إعلان

من تاريخ البلد (تدوينة)

خميس, 07/30/2020 - 19:33

 

طالعت قبل سنوات مضت كتابا صدر بالفرنسية عن مكتبة Quai des Augustins سنة 1789 لمؤلفه الإداري الفرنسي ابيير ريمون ده ابرسون Pierre Raymond De Brisson (1745-1820) روى فيه قصة غرق السفينة التى كانت تقله إلى السنغال و وقوعه أسيرا لدى إحدى المجموعات الموريتانية.

والكتاب عبارة عن قصة مثيرة يرويها رجل ضاق صدره بالحقد نتيجة الأسر و الحرمان و الذل و الهوان إلا أن شهادته تسلط الضوء على حقبة هامة من تاريخ البلد.

و جاء فى هذا الكتاب الواقع فى قرابة 200 صفحة أن ده ابرسون ، و هو ضابط إدارة مستعمرات، أبحر بأمر من المشير ده كسترى Maréchal De Castries، وزير و كاتب الدولة لقطاع البحرية، على متن سفينة تحمل اسم القديسة كاترين Ste Catherine و ذلك فى شهر يونيو 1785 رفقة طاقم لا يتجاوز 10 أشخاص.

وفى منتصف يوليو من نفس السنة غرقت السفينة على بعد ميل من الشواطئ الموريتانية، ربما فى منطقة حوض آركين، ليتم أسر من على متنها من طرف جماعة من سكان البدو . و بعد مضى سنة و نصف توفى جميع رفاق الإداري فى الأسر و من بينهم السيد لتورك . Le Turc قبطان السفينة.

و من حسن حظ ده ابرسون أن يهوديا يدعى هارون كان يقيم بواد نون قام بوساطة أفضت فى النهاية إلى فك أسر الإداري و تسليمه، مقابل فدية مالية، لملك المغرب الذى سلمه بدوره للسلطات الفرنسية.

و سأحاول أن أترجم، بحول الله، مقاطع من هذا الكتاب تروى جانبا من تاريخ البلد، والله ولى التوفيق.

 

***

المقطع الثانى:

الوصول إلى الشاطئ

وصل القبطان و هو مشدود الأعصاب و أمر بتوجيه السفينة نحو الصخور. تحركت السفينة فدفعها التيار بقوة لتضرب قعر المحيط ثلاث مرات و تستقر فوق التراب حيث بقيت هامدة .

عندها سمعنا صوتا رهيبا، صوت تحطم ركائز السفينة و تشقق الأشرعة.

خيم الذعر على الركاب فامتزجت صرخات البحارة بهدير أمواج مخيفة، أمواج أزعجها عدم قدرتها على المرور بين الصخور نتيجة وجود سفينة تفكك.

كان المشهد مخيفا إلى درجة أن أحدا منا لم يحاول النجاة بنفسه. بدأت أصوات الركاب تتعالى، الكل يرفع يديه إلى السماء و ينادى يا حسرتى على زوجتى و أولادي.

أخذ البحارة فؤوسهم و شرعوا فى قطع الركائز فى محاولة يائسة لإعادة السفينة إلى السطح لكن جهودهم باءت بالفشل لكون غرف السفينة قد امتلأت بالماء.

وفى هذه اللحظة الكارثية بالذات اقتربت من القبطان الذى كان ينتقل باستمرار.

تذكرت أن القبطان "كرسينه" قام قبل سنة ونصف، عندما تعرض لحادث مماثل قرب الرأس الأبيض بالانتحار متسببا فى موت عشرات المساكين.

وحقيقة الأمر أننى خفت من أن يقدم "لتورك" على الفعلة نفسها فنفقده.

طلبت منه التحلى بالصبر وحاولت أن أبعث فى قلبه الشجاعة دون جدوى.

كنا سنموت لا محالة لعدم توفرنا على الزاد لولا أننى شجعت جماعة مكونة من السيد "يان"، الملازم المساعد الأول، والسيد "سورى"، مسافر و ثلاثة بحارة انكليز وآخرين على إنزال قارب إلى الماء و الحيلولة دون اصطدامه بجسم السفينة أو غرقه وسط محيط هائج مائج فى محاولة للإبحار ليلة كاملة و مقاومة الأمواج العالية والتسلل بين الصخور للوصول إلى الشاطئ عند طلوع الشمس.

حاولت جاهدا أن أجلب الحبال كي نتمكن من إرساء القارب والعودة به إلى السفينة إذا ما كتب لنا الوصول إلى الشاطئ. هذا ما تبقى لنا من حيلة لإنقاذ القبطان و مساعده و ثلاثة بحارة لم يتمكنوا من مرافقتنا.

