من كتابي: "الديمين من خلال كلام وطبع وعادات أولاد ديمان".. / الحُسَين ولد مَحنضْ

ثلاثاء, 05/26/2020 - 14:05

من كتابي: [الديمين من خلال كلام وطبع وعادات أولاد ديمان] الصادر مؤخرا...

{طبع أولاد دیمان}:

ليس طبع أولاد دیمان في أكثره إلا امتدادا لطبع تشمشه الذي هو بدوره امتداد لطباع الزوايا عموما، وإن أي عودة مهما كانت سريعة إلى حلف أگننت الشمشوي كفيلة بأن تظهر التشابه الشديد بين بعض أوجه السلوك الديماني وبين ما توصي به بنود ذلك الحلف.

فالإذعان الذي جسده حلف تشمشه كسلاح في وجه الطغيان السياسي الذي كان سائدا إبان نشأة تشمشه، يشبه في كثير من قيمه الإذعان الذي جسده كبت الطاقة الحربية للديماني إثر عملية الصلح الذي أبرم بين المغافرة وأولاد ديمان، كما أن المنظومة الأخلاقية التي أسسها الحلف الشمشوي يمكن أن تكون هي الأساس الذي جعله أولاد ديمان منطلقا لمنظومتهم الأخلاقية التي وسّعوها مع الزمن حتى أصبحت بمثابة عالم خاص بهم من القيم، تماهى، مع طول تمثل الديماني له، مع الانتماء إلى أولاد ديمان.

ومع أن الإذعان عمل سلبي في طبيعته إلا أن الديماني استطاع من خلال المنهج الذي وضع لنفسه أن يخلق قيما إذعانية حوَّل من خلالها هذا الإذعان من عمل سلبي إلى عمل إيجابي، مثل:

√ «الظالم ألأ ذاك أل إخلص (=الظالم من يرد على البادئ)».

√ «إجيب الديگه ألا ذاك ألّ إرد الخطيه (=لا يسبب المشاجرة إلا من يرد على الإساءة)».

√ «لكلام الخاسر إظر ألا ذ ال گايلو (=لا يضر الكلام الجارح إلا قائله)».

√ «الراجل ما ينفشو ماهو لفگايع (=لا يذهب بقيمة الرجل إلا الغضب)».

√ «إلى اخسر شي ما اخسر شي، (=إذا فسد شيء فما فسد شيء)».

√ «الّ گال الّ فاخلاگو ما يبگ فاخلاگو شي، (=من باح بكل ما في صدره لم يبق في صدره شيء)».

√ «"المروه تعگب الصبر، (=المروءة تأتي بعد الصبر)».

√ «الحگ ما ينگال والكذب احرام، (=الحق لا يقال والكذب حرام)»، أي أن الإمساك عن بيان الحق يكون أحيانا مطلوبا، وقول الكذب حرام.

إن هذه القيم الإذعانية التي تدعو إلى الصبر، والتجاوز عن الظالم، وعدم الغضب، وعدم الاكتراث بما فسد، وعدم البوح بما في الصدر، وعدم الغضب، وتهوين الأمور، والحذر عند قول الحق...إلخ تبدو لدى الديماني وكأنها عمل بطولي يتفوق به أولاد ديمان على من يفترض أن يكون هو الأقوى، فأولاد ديمان لا يعتبرون الصبر على إساءات الغير عجزا بل قوة، كما لا يعتبرون عدم الرد على ظلم الظالم ذمامة، بل عزة، تحفظ لهم مكانتهم الارستقراطية التي يعتبر الإذعان وسيلتهم المفضلة للدفاع عنها.

حدثني يابه بن محمادي السملالي أنه سأل المختار بن حامدن الديماني عن بعض الديميناته فقال له: «إنه سافر مرة في رفقة من قومه من آمنيگير قاصدين الگوارب فلما أصبحوا على مرحلة من الگوارب نفد زادهم، فألجأهم ذلك إلى المقيل بلا 'أتاي' (=شاي) ولا طعام، فبينما هم كذلك إذ مرت بهم قافلة قادمة من الگوارب متجهة إلى الساحل، فقال أحد الجماعة للمختار: انظر أنت الذي تعرف أهل الساحل لعلك تجد لنا عند هؤلاء ما يعيننا على مقيلنا هذا، فتعرض المختار للقافلة، وتبادل التحية مع قائدها، ثم سأله إن كان لديه بعض ما يعينهم على مقيلهم، فقال له الرجل: من أي الناس أنتم؟ فقال: من أولاد ديمان، فقال: لا أهلا ولا مرحبا بأولاد ديمان، مررنا بقربهم مسافرين ومواشينا عطشى، فلم يعرجوا علينا ولم يرحبوا بنا وسكت، فقال له المختار: والذي جئتكم من أجله؟ فانقلب الرجل على ظهره ضاحكا وقال: هذا ما سبقتم به الناس، أذم لك أهلك كل هذا الذم، ثم تعيد لي مسألتك وكأن شيئا لم يكن، سأعطيك فوق ما تريد، وأناخ راحلته وأعطاه كثيرا من الأتاي والطعام».

