنا الظلام. ولم يبق من شمس ودعتنا، لتمتطي قبة سماء أخرى، غير شفق ضرج المغرب كحريق هائل نكاد لا نفلت من مطاردته.

أما طائرتنا فـ :

"ما أقبل الإظلام حتى أقبلـت      تنساب في لجج الظلام تماشـى

ترمي بعينيها الغيوب منيـرة       وجه الظلام، تفتش الأغطاشـا

حتى إذا فوق المحطة  حلقت       وتبوأت منها الكديـد  فراشـا

وتهافت الأقوام حول ضيائها       فتخالهم،  حول الضياء، فراشا"

وصلنا مطار تونس قرطاج بعد رحلة طيبة, كان الجو معتدلا، والمطار جميلا ونظيفا. وكل الخدمات على المستوي اللائق، سواء من حيث الوسائل، أو الأداء، أو التأطير. وللخطوط الجوية التونسية أسطول جوي كبير، وشبكة مستخدمين مهرة، لا تنقصهم الحوافز، ويتحلون بروح المسؤولية.

ألقت طائرتنا عصاها بين أترابها الجاثمة, "مثل الحدوج على ذرى الحيتان"،  فأفضنا إلى المدينة.

 

"قضاة تونس"

بدأت علاقتي بتونس، عندما جئتها وافدا، في أول بعثة علمية موريتانية تتوجه إلى دولة عربية. وذلك في يناير سنة1961، السنة الأولي من عمر الدولة الموريتانية المستقلة. كان قضاة تونس، يومئذ، المثل الأعلى للمجتمع العربي المثقف الناشئ. فهم، بمعارفهم، وانتماءاتهم الاجتماعية، يشكلون نخبة, وحظوا، فوق ذلك، بالوفادة إلى دولة عربية حديثة ورائدة، تلقوا فيها العلوم، وجلبوا منها مئات المراجع النفيسة، التي كان اقتناؤها، إلى ذلك الحين، حكرا علي الحجاج، وما كان أندرهم.

كانت بعثة قضاة تونس بحق، إحدى ركائز النهضة الثقافية العربية التي نجني ثمارها اليوم. أما الركيزة الأخرى، فتلك الحركة التي فجرها المفتش الأفغاني ذو الغليون الكبير السيد عكاري، الذي أدخل تعليم اللغة العربية إلى المدارس النظامية، وأنشأ شهادة الكفاءة في التعليم (العكارية)، ونظم امتحانات دورية لاكتتاب المعلمين اختار موضوعاتها من الأدب الحديث وعلم النفس, وأسس مكتبة عربية فتح أبوابها أمام القراء في حي سندونة بمدينة سان لويس التي كانت عاصمة موريتانيا في ذلك الوقت.

خضع اكتتاب أولئك القضاة لمسابقة أشرفت عليها نخبة من الفنيين نواتها الإداري الفرنسي الراحل (غابرييل فيرال)، المستشار يومها بوزارة العدل والتشريع، وتم فرز النتائج بموضوعية، تختلف عن معظم أساليب ومعايير اليوم.

وفي يوم من أيام أكتوبر سنة 1960، وفي مدينة ريشارتول السنغالية، حيث متجر والدي، أعلنت إذاعة موريتانيا ـ محطة اندر نتائج تلك المسابقة. وكنت من ضمن الناجحين.

كنت صبيا دون السابعة عشرة، وكان يحرجني وجودي بين جهابذة العلماء الذين من بينهم من هم في سن أبي وأكبر. ومع ذلك كنت في غاية الغبطة والسرور بنجاحي. لم يشاركني أحد من محيطي هذا الشعور، لعدم وعي أهمية الحدث، أولا, وثانيا، لتورع معظم زوايا القبلة آنذاك من عمل المخزن، الذي يرونه موالاة للنصارى وأعوانهم. خاصة إذا تعلق الأمر بصنعة القضاء التي يقدسونها، ويرون وجوب الفرار منها، أسوة بالسلف الصالح.

أما أنا.. وقد تمردت على اقتفاء أبي وعمي ورجال محيطي في امتهان التجارة، فكان حلمي الكبير أن اصبح "موظفا"،  لا طمعا في المال، بل لما كان في ذلك من أسباب الرقي الثقافي والاجتماعي. راودتني في البداية فكرة الانخراط في سلك الدرك الوطني، لانعدام الآفاق المفتوحة أمام المتطفلين علي الثقافة العربية حينئذ. لكن سرعان ما أقلعت عن تلك الفكرة, وتعلقت بأسباب القضاء والتعليم، عندما لاح أفقهما، واجتزت مسابقتيهما بنجاح خلال نفس السنة. واخترت القانون!

