إعلان

كتبت الدكتورة باته بنت البراء.. وقفة مع قصيدة "انعكاسات"

ثلاثاء, 03/01/2022 - 02:14

وأنا أتصفح قصائد للشاعر محمد ولد إمام في ديوانه " وحي الفجر" توقفت عند هذه القصيدة التي أحسستها تعبيرا صادقا عن إحساس كل من يحمل دما عربيا أصيلا. 

قصيدة "انعكاسات"، نفثة مصدور ضاقت به السبل ولم يعد للحياة طعم يستهويه؛ فالنص مُشَكَّـلٌ من انكسارات الواقع المُضْني وتحديات الزمن الرَّدِيئِ، لم تعد الحياة  تمنح الشاعر المسكون بقضايا الأمة والوطن مجالا للتنفيس، ولا بارقة من الأمل.              

إن مُعاناته أرْبَتْ على معاناة المغتربين من الشعراء، وجاءت وليدة شرط تاريخي يفوق تَـرَدِّيهِ الخيال، فلا شيء يدعو للتمسك بالعيش،  والراهنُ الاجتماعي والسياسي للأوطان والشعوب العربية على ما هو عليه، والمُبْتَـلَى بحبهما يشهدُ الأَمَرَّيْـنِ ويعيش الإحباط َوانحسارَ الأمل، بل يفقد شهية الاستمرار في هذا الوجود ولا يجد متعة للملذات. 
والشعر دوما يظل تعبيرا عما يعتمل في النفس، وتسجيلا لمواقفَ من مجريات الأمور حين يختبر الزمن الإنسان  بفقدِ عزيزٍ، أو صدودِ حبيبٍ، أو فشلٍ  في الوصول إلى المُبتغى، فيسجل اللحظةَ تلكَ نبضا حارقا، عسى يُنَفِّـسُ عما به، ويجد من يشاركه الشَّجَى.
والشاعر العربي المعاصر يَـنُـوءُ بحِمله منذ القرن الماضي، وهو حِمل تضاعف متسارعا في القرن الجديد، ولم  يقتصر على تردي الواقع السياسي وتدني الوضع الاجتماعي والاقتصادي، بل تعدى إلى تفاقم الظلم واستمراره، إنها أمة مبتلاة بعتاة الغرب؛ يعيثون فيها استئسادا وفسادا، وكلما استنزفوا ثرواتها، وأمعنوا فيها قتلا وتهجيرا وتشريدا، باركهم  الحكام وأداروا لهم صفحة الخد الأيمن ليصفعوهم على الأيسر.
يقول الشاعر:
هـذي الخيالاتُ مـا عــادتْ تُــواسِيني ** ولا ادِّكــارُ زمــانِ الــمــاءِ يُــــرويـني 
ولا صدى النَّايِ في سمْعي ودنْدَنَـةُ الْ ** أشيــاءِ حَـوْلِـيَ مـن صَمْـتٍ تُـعَــرِّيـني 
كَيْـفَ التَّـغَـنِّي وَذِي الأوتَــارُ بَــالِــيَـةٌ ** وذاكَ زِرْيَــابُ مقـطُــوعُ الـشَّــرَايِـيــن  
لَحْــنُ الـدَّمَــارِ تَـوَلَّى العَـزْفَ تُنْـجِـدُهُ ** يَــدُ المَـنِـيَّــةِ مـن حـيـــنٍ إلى حــيــــنِ  
ما عَـادَ شـعــرُ أبي نَــوَّاسَ يُطْــرِبُـني** ولا ابْــنُ زيــدونَ بالأشعــــار يُبكِـيني 
ما عاد يلْـزمني العيشُ المُزيّـفُ في الْــــماضي ومـا عــادَ ذُو قــارٍ يُـعَـــزِّيــني 
ولا اعْـتــذارُ أخـي ذُبْــيــانَ يُعْـــذِرُني** ولا أســاطيــرُ عَـبْـدِ القَـيْـسِ تَـعـنِـيني 
إني اسْـتَـقَـلْـتُ من التــاريـخِ أجْـمَـعِـهِ ** وجِـئْـتُ عَـيْـنَـيْــكِ أستَسْقي فَضُـمِّـيني 
وَعَـلِّـمِـيـنِـيَ نِـسْـيَــانًــا أعِــيـــشُ بــهِ ** وبـعْـــدَ ذلــكَ فانْـسَـيْـنِي لِـتُـنْـسِـيـنِــي 

إن الشاعر يعلن استقالته من الحياة، يريد أن يرجع إلى الرحم الأولى مهد التكوين، فاليأس وصل به إلى أن يضرب عرض الحائط بكل ما سُطِّـرَ عن التاريخ العربي والمجد العربي، سيما وأن اللوحة أمامه سوداء  صارخة التفاصيل؛ حضارات عريقة تُطمس معالمها،  دول تُغْزَى وتُشَرَّدُ شعوبُها، معالمُ أثيلةٌ  تُهدَّم أسسها وتُنهب كنوزها، أراضٍ تُحتل ويُـبـادُ ذووها.