ولأن أولاد ديمان بقيمهم هذه التي انتهجوا قد أصبحوا يشعرون أنه لا أحد يكافئُهم فإنهم قد أصبحوا كذلك يرفضون أن يحيوا كيفما اتفق، بل أصبحوا يبحثون عن حياة متميزة، تتماثل معهم، مما أنتج لهم مجتمعا فريدا، يعيش نوعا من السادية اتجاه الآخر ومن المازوشية اتجاه نفسه.

ولا شك أن أوضاع المنطقة اختلفت مع الوقت، وتغيرت أشياء كثيرة فيها، لكن قيم أولاد ديمان بقيت هي هي، ومع غياب الآخر (الأقوى) الذي كان الديماني بحاجة إلى قيمه الإذعانية المذكورة للتفوق عليه، حوَّل الديماني هذه القيم إلى وسيلة للتفوق أيضا على الآخر (الأضعف) أو المماثل (المساوي في القوة)، بل يمكن القول إنه حوَّلها أكثر من ذلك إلى وسيلة للتفوق على نفسه التي ظل الديماني منذ ذلك العهد وما زال، او هكذا يفترض، يرفض الانتصار لها في مواجهة أي عدوان خارجي مهما كان مصدره، قويا كان أو ضعيفا.

وتقدم لنا وثيقة تاريخية منشورة ضمن جزء أولاد ديمان المطبوع، أثناء الحديث عن بطن أهل بله الأبهميين، مثالا على حرص أولاد ديمان على الاستمرار في هذا الاتجاه، حيث تقول الوثيقة: «الحمد لله الذي لا يحتاج في ملكه إلى الأنصار والجوار، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث بالسبع الطِّوَل، على مر الليالي وانصرام الدول، وبعد فقد اتفق أهل الحل والعقد من أبناء المختار بن عثمان على فسخ من ينتصر لنفسه، وإخراجه من العصبة كائنا من كان، ثم لا يصدهم عن ذلك طول أمد، ولا تقادم عهد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ثم إن احتيج إلى ذكر الجماعة فمحمدو وأحمدو ابنا العاقل ومحمذن فال بن حمال وأحمد بن الأمين إلى غير ذلك ممن يضيق عن ذكره الـرَّق.

والحمد لله الذي بنعمته وجلاله تتم الصالحات.

أملاه من أمَرته الجماعة المذكورة بتخليده في الكتب محمذن بن أحمد بن محمد العاقل».

ويبدو أن أولاد ديمان لم يكتفوا بتمثل هذه القيمة، قيمة عدم الانتصار للنفس، وأشباهها تمثلا طبيعيا، بل ارتقوا بها إلى مستويات تفوق حدود التحمل أحيانا، وكلما كانت قوة تحمل الديماني أقوى كانت إشادة أولاد ديمان به أكثر. ويتداول الديمانيون في هذا الصدد قصصا كثيرة تمجد أولئك الذين يتحلون بصورة تتجاوز المعتاد قيمة من القيم الديمانية الأساسية، كما هو حال قصة الديمانية تفنفنيت بنت امحمد الأمين مع قيمة الصبر التي نقل سيدي أحمد بن أسمه في كتابه "ذات ألواح ودسر" عنها حيث «أتاها شيخ، وهو الولي والد بن خالنا، معتمدا على عكاز أسفله رمح، فطعن رجلها من غير علم له بذلك، لكون رجلها كانت غائصة في الرمل وهي جالسة، فلم يزل يسألها عن الأخبار وهي تجيبه عن كل ما سألها عنه، وهو معتمد على الرمح حتى انفض المجلس وأراد الانصراف، فقالت له: انزع الرمح برفق لئلا يتسع الجرح».

