إعلان

الضرورة الشعرية: بين العجْز والإعجاز

جمعة, 02/14/2020 - 04:35

أدي آدب 

 

 

هُنَاكَ انتهاكاتٌ لِقوانِينِ اللُّغَةِ العرَبية، تُحْدِثُ اضْطِرابًا في قواعِد نُظُمِها الإعْرَابية، أو تَصَدُّعًا في بنْياتِها الصرْفيةِ، تحْتَ ضَغْطِ إكْراهاتِ سُلْطَةِ الوزْنِ، وضوابِطِ العَروض، المُهَيْمِنَة علَى ذائقةِ العَرَبِ الجَمَاعِيَّةِ، وأُذُنِهم المُوسِيقيَّة العَريقةِ، لدَرَجَةِ يتساهَلُونَ – معَها- في مِعْيَاريَّةِ اللغَةِ، ويَستبِيحُونَ قُدسِيَّتِها، باعْتِبَارِ الالْتِزَامِ بإشْبَاعِ الحِسّ المُوسِيقِي العَتيق، داخِلا في بَابِ «الضَّرُورَاتِ التي تُبِيحِ المَحْظُورَاتِ»، حسَبَ مَنْطِقِ الشَّرْعِ والقانون.. لا سِيما بالنسْبة لمَنْ لمْ يُسْعِفْهُ ثَرَاءُ القامُوسِ العَرَبِيِّ الغَنِيِّ باشْتِقاقاتِه، ومُتَرَادِفَاتِه، في الْتِقَاطِ البَدائِلِ المُناسِبَةِ للكَلِمَةِ الناشِزَةِ في مَوْقِعَها...

وأنَا هُنَا أحِبُّ أنْ أمِيِّزَ بيْنَ الضَّرُورَاتِ الشِّعْرِيِّةِ المَألُوفَةِ، التي لا تعْدُو كوْنَها عجْزًا لُغَوِيًّا، وفقْرًا في وَسَائِلِ الِإبْدَالِ التعْبيريّ، أمَامَ جَبُرُوتِ سُلْطَةِ الوزْنِ العَرَبِيّ القاهِرَة.. وبيْنَ الضَّرُورَاتِ التي تأتِي خرْقا للقاعِدَةِ أجْمَلَ من القاعِدةِ نفْسِها، فهذه هي الضرُوراتُ الجَديرةُ -في نَظَرِي- بِصِفَةِ الشِّعْرِيَّةِ، والإبْداعِية، وما سِوَاها مُجَرَّدُ ضَرورٍات وزْنِية فقط.

ولَعَلَّ خيْرَ مِثَالٍ يَحْضُرُنِي علَى الخَرْقِ الأجْمَلِ من القاعِدَة، هو مَقْطَعٌ من نُونِيةِ أبي البقاء الرُّنْدي، في رِثَاءِ الأنْدلس، حيث صَرَفَ أسْمَاءَ حَواضِرهَا، التي كانت مَمْنُوعَةً من الصرْفِ- شَكْلِيا- باعْتبارِ العَلَمِيِّة والعُجْمَة:

فسَلْ بلَنْسِيةً: ما شَأْنُ مرْسِيةٍ؟

وأين شاطبةٌ؟ أم أين جيانُ؟!

فهُنا قد صَرَفَ الشاعرُ- عمْدًا- كلَّ هذه الأسْماءِ، وبالتَّنْوينِ أيْضًا، تضْخِيما لصَدَى انْهِيارِ القوَاعِدِ، مُوحِيا – عَبْرَ ذلك- بأنَّ لِسُقُوطِ كُلٍّ من هذه الحَوَاضِرِ إيقاعَه الخاصّ في النَّفْسِ نصْبا، وجَرًّا، ورفْعًا.

وبعْدَ هذا العَبَثِ المَقْصُود بقواعِدِ العَرَبِيَّةِ، اسْتشْعَرَ أبو البقاء الرُّنْدِيّ أنَّ أجْهِزَةَ التلقِّي لدَى قارئِيه من العَرَبِ- مَدَى التاريخ- تُحَاصِرُه بالاسْتفْسارَاتِ عنْ سَبَبِ هذا التلاعُبِ بقواعِدِ الصرْف العرَبِيّ، فبَاغَتَهمْ بِجَوَابٍ خارِقٍ للقواعِدِ نفْسِها:

قَوَاعِدٌ.. كُنَّ أرْكانَ البِلادِ.. فَمَا

عسَى البَقَاءُ إذَا لمْ تَبْقَ أرْكَانُ؟ّ!

