حلم الطيران! / محمد ولد إمام

خميس, 02/17/2022 - 13:47

كلنا قرأنا عن السفر وفوائده السبع، وربما السبعمائة! وكانت وسائل النقل والسفر من خيول وإبل وغيرها موضوع الكثير من الكتب والأشعار، ففي البيان والتبيين للجاحظ وفي الأغاني والعقد الفريد وغيرها من الكتب القديمة فصول مخصصة لأنواع الخيل ومراتبها ولأبي الطيب الكثير في وصف الخيل والإبل وفضائلها حتى إنه يفديها بالنساء! ألا كُلُّ مَاشِيَةِ الخَيْزَلَى, فِدَى كلِّ ماشِيَةِ الهَيْذَبَى ..

فهذه الإبل الخيل هي في الحقيقة، حبالُ الحياة وغيظُ العداة وميطُ الأذى.. والكلام عن هذا الموضوع يستحق كتبا، وقد كتبت فيه بالفعل، ولن أطيل به عليك هنا، لكنني سأتناول موضوعا قريبا منه يستحق التأمل، ألا وهو وسائلنا المعاصرة، خصوصا الطيران.. فقليلا ما نتفكر في هذه المعجزة التي طالما حلم بها الإنسان، ونسج عنها في خياله وأحلامه الكثير وحاولها كثيرا، وأخيرا غزا الإنسان الجو بعد الأرض والبحر، وأصبح يمكنه أن يطير حرفيا لمئات الأمتار، وبسرعة لم يكن يتصورها في أكثر أمانيه جموحا!

وقد تابعت محاضرة للمفكر وين داير Wayne Dyer يتحدث فيها عن غفلة معظم الناس عن هذه الحقائق، فتراهم يتذمرون إن تأخرت الطائرة ساعات، أو إن اضطروا للانتظار في المطارات أو المبيت فيها انتظارا لرحلة تأخرت. وأنا شخصيا خلال بداياتي مع الطيران كنت كالجميع، لا أفكر إلا في الوصول بسرعة وإن تأخرت الطائرة امتعضتُ كباقي المسافرين، ولكن بعد فترة أدركتُ كم كنت ناكرا للجميل! فهذه الطائرة وعمالها يقومون بمعجزة حقيقية، فالسفر قبل الطيران لنفس المسافة كان يتطلب من أجدادنا شهورا من التحضير، وجمع الزاد، وتحضير المراكيب وبعد ذلك الاضطرار إلى تحمل الشمس والبرد والتخييم وطي الخيم وتحميلها على ظهور الدواب كل مرة، ورعي المراكيب وإرجاعها في كل يوم مرتين على الأقل، فضلا عن الطبخ وما يترتب عليه من غسل الأواني قبل وبعد مع عدم وجود ما يحفظ الزاد لأيام فما بالك بشهور فعليهم إما الاكتفاء بالحبوب وما شابهها، وإما البحث الدائم عن الطعام الطازج الذي سيكلف الكثير إن وُجد أصلا.. ويمكننا أن نتصور باقي التفاصيل المضنية، فضلا عن الأمن واللصوص وقطاع الطرق.. والآن نحن في نعم لا نقدرها غالبا ولا نحمد الله عليها، فأنت تقطع مسافة شهور في ساعات، مع أشخاص يخدمونك ويقدمون لك الأطعمة والأشربة في جو مكيف الهواء مع وسائل الترفيه وإمكانية النوم حتى.. ورغم ذلك إن تأخرت قليلا ترى الناس يمتعضون ويشكون وبعضهم يشتم المضيفين والشركة! وخلال تجربتي على مدى ثمانية عشر عاما من الأسفار عبر الطيران، عملت على تنمية الامتنان وشكر الله على نعمه، بدل التذمر أو عدم المبالاة. حتى لو تأخرت في مطار ما ليلة أو يوما كاملين، أذكِّرُ نفسي بأن أجدادي كانوا يعانون ما لا يُقاس بهذا من الجهد على مدى أشهر طويلة مع احتمال التعرض للنهب وربما القتل خلال الرحلة، فماذا يعني أن نتأخر ساعات؟ ونفس الشيء ينطبق على القطارات، والسوبر جيت وغيره. ثم إنني صرت أحرص على اغتنام كل سفر للتعرف على مجاوري في الطائرة والحديث الودي معهم، طبعا بشرط أن ألمس منهم الاستعداد لذلك، فتعرفت على الكثير من الناس من مختلف الأعمار والأجناس والثقافات، وقد مكنتني اللغة الإنكليزية من صنع الكثير من الأصدقاء عبر الأسفار فنادرا ما أجد من لا يتحدثون العربية ولا الإنكليزية ولا الفرنسية. والتواصل الإنساني عندي مهم جدا خصوصا في السفر، وأتعجب ممن يمتعضون أو حتى يغضبون لأن أحدهم سد الممر مؤقتا ليضع حقيبته أو لينزلها، أو غير ذلك، فبدل أن تكون ردة فعلنا أن هذا الشخص يؤخرنا ويأخذ من وقتنا، فلنساعده ونبتسم في وجهه، ولا داعي للعجلة والتدافع فالجميع سيخرجون من الطائرة ويمضون في حياتهم وكل شيء سيكون على ما يرام! إن هذا المنظور للحياة عموما مهم جدا حتى نعود أنفسنا على الامتنان وتثمين ما لدينا، والبعد عن التذمر والامتعاض من كل شيء لم يسر على هوانا أو توقعاتنا..

 

من #كشكول_الحياة نُشر بتاريخ 15 سبتمبر 2019.. محمد ولد إمام