 

لائحة الناجحين:

"بواسطة مقرر رقم 315 و.ع.ت بتاريخ 28 أكتوبر 1960 يعلن قبول  المرشحين التالية أسماؤهم في المسابقة التي نظمت يومي 17 و 18 مارس 1960، وذلك بوصفهم ناجحين في تدريب للتكوين المهني لقضاة محاكم القانون الإسلامي, وذلك حسب ترتيب الدرجات:

  1. أب ولد انه – النعمة *
  2. عبد الله ولد الشيخ المحفوظ – النعمة *
  3. محمد ولد ابو مدين – بوتلميت.
  4. بيا ولد السالك – النعمة*
  5. عبد الله السالم ولد يحظيه – انواكشوط. *
  6. الطالب اخيار ولد الشيخ بوننه – سان لويس*
  7. الدنبجه ولد معاوية – بوتلميت.
  8. محمد عبد الرحمن ولد ميلود – بوتلميت*
  9. محمد سالم ولد محمد عالي – بوتلميت*
  10. أحمد ولد عبد الله – سان لويس  
  11. محمد ولد أحمد ولد البشير*
  12. عبد الرحمن ولد محمد بلال – ألاك *
  13. هارون ولد الشيخ سيديا – بوتلميت *
  14. محمد يحي ولد محمد الدنبجه – بوتلميت*
  15. الشيباني ولد محمد ولد أحمد – الاك
  16.  محمد عبد الدايم ولد اتلاميد – النعمة*
  17. التراد ولد عبد القادر – تجكجة *
  18. سيد احمد ولد احمد ولد الهادي – الاك *
  19. إسلم ولد محمد احيد – تجكجة *
  20. ابراهيم ولد مولود – انواكشوط *
  21. محمد ن ولد بار ك الله – سان لويس*
  22. محمد سالم ولد أبي المعالي – اطار
  23. محمد المصطفي ولد محمد عبد الرحمن ولد الشيخ احمد – كيفه
  24. محمد ولد محمذن فال بوتلميت*
  25. محمد عبد القادر ولد ديدي – بوتلميت*
  26. سيد عبد الله ولد الزين – تجكجه*
  27. محمدن ولد اشدو – سان لويس*
  28. محمد الأمين ولد آكاط ـ انواكشوط
  29. محمد محمود ولد سيدين – العيون*
  30. سالم ولد الحسن ولد زين – بوتلميت*
  31. احمدنا ولد محمد مالك – بوتلميت*
  32. احمد ولد حكي – العيون"

 

الرحلة إلى تونس:

لم يفد إلى تونس غير 24 ناجحا من ضمن هذه اللائحة وهم الذين وضعت أمام أسمائهم علامة * .

بدأ الإعداد للسفر من مدينة سان لويس (حيث وزارة العدل) التي غادرناها جوا إلى دكار. كانت المرة الأولي التي أمتطي فيها طائرة. ومن دكار توجهنا جوا  إلى مدينة مرسيلية الفرنسية، التي أقمنا فيها أياما ثلاثة أو أربعة بغية التسوق والتهذيب. كانت محطة مرسيلية، بالنسبة لنا، بمثابة التحضير لدخول عالم المدينة. ففيها واجهنا مشاكل العصر. وكان ألحها: استخدام مرافق الفندق, طريقة الأكل في المطاعم واستعمال أدواتها, اقتناء وارتداء الملابس العصرية, آداب ونمط السير في الطريق العام الخ.. وباختصار شديد كان الفرق بيننا، وبين سلفنا أصحاب الكهف، ونحن ندخل "مغاني شعب مرسيلية" يتمثل في رواج العملة التي في أيدينا لا غير. ففي اليوم الأول، كان مجرد مرورنا بشارع من شوارع المدينة، كفيلا بتعطيل حركة المرور. فمشهد كوكتيل اللحى، والدرأريع، ومختلف أنواع وألوان الجلابيات والعمائم، في شارع من شوارع العاصمة الاقتصادية الفرنسية، بديع جدا، ومثير. خاصة، إذا زاد من طرافته، ركوض القنصل الموريتاني، الفرنسي الجنسية، يمينا ويسارا، وهو يعد القطيع، عند كل منعرج، للتأكد من عدم ضياع أي رأس منه. وكان "المسكين" يقدمنا إلى المطاعم و الفنادق والمخازن معتذرا: "إنهم قادمون من ما وراء البحار"!

