إعلان

رحلتي إلى الشيشان (الجزء الثاني) / أبو حواء شيخنا عمر

خميس, 01/02/2020 - 01:45

أبو حواء شيخنا عمر

 

..صباحَ عيد الأضحى المبارك الموافق 12 أغسطس 2019، كنت على موعد مع استلام تأشيرة دخول لروسيا الاتحادية صالحة لمدة شهر واحد ، هرولت يومها باكرا إلى السفارة الروسية بانواكشوط..فور وصولي باب السفارة ضغطت زر الجرس..همست بضع كلمات في سماعة الجرس..فَتَح البابَ رجلٌ أربعيني ممشوق القامة..يتحدث الفرنسية بطلاقة..اختصرت الحديث معه على التحية، ثم عاجلته برسالة مكتوبة باللغة الروسية موجهة إلى السفارة، كانت قد وصلتني من اللجنة المنظمة للمسابقة في الشيشان، بخصوص التأشيرة..ما إن قرأها حتى اصطحبني إلى داخل مبنى السفارة..أوعز إلي بالجلوس على طاولة مستديرة لا أنيس بها سوى كتاب عنوانه مكتوب بحروف لاتينية معكوسة.. سلمته الجواز ثم توارى عني خلف باب افترضت أن وراءه يقبع القنصل أو السفير نفسه..من يدري؟ ..الله أعلم .. في تلك الأثناء كان أحد الأبواب يفتح..خرجت منه فتاة روسية بدت على عجل من أمرها..اقتربت قليلا وبعد التحية سلمتني ورقة تفحصْتُها جيدا..تمايلت علي لتضع إصبعها على رقم المبلغ المكتوب في الورقة..فهمت أنه علي دفع المبلغ مقابل التأشيرة..دفعت يدي في جيبي وأخرحت المبلغ المطلوب وسلمتها إياه،ثم اختفت في طرفة عين..بعد دقائق معدودة خرج الرجل وبيده الجواز مختوما بالتأشيرة..شكرته وودعته وخرجت من السفارة..وغادرت المكان مسرعا..فقد خططت لإكمال يومي بمشاطرة الأهل والأحبة فرحة العيد، خارج العاصمة كعادتي..
بعد حصولي على التأشيرة كان علي أن أنتظر وصول التذاكر من غروزني،فقد تواصل معي المنظمون هناك،وأخبروني أنها ستصلني قريبا..
في البداية وصلتني تذاكر سفر على الخطوط التركية..على أن تكون الانطلاقة من انواكشوط مرورا باسطمبول وصولا إلى موسكو..لكن سرعان ما تم استبدالها بأخرى على الخطوط الإماراتية،حيث تكون الانطلاقة من عاصمة السنغال داكار مرورا بمدينة دبي وانتهاءً بموسكو التي تنتظرنا بها طائرة خاصة ستقلنا إلى عاصمة الشيشان..
حجزت على الخطوط الموريتانية من انواكشوط إلى دكار للالتحاق برحلتي المقررة..كانت بداية أطول رحلة سافرتها جوا..حيث انطلقنا من انواكشوط صباح الأربعاء 21 أغسطس على تمام السابعة صحبة صديقي أمير الشعراء سيدي محمد ولد بمب الذي كان مدعوا ضيفَ شرف على الحفل..كان برفقته أخوه أخصائي جراحة القلب في رحلة عمل إلى روسيا هو الآخر..على متن طائرة الخطوط الموريتانية،لمحتني إحدى المضيفات..شابة موريتانية أنيقة المظهر والملبس..تجاوزت مسرعة نحوي ..تصافحنا وتعانقنا..نعم مابالكم؟! وهل في ذلك من ضير؟! إنها أخت لي من الرضاعة.. أرضعتني أمها قبل ثلاثين سنة..وما أجمل أن تكون المضيفة أختا لك..تمر بك كل حين وتعتني بك وتسأل عن حالك طوال الرحلة..إنها الصدف..!