أو حال قيمة كقيمة الحياء التي دفعت إحدى الديمانيات إلى عدم التصرف حينما «كانت تفلي أم زوجها، وكان ابنها الرضيع يلعب خارج الخيمة، فوجد حية فأمسك بطرفيها بيديه، وجعل يتحسس ظهرها ويمصه بفمه، وأمه تنظر إليه ولا تستطيع أن تقوم إليه، ولا أن تخبر بما هو فيه حياءً، حتى جاء رجل فأمسك بطرفي الحية وسحبها من بين يديه وقتلها».

أو حال قيمة كقيمة دماثة الطبع (=المطابقة بالحسانية) التي يحتفي بها أولاد ديمان احتفاء بالغا إلى درجة أنهم يقولون: «أولاد ديمان يختيرو حد مطابق عن حد عالم، (=أولاد ديمان يفضلون المتحلي بحسن الطبع عن المتحلي بالعلم)» لفتا للانتباه إلى أن العلم بدون دماثة الطبع غالبا ما يدفع صاحبه إلى التعاظم أو التبجح المنافي للطبع الديماني، فلذلك كان سَتر العلم وعدم التبجح به ممدوحا عندهم. وقد نقل ابن أسمه في "ذات ألواح ودسر" استدلالا لذلك «أن الشيخ بابه بن الشيخ سيديا قال ليلة لبعض خواصه كان مسامرا له: أي قبائل الزوايا أعرف الناس بالعلم؟ فخاضوا في ذلك، فقال بعضهم: بنو فلان أعرف، يعنون قبائل من الزوايا، فقال هو لهم: لا، أعرف الناس بالعلم هو التلميذ من بني ديمان الذي لا يذكر بعلم ولا بغيره».

وكان الشيخ بابه يشير بما قال إلى ما وقع له من ذلك مع بعض فتيان أولاد ديمان، كالذي وقع له مع الجد محنض بن أحمد الديماني (محنض أشفغَ علما) الذي تعرف على الشيخ بابه في حداثته فأعجب به، فصار يختلف إلى مجلسه، ولم يكن محنض يذكر بشيء من علمه وأدبه لشدة سَتره لذلك، فلم ينتبه بابه إلى أن هذا الديماني الحَدَثَ من أعرف الناس بالعلم والأدب إلا مع الوقت، عندما كان بابه لا يعرض أمرا للمباحثة على من في مجلسه من العلماء إلا وجد عند محنض به معرفة، فلما تكرر له منه ذلك مرات عرف حقيقته فأدناه وأشاد به وأصبح من خاصته.

ومثل ستر العلم ستر الولاية فسترها ممدوح عندهم أيضا، حتى ذاع عنهم قولهم بشأن ما يذكر من ولاية الولي إنهم: «حد ولي يعرفو عنو ولي، وحد ماه ولي ما يعرفو يكانو ولي ولل ماه ولي، (=من هو ولي يعرفون أنه ولي، ومن ليس بولي لا يعرفون هل هو ولي أو غير ولي)».

إن مثل هذا التجاوز لحدود المعتاد في تمثل هذه القيم إنما هو تعبير عن التماهي الشديد الذي حصل بين أولاد ديمان وبين قيمهم التي قام عليها طبعهم إلى درجة أنه يمكن القول إن أولاد ديمان طبعوا كل قيمة من هذه القيم، بل كل قيمة من سائر القيم، بطابعهم الخاص، فكل قيمة، حتى ولو لم تكن من القيم الأساسية للديمين، أصبحت لها لمسة معينة هي التي تجعلها ديمانية على غرار ما قال المختار بن حامدن في يعقوب بن أبي مدين الديماني:

«يعقوبُ يستُرنا في كل بَرَّانِي...وسَترُه لبني ديمان ديماني»

فطبع أولاد ديمان إذن عبارة عن مزيج من القيم الأساسية التي لا يوجد الدَّيمينْ بدونها، والقيم الأخرى التي يشترك مع أولاد ديمان فيها غيرهم لكن أولاد ديمان طبعوها بلمستهم الخاصة.

وهذا الطبع، بسبب اتساع جوانب منظومة الديمين وتنوعها، كثير الجزئيات، غير أننا سنورد من جزئياته على مستويي كل من السلوك والتعبير نماذج دالة، وإن كان بعضها قد اندثر لأسباب معينة، تعرف بخطوطه العريضة، وتساعد في خلق تصور أكثر وضوحًا عنه....)).

يتواصل...