    هكذا تأتي القصيدة سينفونية حزينة تنأى بحاضرها، ولا ترى أفقا مستقبليا يخفف شجنَها؛ فمنذ البدء يعلن الشاعر تمرده على كل مباهج الحياة من حوله: فلم يعد يكترث للخيال ولا يحفل بالذكرى، ولا هو يطرب لصوت الناي أو يصغي لدندنة  المواويل، كلها لا تعني له شيئا، إنه يعيش حالة من الإحباط أفقدته مذاق الأشياء الجميلة، فلا هو يستسيغ الماء النمير، ولا يأنس للخيال المجنح، ولم يعد صوت الناي يستهويه، لقد فقدت الأشياء مذاقها العذب، وِبَلِيَتْ الأوتارُ بعد أن مات سيد الغناء ورمز الفن الراقي "زرياب"،  لم يعد يكترث  للتاريخ الناصع الذي سطره أماجد القوم أيام ابتسمت لهم الدنيا ودان لهم الأقوياء:

كَيْـفَ التَّـغَـنِّي وَذِي الأوتَــارُ بَــالِــيَـةٌ ** وذاكَ زِرْيَــابُ مقـطُــوعُ الـشَّــرَايِـيــن  
لَحْــنُ الـدَّمَــارِ تَـوَلَّى العَـزْفَ تُنْـجِـدُهُ ** يَــدُ المَـنِـيَّــةِ مـن حـيـــنٍ إلى حــيــــنِ

هو يعلن بكل طواعية الاستسلام، ويلجأ إلى الهروب والتحلل مما يربطه بالحياة؛  فلا الماضي يعزيه، ولا الحاضر المر يؤويه.
لقد أصبح الامحاء والاستسقاء من عيني الأنثى  ملاذه الوحيد، ومهربه من رهانات تاريخية وقومية خائبة خائنة،  ظل الساسة يتلاعبون بها  ويقدمون التنازلات تلو الأخرى للغرب حتى لم يبق ما يراهن عليه.

إن هروبه ليس هروبا رومانسيا كَـلَّا، وإنما يأسا حارقا ألجأه إلى البحث عن مصدر الحب والحنان في هذا الكون الناري، ولم يجد ذلك إلا في مصدر الحياة الأول الذي أخرجه إلى هذه الدنيا، فاستنجد به ليعيده سيرته الأولى قبل النشوء والتكوين؛ يريد الأنثى التي ظلت الحاضنة البكرَ، ومنبعَ الحنان وسرَّ الإلهام، ويختارعينيها دثَــارًا يسكن إليه، ليذيب فيه كل جراحاته، بل مرآةً  ترتسم فيها كل لحظات حزنه وأساه، ويقرأ مطالعها ما يكنه من الآهات، وما يحمله من الجراحات:
إني اسْـتَـقَـلْـتُ من التــاريـخِ أجْـمَـعِـهِ ** وجِـئْـتُ عَـيْـنَـيْــكِ أستَسْقي فَضُـمِّـيني
وَعَـلِّـمِـيـنِـيَ نِـسْـيَــانًــا أعِــيـــشُ بــهِ ** وبـعْـــدَ ذلــكَ فانْـسَـيْـنِي لِـتُـنْـسِـيـنِــي

إنه ينشد النسيان، أن يكون نسيا منسيا ليتحلل ويتطهر من كل الأوجاع والأحزان.
وليس الشاعر مفردا في حزنه وألمه، بل هو صوت عميق صادق لكل الشعوب العربية التي عانت وتعاني ظلم الحكام وجبروت المستعمر، وتعيش الفقر والجهل والتشريد، في حين ينعم الآخر بخيراتها، ويشن الحروب تلو الحروب على بلدانها؛ فمن إسقاط بغداد، إلى تدمير طرابلس، وتمزيق سوريا، وتهويد القدس، ويظل الحبل على الجرار وتظل المعاناة مستمرة قائمة.
 
إن "انكسارات" سينفونية حزينة عَضَّدَ تَشَكُّـلُها الأسلوبيُّ والإيقاعيُّ مضمونَها، فجاءت جملها تقريرية مؤكدة، وشاعت في معجمها حقول الحزن والأسى، وتبنت قافيتها  رويَّ النون الحزين لتثير لدى المتلقي كل الأوجاع والانكسارات التي يعيشها  الإنسان العربي في العصر الراهن.