استغرقت الرحلة 55 دقيقة..عند هبوطنا بالمطار التحقت بنا الفنانة الموريتانية نورة منت همد فال التي كانت هي الأخرى في سفر إلى الإمارات العربية المتحدة.. قضينا يوما كاملا في قاعة عامة في مطار داكار..تعاطينا بعض القهوة والعصير وتناولنا الساندويش وبعض الوجبات الخفيفة.. وتبادلنا أطراف الحديث وخلدنا لنوم ليس بالعميق..في المساء نهضنا نجر حقائبنا بكسل إلى بوابة المغادرة ..لمحنا رجلا بثياب مغاربية يجلس منزويا في القاعة..كانت تبدو عليه ملامح الشناقطة..قلت لرفاقي أعتقد أنه عضو لجنة التحكيم الذي حدثني عنه المنظمون..حيث قالوا لي: شيخنا عندنا مفاحأة عندما تصل إلى دكار سيكون معكم في الرحلة أحد أعضاء اللجنة المحكمة.. كان أستاذ اللغة العربية والفقه وأصوله بجامعة انواكشوط العصرية..د.محمد ولد بتار ولد الطلبة ..اقتربنا منه وسلمنا عليه..تعرفنا على بعضنا..ثم سرنا معا إلى سلم الطائرة ..أقلعت الطائرة من دكار في السادسة وعشر دقائق مساء لنبدأ أطول مقطع من رحلتنا الطويلة..عشر ساعات ونحن ندلج باتحاه مدينة دبي..غادرنا داكار مساء الأبعاء وكنا في دبي ضحوة يوم الخميس على تمام الساعة الثامنة..كنا ننام ونصحوا تناولنا العشاء والسحور والفطور.. حطت بنا الطائرة في مطار دبي..ودعنا هناك رفيقتنا الفنانة نورة..
من سلم طائرة الخطوط الإماراتية مباشرة تلقفتنا سيدة من الخطوط الروسية إلى سلم طائرة الخطوط الروسية المتجهة إلى العاصمة موسكو..أقلعت عند الساعة التاسعة وخمس وثلاثين دقيقة وصلنا إلى مطار موسكو الساعة الواحدة وخمسين دقيقة ظهرا..هناك ودعنا رفيقنا جراح القلب..
عند سلم الطائرة مباشرة،كانت في انتظارنا سيدة شقراء باسمة العينين تلوّح بورقة كُتِبت بها أسماؤنا نحن الثلاثةَ..اقتربنا منها رويدا..أخبرناها أننا نحن ضالتها المنتظرة.. مشينا خلف دليلتنا ونحن والشَّعرُ نلهث خلفها تعبا، فقد لقينا من سفرنا نصبا..سارت معنا وهي تلتفت كل هنيهة ربما لتشعرنا من خلال ابتسامتها العريضة بالاطمئنان..لكن صديقي الأمير استغرب كثيرا من إفراطها في الابتسامات، فهمس لي مستفسرا عن سر ذلك..لم أستطع أن أجيبه بأنها ربما تعرف عن شغف الشعراء بالجمال وهوسهم بالجميلات.. بعد خطوات توقفتْ وتمايلت قليلا ثم أومأت بجيدها وحركت شفتيها بكلمات ليست كالكلمات التي كنا ألفناها في محطاتنا السابقة..فهمنا أنها تريد أن نعطيها الجوازات..فعلنا ما تريد بكل سرور .. على بعد خطوات كانت آنستان روسيتان،كلتاهما كأنها كانت تجلس في انتظارنا..قُمْنَ بتسريع إجراءات الدخول بسرعة فائقة، ثم تسلمنا منهما جوازاتنا..انطلقت الدليلة خطوات قلية نحو مدخل عام انتهى عنده مشوارنا معها،حيث أوصلتنا إلى بوابة قاعة الشرف وسلمتنا لثلاثة فتية..أحدهما روسي والآخران شيشانيان..الروسي يتكلم الفصحى بطلاقة..استقبلونا بحفاوة وأنزلونا مع بفية الضيوف الوافدين من شتى الأصقاع..جلسنا قليلا ثم طلبنا وضوءًا ومصلى ..اصطحبنا أحد الثلاثة إلى دورة المياه ومنها إلى المصلَّى..ثم بُعَيْد انتهائنا،طلبوا منا الانضمام إلى إحدى طاولات الغداء المجهزة بأصناف الطعام والشراب(الحلال طبعا)..على تلك الطاولة تعارفنا مع جلسائنا المدعوين الذين كان معظمهم من دول آسيا..أول من طلب منا التعارف رجل خمسيني قدم نفسه على أنه مفتي"بلاروسيا" ..كان يتكلم العربية بفصاحة..ثم بدأنا التعارف مع بقية جلسائنا..أذكر أن من بينهم موفديْن من وكالة العين الإخبارية..فتاة فلسطية وشاب سوري..كانا لطيفيْن جدا..الصحفي السوري أخبرنا أنه زار موريتانيا أيام القمة العربية..