وما إن اقتربنا من هدفنا حتى انقلب القارب و رمتنا الأمواج على الشاطئ باستثناء السيد دفوال، أخى قنصل طرابلس فى سوريا.

قفزت فى البحر وكنت سعيدا لتمكنى من انتشاله من الغرق.

تلاشت حظوظ من تبقى على ظهر السفينة فى النجاة إذ لم يعد هناك أمل فى إنقاذهم.

بدأت أشجعهم محاولا أن ابعث فى قلوبهم الأمل ثم قفزت فى البحر ثانية.

تبعنى السيد يان الذى ظل يساندنى كلما احتجت إلى ذلك كما شجع الآخرين على الالتحاق بنا فى محاولة منا لإعادة القارب إلى السطح. تمكنا من ذلك بصعوبة واستطعنا إنقاذ من تبقى على ظهر السفينة العالقة.

وما إن وصلنا إلى اليابسة و نجونا من هذه الورطة حتى أصبحنا ضحية لخطر أدهى و أمر...

و ستتواصل بإذن الله ترجمة الكتاب. ألف تحية

****

 

المقطع الثالث

سألت القبطان إن كان يعرف كم نبعد عن السنغال فى اعتقاده؟ لكن جوابه لم يقنعني إطلاقا. وبما أننى لم أكن أعرف الطريق التى يجب أن نسلكها، قلت لزملائى : لن أتبجح بأننى سأوصلكم إلى أحد أحياء اترارجاه، (اترارزة)، حيث آمل أن يتعرف علي أحد العرب الذين سبق و أن ربطتنى بهم علاقات فى سان لويس، بالسنغال.

قلت لهم إنه فى هذه الحالة لن يطول أسرنا و سيكون أقل قساوة.

كل ما كنت أخافه هو أن أقع فى قبضة حشود أولاد ادليم أو أولاد بسباع الذين يتبعون شكلا رهيبا من الحياة، يجوبون الصحارى باستمرار ، شعوب قاسية حقا تقتات على لحم ولبن الإبل.

لم نبتعد كثيرا عن نقطة الانطلاق حتى طلبت من زملائي الصعود إلى الصخور لنرى فى أي أرض رمتنا الأقدار.

و عندما صعدنا إلى قمة الصخور رأينا سهلا كبيرا يمتد أمامنا، سهل يغطيه رمل ناصع البياض تتخلله شجيرات فروعها تشبه المرجان (corail) إلى حد كبير و تحمل حبيبات صغيرة تشبه فى لونها و شكلها حب الخردل(moutarde) يطلق عليها العرب آفزود، يجنونها ويصنعون منها عجينة يأكلونها.

و بعيدا منا ظهرت تلال يغطيها نوع من السرخس البرى كثيف بدرجة أنك تخاله غابة شاسعة.

و مع تقدمنا صوب التلال عثرت على سماد(fumier) جمال ثم على كتل منه فى عدة أماكن أخرى.

لم يبق لدي أدنى شك بأن هذه البقعة مأهولة، الأمر الذى طمأننا أكثر لأننا حتى ولو كنا نجهل تماما هوية المجموعة البشرية التى نوجد على أرضها، كنا جد سعداء بالاقتراب من حي ما لأن الجوع الذى بدأ يعصرنا كان سيقود حتما إلى وضعية مأساوية.

كنت أدرك أكثر من رفاقي ما الذى سيحملنا عليه الجوع، وأكثر من ذالك ما الذى سيصنعه بنا العطش.

كنت منهمكا فى هذه الفكرة الحزينة إذ أبصرت على بعد مجموعة من الأطفال مشتغلة بجمع قطيع من الماعز، استنتجت حينها أنه تم اكتشافنا و أن وجونا قد أحدث بعض الذعر.

أشعرت صيحات الأطفال العالية سكان الأحياء المجاورة بوجودنا الأمر الذى دفع السكان إلى التقدم نحونا. و عندما تعرفوا علينا بدؤوا يرقصون فوق التراب، يغطون وجوههم بأيديهم و يصدرون صرخات رهيبة، صرخات مخيفة إلى درجة كبيرة.

كان المشهد كافيا لنخلص إلى أن هذه المجموعة لم تشاهد قط وجوها أروبية. فالإشارات والحركات التى قاموا بها فى مستهل هجومهم علينا لم تكن مبشرة.