وفي مرسيلية تمتعت برؤية الجبل، وركوب البحر لأول مرة. خرجنا في نزهة بحرية علي يخت، لعل القنصل أجره لذلك الغرض, أخذنا نمخر عباب البحر الأبيض المتوسط.

 شعرت حينها، وأنا الفتي الإكيدي، بسعادة لا حدود لها، وقد ركبت بحر طارق بن زياد، الذي كنت أسمع عنه في "الأساطير".. دون أن أحلم برؤيته. فما أغرب الأقدار!

هاج البحر واضطرب, فترنح اليخت ثملا, عندها كتبت مخاطبا البحر بيتين إلى صديقي الجديد محمد سالم ولد محمد عالي ولد عدود (الشيخ العلامة محمد سالم ولد عدود). وكنت أظنه البحر.  وكان بالفعل بحرا. لكن البحر أخوه الأكبر الذي سمي كذلك تيمنا بعبد الله بن عباس:

ترفق بنا يا بحر، ورأف، فإننا     بناة بلاد يختشي ضيمها البحر

وفينا بحور هابها كل أطلـس      محيط ومنها السيد الماجد البحر

فكتب إلى محمد سالم، بداهة، منبها ومقرظا:

أرى في بحور الشعر رأيك مقسطا        جعلت الطويل الأبيض المتوسطا

فأخرجت در البحر والبحر زاخـر        بغوصك فيه آمنا  متبسطـــا.

ولم نبرح مرسيلية حتى صرنا على مستوى معين من التمدن، فارتدى معظمنا الزي العصري، وتهذب سلوكنا، واكتسبنا الكثير من عادات الحضر. وحدها عقدة رباط العنق ظلت مستعصية علي بعض زملائنا، أصحاب الحل والعقد، إلا انهم انتدبوا لذلك خبراء من الجماعة. ولم يبق غير أفراد قلائل لم يؤثر فيهم القنصل، الذي يبدو أن لديه تعليمات في هذا الشأن. ولم ننجح نحن في إقناعهم، رغم ما بذله رواد مثل محمد سالم ولد عدود وعبد الله ولد الشيخ المحفوظ ولد بيه وعبد الله السالم ولد يحظيه. وظل أولئك الأفراد على الفطرة! إلى أن عادوا في آخر السنة إلى ارض الوطن. ومن مرسيلية أنخنا بتونس على متن طائرة كرافيل أغلب ظني أنها تابعة للخطوط الجوية التونسية.

 

مقامنا في تونس:

استقبلت بعثتنا بالترحيب والتبجيل من طرف السلطات التونسية الشقيقة. نزلنا في فندق ميتروبول، الواقع في مدخل شارع اليونان المتفرع عن شارع لحبيب بورقيبة. كان برنامج تربصنا حافلا تزدوج فيه المحاضرات المخصصة لنا والتي تم وضعها بالتشاور مع مسئولي وزارة العدل والتشريع الموريتانية، مع محاضرات كلية الحقوق الناشئة التي فتحت أبوابها أمامنا، ومزاولة التكوين الميداني في محاكم تونس العاصمة. وقد بدأت التدريب في محكمة الشغل بعناية القاضي الجليل السيد عبد المجيد النيفر. أما المشرفون على دراستنا، فكوكبة من الشيوخ والأساتذة الإجلاء أذكر من بينهم علي سبيل المثال : الشيخ الفاضل بن عاشور، مفتي الديار التونسية, محمد المالقي, العنابي، عبد السلام, محمد السنوسي.

ومن الجدير بالملاحظة هنا أن السنة الأولي من كلية الحقوق كانت تضم في تلك السنة نيفا وأربعين طالبا، من بينهم طالبة واحدة. وقد خلد حضور تلك الطالبة بيتان مازح بهما أحدنا زميله:

لقد أضرت بفتي  غــادة     قد حضرت في حضرة المالقي

لا بد من شكوى إلى حاكـم     يرفع عن ذاك الفتي ما لقي.