كان يوما منحنا قليلا مما نحتاجه من الراحة بعد رحلة طويلة وشاقة..
في المساء أخبرونا بأنه علينا التوجه إلى مطار"دو موديدوفا" بيزنيس تيرمينال(مركز إقلاع الطائرات الخاصة) حيث تنتظرنا هناك طائرة خاصة أرسلها الرئيس الشيشاني رمضان أحمد قاديروف لتقل ضيوفه إلى العاصمة الشيشانية غروزني..
دخلنا القاعة الصغيرة للمطار..اختلطت الأجناس والجنسيات هناك واختلفت الألسن.. قابلنا كثيرا من مشاهير علماء المسلمين وأئمتهم المتصوفين..
تحركنا بعد ساعة من الانتظار متوجهين إلى سلم الطائرة التي أقلت ما يزيد على ثلاث مائة ضيف من سائر دول العالم الإسلامي..أقلعت الطائرة من موسكو باتجاه العاصمة الشيشانية غروزني..كانت رحلة قصيرة مقارنة بما مضى، رغم أنها قاربت ساعتين من الوقت..
حطت رحالها في وقت متأخر من ليل الجمعة في غروزني..نزلنا من الطائرة..كان في استقبالنا عند سلمها المفتى العام للشيشان بشحمه ولحمه.. الصديق الروحي للرئيس الشيشاني والرجل الأول في الدولة بعده..كان شخصا بشوشا متواضعا ..عانقنا بحرارة ورحب بنا بطلاقة وجه وفصاحة لسان، ثم توجهنا إلى فندق "غروزني سيتي"،لنبيت ليلتنا هناك بعد أن سلمونا مطوية تحتوي على برنامج الحفل كاملا..
كان علينا النزول للدور الثالث في الفندق للفطور عند الساعة السابعة صباحا على أن يكون الخروج عند الثامنة وأربعين دقيقة من الفندق والانتقال إلى مدينة شالي التي ستشهد افتتاح مركز تحفيظ القرآن الكريم باسم الشيخ دوردي يصاحبه تكريم لجنة تحكيم مسابقة القرآن الكريم وتكريم الفائزين الثلاثة بمسابقة الشيشان الدولية للقرآن الكريم..أذكر أن الفائزين الثلاثة كانوا من اليمن وليبيا وسوريا..
ثم افتتاح أكبر مسجد في أوروبا يصاحبه تكريم الفائزين الثلاثة بالمسابقة العالمية للشعر في المديح النبوي..ثم الانتقال إلى قرية الشيخ الشهيد أحمد حجي قديروف"أحمد يورت"وزيارة ضريحه..
دخلنا مدينة شالي قيلولة الجمعة،كانت المدافع الثقيلة منصوبة على ظهور الدبابات في في شوارع المدينة،والعربات والجنود على الأرصفة والمروحيات الحربية تحلق ..لا أخفي أنني شعرت حينها بقليل من التوتر..حيث قرأت سابقا عن اغتيال الرئيس الشيشاني السابق أحمد حجي الذي اغتيل في الشيشان أثناء مراسيم عامة..كما قرأت عن محاولات لاغتيال خلفه..لكن شعورا آخر بالطمأنينة والارتياح تملكني منذ وصولي لبلاد القوقاز،ظل هو المسيطر طوال مكوثي هناك..
لقد استتب الوضع الأمني واكتست شوراع غروزني وشالي بحلل الجمال وتزينت لضيوفها..فلم تعد تلك الشيشان التي أنهكها دمار الحرب وشوهها الخراب..فقد خلعت لامتها ولبست أجمل وأعطر ثيابها..فلا معنى لوجود لتلك المخاوف..عشت لحظاتي مرتاح البال مشدوها لما لمسته هناك من قيم سمحة وهمة لنصرة لدين الله وحب لرسوله عليه الصلاة والسلام..
نزلنا من السيارة التي تقلنا ثم توجهنا إلى إلى مركز تحفيظ القرآن..جلسنا في انتظار انطلاق الفعاليات..والضيوف يتوافدون فرادى ومثنى وجماعات..