طلبت من رفاقى أن لا يتفرقوا وأن يبقوا مصطفين على مقربة منى لنتواصل. أتاحت لى أسفارى الماضية إلى السنغال تعلم كلمات من العربية كنت اعتزم الاستفادة منها بالمناسبة. رفعت منديلا أبيض، كان بحوزتى، على عصا علهم يفهموا هذه الإشارة إن كان من بينهم من أقام بالسنغال، أو من سبق له أن رأى سفينة قرب الشاطئ - فى هذه الحالة سيتيقنون، لا محالة، أننا لسنا سوى مجموعة بائسة من الفرنسيين رمت بها الأقدار على هذا الشاطئ.

عندما اقترب منا هؤلاء المتوحشون انفصل الملازم الأول و مساعده عن مجموعتنا فأحاط بهما السكان و أمسكوا بطوقيهما. وفى هذه اللحظة بالذات سطعت الشمس بقوة فانعكست أشعتها على خناجر من الصلب الخالص عرفنا من خلالها أنهم مسلحون، الأمر الذى لم أنتبه إليه من قبل لأننى كنت أتقدم باطمئنان.

لم يظهر المسكينان اللذان اختطفا و لم تفلح جهودى فى ثنى المهاجمين عن الانقضاض على رفاقى. دب الرعب بين صفوفهم و بدؤوا يستنجدون ويصرخون قبل أن يتفرقوا.

هاجمهم العرب بشراسة ووحشية، ملوحين بالخناجر و الصولجان فسقط من بينهم جرحى و رأيت الباقى ملقى على الأرض، عاريا، قد سلبوه كل شيء .

يتواصل بحول الله وقوته ..

 

 

***

المقطع الرابع

لمحت وسط هذه المجزرة عربيا غير مسلح اعتقدت، من خلال ثيابه، أنه ربما كان من بين الشخصيات التى رافقت الأمير اعل الكورى أثناء زيارته لي فى سان لويس، فركضت نحوه وارتميت بين ذراعيه. تأملنى برهة قبل أن يلتفت إلى السيد دفواز، مساعد القبطان ثم إلى خمسة آخرين من زملائى لم يفارقونى لحظة. رمقنى بنظرة ملؤها الاحتقار فهمنا منها أننا لسنا أكثر حظا من رفاقنا الآخرين.

أمسك بيدى وبدأ يعد أصابعي ثم سألنى: من أنت؟ من أين قدمت؟ كيف وصلت إلى هنا؟ رسمت له على التراب صورة سفينة واستعنت بالمفردات القليلة التى أعرفها من العربية و بالإشارات لأشرح له أننى بحاجة لمساعدته ليوصلنا إلى وجهتنا.

شرحت له أننى أحمل معى ما يكفى للتعويض عن متاعبه. وسرعان ما اتضح لي أنه كان أكثر استيعابا للجزء الأخير من كلامى لأنه أمسك بيدى من جديد ليشعرنى أننا أصبحنا صديقين ابتداء من هذه اللحظة و طلب منى أن أسلمه فورا ما ذكرت له.

فدفعت له ساعتين جميلتين مع سلسلتيهما و مجعد طوق من الذهب و زوجى مجعد من الفضة و خاتما مرصعا بالحجر الثمين و كوبا و أطباقا من الفضة و مائتي ليرة نقدا.

و إن كنت لاحظت أنه ارتاح كثيرا لحصوله على الحلي فقد تأكد لى أن فرحته كانت أكبر عندما استلم النقود. عمد فورا إلى إخفاء غنيمته بإتقان فى القميص الأزرق الذى يرتديه متعهدا بحمايتى.

لم أكن أعتقد أن الحلي التى أخذت معى بغية إنقاذها و سعيا منى لكسب مودة من شاءت الأقدار أن أقع فى قبضته ستصبح يوما ما مصدر شقائي وحزنى.

و بعد أن انتهى من تأمين غنيمته التفت العربي نحوى و سألنى عن المكان الذى غرقت فيه سفينتنا؟ فأشرت إلى الجهة، فنادى بعض قومه و طلب منهم مرافقته.

تبينت من خلال تعاملهم مع من تعهد بحمايتى أن الرجل يحظى بالتقدير، كان كاهنهم لكونهم يلقبونه بالطالب.

بدؤوا يصرخون فرحا عندما وصلوا إلى الشاطئ لكن الغيرة التى كنا نراها تلمع فى أعينهم ما لبثت إلى أن تحولت إلى منافسة شرسة.

حاولوا فى البداية إرغامنا على السباحة نحو السفينة للعودة منها بما أمكن إنقاذه لكننا رفضنا متذرعين بالخوف من الغرق وعدم معرفتنا للسباحة.

