إعلان

يَتَوهَّجُ كلما توغل في الغياب

اثنين, 06/22/2020 - 22:27

 

 

في مثل هذا الْيَوْم من سنة 1989، رحل مفكر عربي نادر ، أفكاره صارت شهبا يستضاء بها على دياجير ظلامنا المعاصر و أشرعة للحالمين بتخليص جسد الأمة من جراحه النازفة، فكل مفردة من تلك الأفكار هي وثبة سموخ وتأمل تحفز ابناء الامة في الحاضر والمستقبل لاستطلاع شاهقات شمخ المجد وحمل الرسالة الخالدة.

رحل الاستاذ أحمد ميشيل عفلق في شهر حزيران الذي اصبح شهر حزن منذ النكسة 1967 وما ترتب عنها من نتائج دفعته من منفاه البرازيلي الى تقديم اول مراجعاته الجريئة ( نقطة البداية) حاثا من تحت رماد المِحنة الى الرجوع الفوري نحو المواطن ومصارحته بالحقائق، وتحميله مسؤولية النضال والعمل معه جنبا الى جنب ، موجها نقده الصارم للنخب السياسية والعسكرية القومية التي تركت الانشغال على مطالب حركة الثورة العربية حكرا على السلط والمثقفين وعجزت عن الانتقال بها - تخطيطا وعملا - من مستوى الطلائع الى مستوى الجماهير التي من دون مشاركتها ومصارحتها لن توجد آلية تحديد اخطاء كل مرحلة وتجاوزها، وربط العمل ايضا بشكل قوي لفوز الامة الخارجي وظفرها على اعدائها بتحقيق الديمقراطية الداخلية وتكريس مبدأ الحرية وحقوق الانسان، والمشاركة السياسية والدعوة الى التعددية التي سيخصص لها بعد عقدين خطاب وداعه الاخير في السابع من نيسان 1989، الخطاب ذو المضامين الاستباقية المتوثبة في الدفاع عن الديمقراطية والحريّة، ومركزيتهما في النهوض، ومن المؤسف أنه ورد في سياق قومي وعالمي منع غباشه كثيرين من رصد البعد الكامل لحمولته الفكرية الاستشرافية العميقة، بمن في ذلك بعض الأوفياء الخلص للمشروع القومي العربي التحرري سواء من الشخصيات المرجعية أو التنظيمات السياسية .

برز الخطاب في نهاية ثمانينيات القرن الماضي دفاعا مستميتا عن الديمقراطية وحقوق الانسان واعتبارهما مطلبا إنقاذيا إلى جانب أقانيم مشروع الاستاذ المعروفة: الوحدة والحريّة والاشتراكية، المشروع الذي تبلورت ملامح يقظته الوجدانية القومية قبل النضالية من دمشق عام 1943 في رسالة الاستاذ الى سلطات الانتداب الفرنسي في لبنان، بعد اعتقال رياض الصلح وبشارة الخوري ووقعها مع رفيقه صلاح الدين البيطار بالشعار الملهم النابض بالعذوبة وفيض الإشراق النفسي والتاريخي : ( أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة )، شعار أثيل كرس له الاستاذ حياته زهدا وتقشفا ونضالا وتضحية، واوصلته في النهاية تجربته الراعفة بوجيب التأمل واختلاج آفاق الهم القومي وموحش الدرب الى قناعة راسخة بأن تحققه ليس متاحا الا بجهود كل تيارات الامة وفصائلها ومشاريعها المتعددة، وتلاوين طيفها المختلفة، كما أكد خطاب السابع من نيسان الاخير 1989 نصاً ومعنىً : ( ان القضية القومية أصعب وأكثر تعقيدا من ان يستطيع تيار واحد، او حزب واحد، ان يفيَ بحاجاتها او يقوم بحلها او يستوعبها، فإذن هي بحاجةٍ الى جهود الجميع والى آراء ووجهات نظر مختلفة، تتكامل ويصحح بعضها بعضاً).