تبين لاحقا أن هناك وفودا رسمية عربية وإسلامية.. وزارء أوقاف من السعودية والإمارات والمغرب والأردن ...وغيرها من وفود رسمية لم تصل بعد..
بعد ساعة وصلت الوفود،ثم وصل الرئيس الشيشاني رمضان أحمد قديروف،فتجول بين الوفود كأي شخص عادي يصافح و يعانق يمنة ويسرة،ثم أخذ مكانه...ليبدأ الحفل بتلاوة عطرة من أحد الصبية الذين شكلوا لوحة بديعة في زي واحد وكان بيمين كل واحد منهم مصحف..
استهل الطفل مرتلا ما تيسر من سورة الرحمن وما إن استهل قراءته،حتى انهمرت عينا رمضان قديروف بالدموع، في مشهد حرك مشاعر الحاضرين ومدامعهم..
بعد ذلك توالت المداخلات ..تحدث رئيس مجلس علماء القوقاز فبكى واستبكى..بعد المداخلات.،تم تكريم أعضاء لجنة التحكيم والفائزين الثلاثة في مسابقة الشيشان للقرآن الكريم..بعدها تجول الرئيس صحبة بعض الشخصيات داخل مبنى مركز تحفيظ القرآن..
تحرك الجمع راجلين إلى مكان قريب،حيث أكبر مسجد في أوربا "فخر المسلمين"في قلب مدينة شالي الشيشانية..من هناك بدأت فعاليات الافتتاح من أمام المسجد أمام حشود امتدت بالمئات على مسافات شاسعة حواليْ المسجد..أخذنا أمكنتنا بين الحضور الرسمي..لفت انتباهي مشهد القناصة الذين كنت أراهم على أسطح العمارات الطويلة..
لاحظت حضورا رسميا لممثلي السفارات العربية والإسلامية في روسيا،في حين حز في نفسي عدم حضور أي دبلوماسي من بلاد المنارة والرباط(موريتانيا)..
تحدث وزراء عرب وشكروا الشيشان ورئيسَها شكرا مستحقا..ومن باحة المسجد قدم وزير الأوقاف السعودي هدية عظيمة للرئيس الشيشاني كانت عبارة عن قطعة من كساء الكعبة تسلمها الرئيس الشيشاني رمضان قديروف من وزير الأوقاف السعودي..
توالت الكلمات..تحدث العرب والعجم..حتى الوزير الروسي أتى ليشاطر المسلمين فرحهم..ألقى كلمة باسم الرئيس الروسي..بدا فيها متحمسا وكانت كلمته مفعمة بتقدير واحترام الإسلام..
نودي للصلاة من يوم الجمعة،فبدأ الناس يتقدمون لدخول المسجد في أول صلاة جمعة تقام فيه،أذن المؤذن..ثم خطب الشيخ يوسف بن أحمد العثيمين أمين عام منظمة التعاون الإسلامي ثم أم المصلين..بعدها استأنف الحفل من داخل المسجد ..فحان دوري ..دعيت للتتويج بالمركز الأول للمسابقة العالمية للشعر عن قصيدة مديحية عنوانها "في محراب الضوء" رفقة الفائزيْن بالمركز الثاني والثالث..الشاعر محمود شهيد من المغرب، والشاعر مالك دعبول من سوريا..
وقفت متوشحا دراعتي في ذلك المحراب العامر أمام صفوف ضمت مئات المسلمين الذين جاؤوا من أصقاع العالم الإسلامي..شاطرت وطني هذا الفوز..نوديت فكان اسمي مشفوعا باسم بلدي الحبيب موريتانيا..سعادة لا توصف حين تشعر أنك حملت بيرق بلادك في محفل كهذا..!
كانت العيون ترمقني من الصف الأول حتى الأخير ..كنت أشعر حينها بامتنان عظيم لربي الذي من علي بنعمة الفوز من بين مئات المتنافسين على هذا الشرف..كما أحسست باعتزاز بأمتي التي توجَّتني في عقر دار عزها..أمام مشايخها المعتدلين ودعاتها المصلحين وقادتها الملهمين..
عشت في زهو لم يسبق لي أن عشته مطلقا..!
..أقول في نفسي أيقظان أنا أم هاجع؟..
نلت شرف الفوز في هذا المقام العظيم..!؟
أجل..لقد حزت أعظم جائزة فزت بها في حياتي..!!...

........يتواصل