وبدوره، تقبلنا المجتمع التونسي بسرعة. فإضافة إلى ما أظهره الطلاب والأساتذة والقضاة وغيرهم من تسامح وصفح عن ما يبدو من زلل من هؤلاء القادمين من أعماق الصحراء, منحتنا المطاعم والمكتبات والخياطون وبعض المؤسسات التجارية الأخرى ثقتها وأعطتنا كل حاجياتنا لفترات تطول أحيانا بسبب تأخر المنح.

والنخبة في تونس تعرف الشناقطة وتقدرهم, لأن الشيوخ من شنقيط كانوا يمرون في طريقهم إلى الحج بهذا البلد المالكي العريق، فيأخذون عن علماء الزيتونة، والقيروان، وغيرها، ويأخذ عنهم أولئك العلماء. خاصة أن الشنقيطي السلف، قد اشتهر بين اخوته العرب، والأفارقة المسلمين، بالتحصيل، والحفظ، والنظم. وقد برهن على ذلك، حفظ معظم أفراد بعثتنا لمتون المذهب والعربية, مما أثار إعجاب شيوخنا، وأساتذتنا، وأيقظ في بعضهم الحنين إلي المناهج الزيتونية والقيروانية، ذات الخصائص المتميزة، التي تفتقر إليها مناهج العصر، رغم ما لهذه الأخيرة من مزايا. أما موريتانيا، فلا يعرفون عنها إلا القليل. فرغم أن الجمهورية التونسية خرقت إجماع العرب لتعترف بموريتانيا, وأن هذا الاسم كان يطلق في غابر العصور على شمال إفريقيا،  بما في ذلك تونس، وأن متحف باردو يحتوي نقودا ذهبية نقشت عليها "مملكة موريتانيا"، فإنهم كانوا يسألوننا من نحن؟ فإذا قلنا: نحن من شنقيط، وقلما نقولها بسبب تحمسنا للكيان الجديد، تهللت الوجوه، وانهال الترحيب والثناء. أما إذا قلنا: نحن من موريتانيا، فإن السائل يتحفظ بسرعة، ويقول بأدب بريطانيا؟.. تشرفنا! ولم يكن رصيد بريطانيا، يومها، كبيرا في العالم العربي، بسبب اشتراكها في العدوان الثلاثي، ودورها في ضياع فلسطين، ودعمها لفرنسا في حرب الجزائر.

كنا إذن أول سفارة موريتانية في العالم العربي، الذي يعج بالتحولات الكبرى. ولم نأل جهدا في القيام بهذا الدور حسب الطاقة, خاصة مجموعة الشباب التي أكملت التربص، والتي نواتها الأستاذ الشيخ محمد سالم بن محمد عالي بن عدود.

فمن تونس التي انتزعت استقلالها، وما تزال دماء شهداء الغدر في ساقية سيدي بن يوسف تنزف فيها، والتي تحتضن الثورة الجزائرية، وتؤوي حكومة الجزائر المؤقتة، في حين ما تزال  تجثم فيه قوات فرنسية على أرضها في قاعدة بنزرت، ربطنا العلاقة بالثورة الجزائرية. وذلك عن طريق الشيخ المرحوم نعيم النعيمي، عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي أسسها وقادها الشيخ عبد الحميد بن باديس، وكان لها الدور الأكبر في الحفاظ على عروبة وإسلام الجزائر. وأسهمنا حسب طاقتنا في مجهود التحرير. وقد أهداني الشيخ نعيم النعيمي  مجموعة مجلة الشهاب لسان تلك الجمعية. وفي النعيمي يقول الأستاذ محمد سالم:

شخص النعيمي العالم النحر يري          اثر السجود بجبهة التحرير.

... وفي تونس،  ندبنا جلالةالمغفور له محمد بن يوسف، ملك المغرب، الذي يكن له الشعب الموريتاني الاحترام والحب. وبكينا ضمير القارة الإفريقية ورمز كفاحها باتريس لومومبا, وعشنا سقوط حلم العرب الكبير في الوحدة بين مصر وسوريا, وإعلان الميثاق في مصر, ومعركة الجلاء عن بنزرت, وانقلاب جنرالات الجزائر, ومفاوضات افيان, وتحرير قادة الثورة الجزائرية الخمسة: أحمد بن بله, محمد خيضر, آيت أحمد, رابح بيطاط  ومحمد بوضياف. وقد استقبلناهم، في يوم مشهود، لم تعرف له تونس مثيلا منذ عودة الزعيم بورقيبة من المنفى، ونحن نرفع العلم الموريتاني عاليا، وقدمنا إليهم باقة زهور منضدة بعلمي البلدين.