هكذا توصل فيلسوف العروبة وفتاها الأغر ، الى ان الهم الجامع يحتاج جهد الجميع بعد أن أوصله عمق التحليل وثاقب النظر الى اعتبار الديمقراطية التعددية وممارستها الناصعة هي المصدر الوحيد لكل شرعية تريد ان تفرض نفسها و ( تأتي من حصيلة النضال والحوار والاختيار العملي النضالي ومدى التجاوب مع اماني الشعب وارادة الجماهير) وان الشرعية التي تقدمها الديمقراطية ( لا تكتمل الا بالتوجه نحو العدالة الاجتماعية، ونحو تحرير الطاقات الشعبية من ضغط الحاجة اليومية) و ( انه اذا كانت الديمقراطية مطلوبة كعلاج لحالة سلبية مزمنة اصابت الجسد العربي والحركة الشعبية فإنها مطلوبة لتعميق حالة الاستنفار وتعميق الوعي بالأخطار المحيطة) .

فالمطلوب من المرحلة الجديدة حسب نص الخطاب ذي الحدوس الاستشرافية بعيدة المدى هو: ( عودة تاريخية للحركة الشعبية العربية بوزن بمستوى الاخطار ووسائل الأعداء، وتغيير للعقلية والنظرة الى الجماهير والى المواطنين والى حقوق الانسان تغييرا أساسيا مستندا الى المنطق الحضاري الإنساني للنهضة العربية) كما ( ان العودة الى الديمقراطية بعد غياب طويل عملية صعبة وتحتاج الى جهد جميع المفكرين والقيادات الوطنية والى حصيلة تجاربهم الناضجة من اجل رعاية هذه العودة ومن اجل ان تجتاز خطواتها الصعبة ومراحلها الضرورية )

لقد كان حاضرا في ذهن الاستاذ دون شك أن البعث قبل أن يصبح حزبا حاكما في سوريا انتصر ديمقراطيا على كل الأحزاب السياسية في الانتخابات النيابية 03 مرات : الأولى في 1954 وهي اكثر الانتخابات نزاهة وصدقا في سوريا وحصد فيها 22 مقعدا مقابل 03 مقاعد لاهم الأحزاب السياسية على الساحة السورية حينها، وهو حزب الاخوان المسلمين، كما فاز البعث على نفس الأحزاب في انتخابات 1957، و فاز في آخر انتخابات قبل نظام الحزب الواحد في سنة 1961 وهي آخر انتخابات نيابية تعددية في سوريا حين صعّد فيها 20 نائبا وحلَّ في المرتبة الثانية بعد حزب الشعب، مقابل 10 نواب لتنظيم الاخوان المسلمين.

ولا شك أيضا ان المراقب المنصف والحصيف يستطيع رصد الصدى القوي لهذا الخطاب وفلسفته ومراميه على مستوى الحوارات السياسية التي دارت على مستوى قيادات الحزب العليا في العراق ونظامه الوطني وحكومته ابتداء من سنة 1990، وقامت جلساتها الطويلة في تلك الدوائر المفتوحة حول أهمية التحول الديمقراطي في العراق وضرورة الشروع الفوري فيه، وتُمكنُ العودة اليها في ارشيف الصحافة المستقلة خصوصا أسبوعية ( الْيَوْم السابع ) الصادرة من جزيرة قبرص، قبل أن تتوقف تلك الحوارات وتكبوا بسقوط الامة في وهدة مؤامرة الكويت.

المؤامرة التي قادت بعد حصار وتحالف قوى الاستعمار والرجعية الى سقوط بغداد على يد هولاكو جديد، توجهت مجنزرانه وأدلاؤه من أبناء العلقمي لحظة الدخول العابسة الى وزوارة النفط لحماية النفط، والى ضريح الاستاذ لجرفه وتنفيس جزء من عقدة النقص التاريخي اتجاه أمة كان وما زال الاستاذ المؤسس رمزها المعاصر وملهم ثورتها المتجددة وعنوان كفاحها المشروع.

_____

افتتاحية حزب "الصواب"