إعلان

أدبيات الطلاق في الشعر الحساني / الشاعرة باته بنت البراء

سبت, 11/12/2022 - 09:55

 

يقول الشاعر ديدي ول سيدي ميله: 
تِخْـلِـيــتْ إِلْلِّي نَـقْـصَـــدْ @ تِـــرْتَـــدْ إفْ كِـلْ ابْـلَــــدْ
وِاسْـمَـعْـــنَ ذَاكْ الـــرَّدْ @ ؤُبِــيــهْ افْـــرَحْـنَ، وِاحْـنَ
وَاللهْ مَــا يَعْـــرَفْ حَــدْ @ احْـــنَ شِي امْـفَـــــرَّحْـــنَ
اتخذت الطلعه أدنى حد متواضع عليه للبنية الشكلية لها في لغن الحساني، وجاءت لإفادة خبر تلقاه الشاعر كغيره من الناس بعد أن شاع وذاع، فسجل انطباعه حوله في ست تيفلواتن من لبتيت الناقص، تتالت فيها ثلاث جمل خبرية:
(تِخْـلِـيــتْ إِلْلِّي نَـقْـصَـــدْ @ تِـــرْتَـــدْ إفْ كِـلْ ابْـلَــــدْ
وِاسْـمَـعْـــنَ ذَاكْ الـــرَّدْ @ ؤُبِــيــهْ افْـــرَحْـنَ...)

ثم ختم الشاعر النص بجملة قسمية ممتدة : (وِاحْـنَ
وَاللهْ مَــا يَعْـــرَفْ حَــدْ @ احْـــنَ شِي امْـفَـرَّحْــنَ)
لم يكشف لنا الشاعر كل حيثيات الخبر، بل حرص على تشفيره حد الإبهام المثير؛ وجاء به على شكل خبر مختصر مكثف لا يُراد له أن يقدم التفاصيل، غير أن الخطاب الشعري ليس كغيره من الخطابات، فحين يُنقل الخبر شعرا، فإن ذلك يستدعي من المتلقي انتباها أكثر، ووقوفا عند دلالات المعنى، فالشاعر أورد الخبر ولكنه أذكى في ذهن المتلقي أسئلة ملحة:
- ما الداعي إلى نقل الخبر وقد عرفه القاصي والداني؟   
 - من تلك المطلقة المقصودة؟          
 - لم فرح الشاعر؟
-لماذا أقسم أنه لا يعرف سبب فرحه؟
 لعل تلمس إجابات للأسئلة السابقة  يمكن أن يضيء زوايا النص الواضحة معجميا والملتبسة والمشفرة دلاليا.
لقد وضع الشاعر المتلقي أمام نص من نوع خاص؛ يذكر فيه المحبوبة ولكنه يضفي عليها ثوب الستر: (تِخْـلِـيــتْ إِلْلِّي نَـقْـصَـــدْ)،  ويبوح  بمكنون ولكنه لا يفصح عنه: (وِاسْـمَـعْـــنَ ذَاكْ الـــرَّدْ @ ؤُبِــيــهْ افْـــرَحْـنَ)، وهو يفرح لحادثة شاعت، ولكن لا أحد يشاركه تلك الفرحة التي استأثر بها لنفسه: (َواللهْ مَــا يَعْـــرَفْ حَــدْ @ احْـــنَ شِي امْـفَـرَّحْــنَ)
إن الشاعر يضعنا أمام نص مثير يتعلق بحادثة طلاق سجل حولها انطباعا غائما، وكثيرا ما تحدث شعراؤنا عن هذه الظاهرة مباركين وداعمين، فمجتمعنا متميز في بعض عاداته ومسلكياته، فإذا كان الطلاق انفراطا لعقد شرعي، وهو أبغض الحلال إلى الله، وكانت نتائجه سلبية على الأم والأولاد، وكثيرا ما أثارت الشحناء والبغضاء بين الأصهار، مما جعلها وصمة عار لدى الكثير من المجتمعات، ومصيرا تظل المرأة تدفع ثمنه مدى حياتها هي وأطفالها، فلا الأهل يقبلونها ضيفا مرحبا به لديهم، ولا الرجال الآخرون يبتغونها زوجة وسكنا، فإن مجتمعنا على الخلاف من ذلك منح المرأة مكانة لا يستهان بها، ودأب على أن يعوضها خسارتها في الطلاق، حيث تتزين يوم فراقها الزوج وتحفها الصديقات والقريبات، ويضرب الطبل وتعلو المواويل والتصفيقات مرددة: 
(ماهي شينه اشباب اتخلات، سالمه والراجل ما مات)
ومن جهة أخرى يستثير الحدث مروءة الرجال ونخوتهم، فينظمون الأشعار بالمناسبة، ويعمدون إلى عرقبة دابة أيا كان مالكها (اتعركيب) ليوفروا الطعام المناسب للمتجمهرين، وهو تلويح بليغ بأنهم مهتمون بشأن المطلقة، ومستعدون لتعويض خسارتها. 
هكذا يأتي الدعم النفسي والاجتماعي بلسما لجراح المرأة في ذلك الموقف، أما الأهل فيحتضنونها بكل رحابة هي والأولاد، وتظل محط رعايتهم وعنايتهم، حتى تتزوج إن قدر لها؛ وحتى يكبر الأولاد ولذا شاع المثل: (لمر كافي امن احسانها حد اطلص اعليها أولادها)، قياسا على البقرة، فنادر أن يلتفت الآباء في مجتمعنا إلى الأبناء بعد أن يطلقوا الأم، وإن كان ذلك فقليل ماهم .
لذا لا يأتي نشازا كما أسلفت أن يتغنى الشاعر بطلاق امرأة، وأن يعلن غبطته بذلك، فهو مألوف مشرع في منظومة القيم البيظانية
وكثيرا ما احتفى الشعراء الموريتانيون بالمطلقة وساندوها إثر الطلاق مروءة منهم وشهامة:  
فالشاعر محمد ول أحمديوره لا يفوت حادثة طلاق لحريطاني للرعبوب فيقول:
الطَّــــلَاقْ اعْـيَ يِــتْــوَسَّـــدْ @ مِـتْـنْ الشَّـعْــبَه، وِالشَّـيْـنْ أَشَـــــدْ
وِافْــذَ الطَّـــلَاقْ إِلْلّي يِـرْتَـدْ @ عَـنْ لِاحْــرَيْطَـانِ لِلــرَّعْــبُـــوبْ
اعْــرَفْــنَ عَـنْ يِـتْخَــلَّ حَـدْ @  مَـاهُــو شَـيْـنْ،  ؤُلَاهُـو مَشْعُوبْ
أكيد أن هذه الطلعة سترمم ما انكسر في نفس الرعبوب إثر الطلاق، والأرجح لدي أن لحريطاني حين يسمع الطلعة سيبادر إلى مراجعة الطلاق بعد أن عرف ما تتمتع به زوجه من مواصفات حجبها عنه القرب.
ومحمد عبد الله ولد سعيد ولد عبد الجليل وهو المتيم بمنت البار، يتلقى نبأ طلاقها فلا يخفي غبطته وإلغاءه الأوليات المعيشية التي كانت تشغله، ورضاه باليسير منها بدل الكثير:
لَحَّــگْ لِلِّي وَاسَ فِالـــشَّــــرْ @ إِلْ لَاحِگْ لَخْلاَگْ، ؤُلَا َظَــرْ
مِسْلِـمْ، عَنِّي نِـبْغِي نَجْــبَـــرْ @ مَـــرْكُوبْ اِمَـرَّگْــنِي لِلـــدَّارْ
اجْمَـلْ مَعْلُــومْ إِعُـودْ اذْكَــرْ @ نِـبْـغِـيهْ، ؤُخَالِگْ مِنْ لَخْبَـارْ
إِلْلِّي مَذْكُورْ الْحَگْهُمْ شَـرْگْ @ كِيفِــتْ تِخْـلِـيِّــتْ مِنْتْ الْبَـارْ
رَاعِي ذِيكْ اِيلَ عَادِتْ حَگْ @ كَافِـيـنِي مِنْ مَرْكُـوبْ احْمَارْ
ولا يبخل الشاعر عبد الله ولد لمسيد في الدعم النفسي ل "مريم مان" حين طلاقها فيواسيها بأنه الأمر شائع وسنة متبعة في المجتمع، وأن طلاقها حدث سيغير موازين الأشياء؛ إذ ستضرر منه كافة النساء؛ فالمتزوجات يتهددهن الطلاقُ، والمخطوبات فقدن الخطابَ، والمنتظرات نصيبا سيطول انتظارهن، يقول:
تِـخْــلِـيِّــتْ لِــعْـــلَــــيَــــاتْ @ أَلَّا گَــــطْ اتْــــــوَسَـــــــاتْ
غَــيْــرْ امْـنَـيْــنْ اتْـخَــلَّاتْ @ مَـــــرْيَــــمْ مَــانَ مَـا تَـــاوْ
مَــانَـــــــــلَّ مَـطْــرُوبَـاتْ @ لِــعْــلَــيَــــــاتْ اسَّـــــــوَاوْ
ذُوكْ إِلْلِّي مَــــشْــــدُودَاتْ @ خَــــافُـــو مِـــنْ يِــتْــخَلَّاوْ
ؤُذُوكْ إلْلّي مَــصْـحُوبَاتْ @ مِنْهُــمْ لَصْــحَــــابْ ؤُفَـــاوْ
ؤُذُوكْ الْــمِــسْــتَحِـفْــيَاتْ @ أَّلَّ بَـــــــاشْ اسْـتَـحْــفَـــاوْ