وفي تونس، أسهمنا في كثير من النشاطات الثقافية، وقمنا بزيارات إلى بعض المناطق، للتعرف والتعريف، أذكر منها القيروان حيث زرنا مسجد جدنا عقبة بن نافع، وضريح الصحابي الجليل أبي زمعة البلوي, وعين الدراهم واطبارقه اللتين كانتا مسرحا لنشاطات ثقافية, والمرسى وحلق الواد, وحمام الأنف، وأطلال قرطاجة، ومتحف باردو.

 كما صادف وجودنا صدور كتاب المؤرخ التونسي الأستاذ أحمد بن عامر, تاريخ تونس, فقرظه الأستاذ محمد سالم بن عبد الودود بقطعة مطلعها :

إن كتاب السيد العامري            قد ألحق الحاضر بالغابر

وفي هذه الفترة قام الأستاذ محمد سالم بنظم عدة قوانين من بينها القانون الدولي العام، والقانون الدستوري.

وفي نهاية السنة الأولي من تربصنا، استقبلنا الرئيس الحبيب بورقيبة في قصر السعادة بقرطاج، بحضور السيد الهادي خفاشة وزير العدل، وكان بورقيبة في لقائه بنا، يرتدي الجبة التونسية ويلبس الطربوش, ودارت توجيهاته حول العدل كأساس للملك, قال: " العدل أساس الملك. فإذا انهارت جميع مرافق الدولة، أو تأثرت بالفساد، وبقي العدل قائما، فستبقى الدولة قائمة ما بقي العدل. أما إذا تسرب الفساد إلى مرفق العدل، ويئس الناس من الحق، فعندها تنهار الدولة وتسود الفوضى والخراب". ونفس التوجيهات قدمها لنا الرئيس المختار ولد داداه في عشاء أقامه لنا هو والسيدة حرمه، بعد عودتنا إلى ارض الوطن، بدارهم الواقعة آنذاك ضمن المنازل الإدارية المجاورة للجامع الكبير (مسجد السعودية). وقد وعت تلك الوصية ونفذتها تلك البعثة التي شكلت نواة القضاء الإسلامي قبل إصلاح 1983  الذي خلط الحابل بالنابل رغم سلامة الهدف المنشود منه: توحيد القضاء، والتي كان منها الوزراء والسفراء والكتاب والمؤرخون، فضلا عن جهابذة العلماء والقضاة.

* * *

أما أنا :

فضجت بقلبي دماء الشباب      وعجت بصدري رياح أخر.

فرغم تشبثي بحياة الجماعة، وإقبالي على ما جئت من أجله إلى تونس، ورغم جذوري، وما تركه في نفسي الشيخان: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده (مدرستي السياسية الأولي), وما لأستاذي وصديقي محمد سالم بن عبد الودود من تأثير علي, واكتظاظ مكتبتي بكتب الفقه والقانون, فقد أدركت باكرا أني لن أصبح شيخا معمما, أو فقيها، ولا حتى قاضيا, وأن دورا أكثر حيوية واضطرابا، ربما انتظرني! وإن لم تكن معالمه قد اتضحت لي بعد.

وهكذا بدأت مكتبتي تتسع لتضم إلى جانب كتب الفقه من جميع المذاهب والكتابات الإسلامية المتحررة مثل: الإسلام انطلاق لا جمود, كتبا من نمط آخر مثل حديث الأربعاء للدكتور طه حسين ومذكرات ونستون تشرشل وفي سبيل الحق لغاندي ومن السجن إلى الرئاسة لنهرو وسلسلة اخترنا لك المصرية التي كنت ألتهم كلما يصدر عنها من فكر وسياسة وأدب, ودواوين وكتب شعراء وكتاب مثل : شوقي والشابي ومفدي زكرياء وأحمد أمين وقاسم أمين والحداد.