وَفِي هذا الجَوَابِ/ السُّؤَالِ، الصَّارِفِ للمَمْنُوع احْتِجَاجٌ ضِمْنِيٌّ له مَنْطِقِيَّتُه، على صَوَابِ هذا الزّلْزَالِ الشِّعْرِي، حيث إنَّ بلنْسِية، ومرْسِية، وشاطِبَة، وأخَوَاتِها من الحَوَاضِر الأنْدَلُسِية، كانت -فعْلا- قَوَاعِدَ حاضِنَةً للحَضَارَةِ الإسْلامية العَرَبِيِّةِ هُناك، عمْرانا، وأدَبًا، ولُغَةً، ونحْوا، وصرْفا...وما دامتْ هذِه القواعِدُ الحَضَارِيةُ الحَامِلَةُ لتِلْكَ الثقافَة، قدْ زَالَتْ، وانْصَرَفَتْ واقِعيا، وأصْبَحَت في خبَرِ كانَ» قواعِدٌ كُنَّ أرْكانَ البِلاد»، فكيف المُحَافَظَةُ- بعْدَها- علَى سَلَامَةِ القَوَاعِدِ العِلْمِيَّةِ المَحْمُولَة؟

أجَلْ، هذا النوْعُ من تكْسِيرِ طَوْقِ المِعْيَارِيَّة اللُّغَوِيَّةِ، هو الذي يَسْتَحِقُّ اسْمَ «الضرُورة الشِّعْرية»، ولاجْتِرَاحِ هذا الخرْقِ الأجْمَلِ من القاعِدةِ، أعْطَى الخليلُ بن أحمد الحُرِّيَّةَ المُطْلَقة للشُّعَرَاءِ «أمَرَاء الكلَام»، مَا دَامَ انْزياحُهم تعْبيرا إبْداعيا، وليس مُجَرَّدَ إقْرَارٍ بالعَجْزِ اللُّغَوِيّ، فأكَّدَ أنَّ «الشُّعَرَاءَ أُمَرَاءُ الكلام، يُصَرّفُونه أنّى شاءوا؛ وجائزٌ لهم ما لا يَجُوزُ لِغَيْرهم: من إطْلاقِ المَعْنَى وتقْييده، ومن تصْريفِ اللّفْظ وتعْقِيدِه، ومَدِّ مَقْصُوره، وقَصْرْ مَمْدُودِه، والجَمْع بيْن لُغَاتِه، والتفْريقَ بيْنَ صِفَاتِه»

وَلَعَلَّ في هذا المَلْمَحِ تكْريسا مَشْرُوعا للخليل بن أحمد-فاتحا لحُرِّيةِ الإبْداع الشِّعْري، بَدَلَ تكْريسِه-ظُلْما وعُدْوانا- مُصَادِرًا لحُرِّيةِ الشُّعَرَاءِ، وقامِعًا لمَلَكَاتِهم، ومُخْتِرِعًا لقُيُودِهِم، وعلَى ضوْءِ هذه الرُّؤْيَةِ سَبقَ لِي- عبْرَ هذه الزَّاوِية- أنْ تناولْتُ «فلسفة الإيقاع»، مُحاوِلا تعْميقَ التَّصَوُّرِ حوْلَ الضَّرُورَاتُ العَرُوضِيَّةِ، التي تُسَمَّى: «زِحَافَاتٍ» و«عِلَلا»، نازعًا عنْها صِفةِ «التمْريضِ» هذه؛ حيث قلتُ:

»إنَّ التَّفاعُلَ بيْنَ ايقاعِ الرُّوحِ المُتَمَوِّجِ، وإيقاعِ البَحْرِ العَرُوضِيّ النَّمَوْذَجِي المعْيَاري، شَبِيهٌ إلى حَدًّ كَبِيرٍ بالتَّفَاعُلِ بيْنَ تِيَّارِ المَاءِ، ومَجْراهُ في قنَوَاتِه، فكُلَّمَا اتَّسَعَ المَجْرَى، انْدَاحَ الماءُ، أو الشُّحْنَةُ الشُّعُورية، رَهْوًا، بِكُلِّ سَلاسَةٍ، وعندما تَضِيقُ قَنَاةُ النهْر، أو البَحْر العَروضي، عن تَيَّارِ المَاءِ أو العَاطِفَة، يبدأ الاحْتِكاكُ بيْنَ الإطارِ، والمُحْتَوَى، وهذا ما يَنْجُمُ عنْهُ تكَسُّراتٌ، وانْهِيَاراتٌ يُحْدِثُها التِّيَارُ المَائِي في حَافَاتِ قَنَاتِه؛ حيث يكُونُ انْدِفاعُه-كُلَّمَا ضَاقَتْ عليْه- أقْوَى، وصَوْتُه أعْلَى، وذلكَ نفْسُه هو ما يَحْدُثُ بيْنَ الشِّعْر، والبَحْر، وهو ما يُفَسِّرُ- في نَظَرِي- تَغَيُّراتُ «الزِّحَافَاتِ العِلَلِ»، الطارئة على النَّمَوْذَج المِعْيارِي للْعَرُوض، ورُبَّمَا كانتْ هذه العَلاقةُ الحَمِيمَةُ بيْنَ طبِيعَتَيْ تَياريْ المَاءِ والشُّعُور- أيْضًا- تُمَثِّلُ خَلْفِيةً وَطِيدَةً لِتَسْمِيةِ الإطارِ العَرُوضِيّ بالبَحْر، إذْ لِكُلِّ مِنْهُمَا مَدٌّ وجَزْرٌ».