إعلان

الرُّقْيَةُ الشِّعْرِيَّةُ

جمعة, 02/14/2020 - 04:32
لوحة "الرقية الشرعية" للرسام الانكليزي المستشرق جون فردريك لويس (1805-1876)، اللوحة تم رسمها عام 1872 حيث يفترض أن المشهد يدور في القاهرة ويقوم فيه أحد الشيوخ بممارسة الرقية الشرعية بالقرآن الكريم لعلاج سيدة مريضة.

أدي آدب

 

يكثرُ الحديثُ - اليوم- عن "الرُّقْيَةِ الشَّرْعِيَةِ"، نظرًا لتفشِّي الأمْراض البدنية والروحية، وتعقُّدِ البنْيات النفسيةِ الهشَّةِ، في هذا العصر المَأزُوم، لدرَجةِ الْتِمَاسِ العلاج، ولو بالوسائلِ حتَّى غيْر الشرْعية، لكنْ هل سمِعتمْ عنِ "الرُّقْيَةِ الشِّعْرِيَّةِ"، التي رَاقَ لِي اليوْمَ أنْ أتقاسَمَ مَعَكمْ بعْضَ التداعياتِ حوْلَهَا؟

لقد استرْعَى أذُنِي المُوسيقيةَ، ذلك التشابهُ الصوْتي بيْن "الشَّرْعِيَّة"، و "الشِّعْرِيَّة"، الذي يوحي- لسليقتي اللغوية- بقرابةٍ دلاليةٍ، حسَبَ نظرية ابْن جنّي القائلةِ بأنَّ كلَّ تقارُبٍ اشْتقاقي في المَبْنى ، يقتضي تقاربا دلاليا في المَعْنَى، ورغْمَ التباعُدِ الظاهريّ بيْنَ حقلي "الشِّعْرِ" والشَّرْع"، فإنَّ " الرُّقْيَةَ" -على الأقلِّ- تقرِّبُ بيْنهما، فكما أنَّ للشَّرْع رُقْيَتَه الفعَّالة، فإنَّ للشِّعْر-أيضا- رُقْيَتَه، المتمثلة في طاقةِ "سِحْرِ البَيَانِ" الذي يَخْتَزِنُها، في بنْيَته النَّصِّيَّة، ويَنْفُثُها في المُتَلَقِّي، فيَفْعَل في نفْسِه الأعاجيب، كما أنَّ "الشَّاعر" "شَارِعٌ" لقواعِدِ فنِّه، ومُبْتَدِعٌ لقَوَانِينِه.

*********************************************************

ولكنْ قبْل اكْتشافِ المُعاصرينَ- منَ العَرَب والغرْب- لِفَاعِلية هذه "الرُّقْيَةِ الشِّعْرِيَّة"، كانَ الشعراءُ -منْذُ وُجِدُوا- يُدْرِكُوَنَ التّأْثِيرَ الخارق لإيقاع كلماتِهم، في نُفوس مُتَلَقِّيها، وهلْ المدْحُ الاسْتِجْدائي، إلا رُقْيَةٌ لشُحِّ أصحاب الأمْوال، وهل الغَزَلُ إلا تخْديرٌ للفاتِناتِ المُتَمَنِّعَاتِ، وهل الشِّعْرُ الحَمَاسِي إلا نفْثٌ لروح الشجَاعة في الموْصوفِ به، وبثٌّ للرُّعْبِ في نفْس خَصْمِه، حتى أنَّ الشاعرَ جرير كان مُعْتَزًّا بقوَّةِ تأثير "رُقْيَتِه الشِّعْرية" في مَمْدُوحيه، التي يراها شيطانية، والتي لم يبطلْ سحْرَها إلا عُمَرَ بن عبْد العزيز باستقامته المعروفة، حيث قال للشعراء عندما خرج من عنده:

رأيتُ رُقَى الشيْطان.. لا تَسْتَفِزُّهُ * وقدْ كانَ شيْطانِي.. من الجِنِّ.. راقيا؟"

*********************************************************

كما اختتمَه لسانُ الدينِ بنُ الخَطيب بتأليفِ كتابه: "السِّحْرُ والشِّعْر"، مُسَوِّغا- في مقدّمَته- اعتمادَه لهذا العنْوان، بأنَّ الشِّعْر الذي يَتَمَاهَى معَ السِّحْر، هو الذي يمْتلكُ فاعِليةً تأثيرٍ قويةً في نفْس المُتَلَقِّي أكثر من الشِّعْر العادي، فإذا سُمِعَ ( عظُمَ الأثرُ، وظهَرتِ العِبَرُ، فشجَّعَ وأقْدَمَ، وسهّرَ ونوَّم، وحبّب السخاء إلى النفوس وشهَّى، وأضحكَ حتى ألْهَى، وأحْزَنَ وأبْكَى، وكثيرٌ من ذلك يُحْكَى، وهذه قوَّةٌ سِحْرِيَّةٌ، ومَعَانٍ بالإضافةِ إلى السِّحْرِ حَرِيّة"

**********************************************************

ولولا أنَّ الأرْواحَ اليوم أصبحت "ابْلاستيكية"، مُصَفَّحَة بغِلافِ مَادِّيٍّ كثيفٍ، لدعوْتُ لفتْحِ عياداتٍ وبرامجَ وقنَوَاتٍ، "للرُّقْيَةِ الشِّعْرِيَّة"، لكني أعرفُ أنَّ الاستمثار في حقل الجمال الرفيع، أصبح كاسدا، فالشعراء الشرفاء...صارُوا مُجَرَّدَ صعاليك!