وجدوا أنفسهم مرغمين على السباحة، الشيء الذى جعل من تبقى منهم على اليابسة يتحسر لعلمه أنه لن يحصل على نصيب مما سيجلبه السباحون، وكان تحسر النساء لافتا للنظر.

انتشر بسرعة فى المنطقة كلها خبر غرق سفينتنا، فشاهدنا أفوجا كبيرة من هذه الشعوب المتوحشة الجشعة تقبل مسرعة من كل ناحية وهذا بالذات ما تسبب في وقوع اشتباك خلف العديد من القتلى.

وبما أنهن لا يستطعن المشاركة فى نهب السفينة، استشطن غضبا فهاجمننا وانتزعن منا بقوة مفرطة الجزء القليل الذى تبقى علينا من الثياب.

تعلقن خصوصا بما كنت ألبسه إذ تيقن أنه ربما كان أكثر بهاء مما سواه.

ولما لاحظ المدافع عنى، وهو من فئة المحاربين، أن أعداد العرب فى ازدياد مستمر استدعى اثنين من رفاقه و اتفق معهما على حماية و تقاسم الغرقى الإثنى عشر الذين سلموا له أنفسهم. كان إبرام هذه الصفقة أفضل خطة لديه للاحتفاظ بغنيمته.

و عندما ما انتهى مع رفاقه من مناقشة تفاصيل خطة اقتسام الغرقى ونصيبه من حمولة السفينة ابتعد عن الجمع وأخذنا معه إلى مكان ننجو فيه من الشتائم.

قادنا إلى كوخ بائس مغطى بالطحالب يقع على مقربة من البحر حيث لم نجد بدا من أن يضجع بعضنا فوق البعض نتيجة لضيق المكان.

وما إن تكدسنا فى الكوخ حتى بدأ المدافع عنى بتفتيشنا الواحد تلو الآخر خوفا من أن نكون قد أخفينا عنه أدنى شىء.

شرع فى تفتيش رفاقى بعنف لأنه لم يحصل منهم على شيء من قبل. بدأ بسبهم ثم انتزع ملابسهم ومناديلهم موضحا أنه إن لم يقم بذلك فسيأتي من يقوم به. عندما ما انتهى من تفتيشهم سعى لتعريضى لنفس المحنة لكننى ذكرته بأننى دفعت له الكثير، فتركنى.

لم أعرف حتى اللحظة فى قبضة أى قبيلة قد وقعنا، وفى سعيى لمعرفة ذلك توجهت بالسؤال إلى سيدى مستعينا بالإشارات. فجرى بيننا الحديث التالى:

ما اسمك؟ و من أى قبيلة أنت؟ ولماذا هربت من شاطئ البحر أمام تقدم المجموعات الوافدة؟

- اسمي سيد احمد دل زوز و أنا من قبيلة لادبسبع. هربت من أمام أولاد ادليم لأننا لا نقيم معهم علاقات جيدة. ثم أضاف مشيرا إلى رفاقى هل هؤلاء إخوتك؟ رددت على أسئلته لكننى حزنت كثيرا عندما تبين لى أننا وقعنا فى قبضة جماعة قاسية تقطن صحراء العرب.

قلت فى نفسى سنعانى كثيرا ونحزن كثيرا إلى أن يتم تحريرنا.

وكيف سيتم تحريرنا؟ لم استطع التفكير فى ذلك.

صدق حدسى، عاد سيدى إلى الشاطئ ليأخذ نصيبه مما نهب من السفينة وذلك بعد أن أخفى فى التراب الكنز التى دفعت له.

و فى غيابه جاءت مجموعة من أولاد ادليم فحاصرت مخبئنا ثم بدأت تنهب وتدمر وتقلب كل شيء.

أمسك أفراد المجموعة برقاب بعضنا وبشعر البعض الآخر ثم تقدم اثنان منهم نحوى فأمسك واحد بذراعى الأيمن والآخر بالأيسر، كلاهما محاولا انتزاعي من صاحبه. تسبب الجزء القليل من الثياب المتبقية على جسدى فى نشوب هذا الصراع المرير.

وصلت مجموعة أخرى فأحاطت بنا وانتزعتني من الخصمين وسحبتني جانبا. وبعد أن سلبتنى قميصى و منديل رقبتى دفعتنى خلف كومة من التراب.

هناك بدأت تعتدى على حرمة جسدى وتضربنى وترفسني، فقلت فى نفسى، عندما رأيت المجموعة تحضر حبالا لشد وثاقى، لقد اقتربت ساعتي الأخيرة.

يتواصل بحول الله .

 

 

 

من صفحة العميد عبد الله بزيد