واطبتني السياسة فشاركت في استقبال المارشال جو زيف, ابروز تيتو رئيس يوغوسلافيا وزعيم عدم الإنحياز عندما كان ضيفا على تونس, كما اشتركت في مهرجانات الحزب الحر الدستوري. وكان أحدها مشهورا تم عقده في قاعة البلماريوم  وحضره الرئيس بورقيبة وقادة الحزب والدولة لتدارس الموقف من اقتراحات فرنسا في شأن الجلاء عن بنزرت. كان هناك يومها اتجاهان: أحدهما يدعو إلى الجهاد، والآخر يدعو إلى التفاوض. وقد تمسك الرئيس بورقيبة بسياسته المرحلية "خذ وأطلب" ودافع عنها. وفي نهاية المهرجان وقف بورقيبة والباهي الأدغم والمنجي سليم وغيرهم من قادة الحزب والدولة يغنون النشيد الوطني التونسي "حماة الحمى". وقفت أغني معهم بين آلاف المغنين هذا النشيد الوطني الجميل.

وفي تونس قابلت، بطلب مني، الزعيمين المغربيين عبد الرحيم بواعبيد وعبد الرحمن اليوسفي، وكانا في زيارة إلى تونس، وشرحت لهما إصرار الشعب الموريتاني على الاستقلال. وقد تفهما وجهة نظري وعبرا عن عدم تبني حزبهما (اتحاد القوي الشعبية) آنذاك لمقولات العرش, وحزب الاستقلال في هذا الصدد, وعبرت عن هذا الموقف عبارة بواغبيد الشهيرة: "لكي نرضي علال يجب أن نحتل السنغال".

كما حضرت بالمسرح البلدي محاضرة للأديب الكبير ميخائيل نعيمة, عن كتابه الغربال.

وألقيت، وأنا ارتدي الدراعة، في نادي اللغات الحية الذي يشرف عليه الأستاذ أحمد بلخوجة محاضرة عن موريتانيا حضرها جمع غفير من المثقفين والشباب ونشرت منها أجزاء في مجلة النادي, وربطت علاقات ود وصداقة مع أدباء وشعراء وصحفيين تونسيين من بينهم الأستاذ عبد المجيد بن جدو صاحب كلمات نشيد "بني وطني" ومنور صمادح. وكذلك مع طلاب وشخصيات من السنغال ومالي والمغرب من بينهم على سبيل المثال: زين العابدين التجاني الذي كان طالبا في تونس, وقد آلت إليه خلافة الشيخ التجاني فيما بعد وزار موريتانيا أكثر من مرة, والأديب الشاعر الفقيد صالح أمبوب, والشيخ المنصور صال ابن الشيخ الحاج عباس صال وخليفته اليوم, وكلاهما من السنغال الشقيق وسان لويس بالذات. وأحمد البكاي من جمهورية مالي (أزواد). والأديب والكاتب بيراكو جوب الذي كان سفيرا لبلاده السنغال في تونس. واشتريت كمية من كتاب " دفاعا عن اللغة العربية" أهديتها إلى نقابة المعلمين العرب التي كانت في ذلك الزمن رأس حربة النضال في سبيل إعادة الاعتبار إلى هذه اللغة وترسيمها.

والتقينا بعد مازال الرحيق

... هاهي تونس بعد فرقة دهر. بدت لي أبهى وأجمل مما كانت عليه في بداية الستينيات, وأكثر حيوية وعمرانا، وأنضر شبابا. لم تذهب جميع تضحيات مواكب شهدائها ومصلحيها وبناتها سدى. كل جيل حافظ على متروك سلفه وأضاف، من عنده جديدا لصرح الوطن.

نزلت من غرفتي في فندق البحيرة، وهو واحد من مئات الفنادق الضخمة الجميلة التي شيدت من بعدي، وخرجت أتفقد المدينة. كان الوقت ضحى، والجو جميل ومعتدل, فآثرت المشي على الأقدام. كان أول ما لفت انتباهي كثرة الفنادق والبنوك والورشات والدواوين القومية (الديوان القومي للسياحة, للصناعة التقليدية, للزيوت, للصيد الخ..)، وقوافل السواح أيضا.

سرت مع شارع محمد الخامس, ثم شارع التحرير, وأخيرا عرجت لـ"أحوس"، كعادتي، مع شارع لحبيب بورقيبة.

عجت على نزل المتروبول حيث كنا نقيم، فوجدته قد أصبح جزءا من البنك الدولي العربي التونسي! سألت عن تونس بلاص، وكان من أهم فنادق قلب العاصمة في بداية الستينيات، فوجدته قد اختفي!

أما البالماريوم التي كنت أتسوق في متاجرها الراقية، وأشاهد في قاعة عرضها الفخمة أهم وآخر أفلام الموسم مثل "الخطايا" و"اسبارتاكوس، وأبكي بمرارة، في نهاية كل عرض لهذا الأخير، عند هزيمة جيش العبيد، فقد وجدتها مغلقة تحت الترميم، والخياط اليوناني الفاضل (مكاريوس) نجم شارع اليونان، وإبرته الذهبية، لم يعد في الشارع من يعرفه!

وحده المسرح البلدي مازال صامدا أمام الزمن, ويستعد هذه الأيام لعرض مسرحية "عشاق المقهى المهجور" إخراج الفاضل الشعباني, بطولة جليلة بكار, زهيرة بن عمار, فاطمة بنت سعيدان. ورغم أني أول هؤلاء العشاق، فإن ظروف السفر ضنت علي بمشاهدة ذلك العرض, وخاصة من "بلكوني" المفضل الذي أدمنا، بمبادرة منها، متابعة العروض منه.

لقد تغير كل شيء في هذه المدينة بعدي! وتغير الناس أيضا!

زالت الشمس دون أن أشعر بها, ولم ألق في تيهي هذا نصبا.. ضعت في ذاتي عن ذاتي. ففي كل شارع سلكته، وكل زاوية مررت بها: ذكريات, أقاصيص, حكايات, مهبط وحي, ميلاد جديد وانبعاث شجن, أشلاء بداية، آثار الخطوة الأولي.. تشدني إليها، إلى الماضي.. تناديني نحو الأعمق.. دلفت إلى الكولويزي, طلبت قهوة بحليب كعادتي, تفحصت رواد المقهى العامر، فلم أعرف منهم أحدا، ولا يبدو أن أحدا منهم عرفني. ابتسمت للنادل، وفاء لعهد أسلافه، فأنكرني، وظن بي الظنون! أخرجت ورقة وقلما من جيبي، وكتبت هذه الـ " قفــــــــا":

                            

                                بالأحضان

عدنا لربعك.. ثاني الأوطــــان        لنجدد العهـد القديـم..  بثــــان

عدنا لربعك.. هل تبارك حجنا؟       وتحيطنا بالعفــو  والغفـــران

هذي حشاشة مهجة تصبو إلى        هذا الأريج   الساحر  الفتــان

منه نهلــت.. فعللونـي  إننـي          أشتاقـه..  كالمدمن  السكـران

أنا، من أنا؟ إن لم أكن أغنيـة         أو وردة   ترتـاح  للبستانــي ؟

 

يا تونس الخضراء.. إني عاشق       أينعت فيك.. وأورقت أغصاني

إني فتاك.. أتذكرين  شقاوتـي؟        أم  قد طوتني أزمـن  النسيـــان

لا تنكريني، إن رأيت ملامحي        وقرأت في وجهي هموم زماني

فأنا الذي قد عشت فيك  مدلـلا        ألهو،  وأطلق  للشبـاب عنانــي

ما كنت أحسب أنني أبلى، ولا        أن التغير يعتري..   وعرانـــي.

 

يا باردو أين البحر في عينين في     نهج الرميلي تعيش في وجداني؟

إن تنسني، فالبالمريوم تذكرت        والمسرح البلـدي  لن ينســـاني

أين الذين عرفتهم  يوما هنــا؟        تركوا هنا.. أم جـاء خلق ثــان؟

بنزرت  قد عشنا هنا أحداثهــا        وعلية  تشدو  بني   أوطــــاني

ومعارك الأوراس عشنا هولها       في بعدها الوطني والإنسانـــي

أين النعيمي؟ كان يجلس هاهنا       يدعو إلى التحرير و الرحمــان

امبوب  والبكاي أحمـد  حولـه        والشيخ زيـن العابـد التيجانــي

وجماعة البيظان.. قد حلت هنا       في فندق في شارع  اليونـــــان

أقوى  وأقفر منهم..  وتفرقــوا        فتقرحـت  لفراقهم  أجفانــــــي

وشيوخنا من عودوني عطفهم         ما عـاد منهم  واحد يرعانــي!

 

إني هجرتك في نزال رمتــــه         أبليت فيه.. مثلما  أبلانـــــــي

ما ضاع سعيي لحظة فبفضله         قد عربت وتحررت   أوطاني

عمر عجيب.. كم خبرت خلاله       ألم الجحود.. ولوعة  الحرمان

واليوم عدت إليك يا  معبودتي        كي أستريح.. إلي.. بالأحضان.

تونس 30/8/95