وفي هذا السياق تأتي طلعة ديدي التي سجلت بخفة وظرافة وإبهام مقصود طلاق الحبيبة، ويبرز النص الحذر الزائد لدى الشاعر، وتكتمه على مشاعره تجاه الحبيبة، فيا ترى هل هي على علم  بحبه لها؟ 
 المؤكد في النص أن الآخرين لا يعلمون عن ذلك شيئا، ويكفي القسم شاهدا: (َواللهْ مَــا يَعْـــرَفْ حَــدْ @ احْـــنَ شِي امْـفَـرَّحْــنَ)
مما يؤكد أنه حب دفين،  لم يجد الشاعر فرصة للتعبير عنه إلا حين حدث الطلاق، فأشار إليه تلك الإشارة الموجزة، وهذا ما يجعل النص يتنزل في إطار الغزل العذري من الدرجة الأولى، إذ ليس فيه تعيين ولا تلميح إلى سالف وصل، ولا إلى أن أحدا مطلع على ما أَكَنَّتْهُ حنايا الشاعر.  
  ورغم أن الشاعر ديدي نأى بنفسه وبنصه عن مطبات المباشرة والتقرير، وأبت له تربيته الدينية والأخلاقية أن يفصح عن مكنونه، ويعرض محبوبته لتطرق الألسن وأحاديث المتفكهين، فإنني أظن ظنا يقارب اليقين أن الرسالة وصلت وأدت وظيفتها التعبيرية والجمالية، وأن المعنية عرفت أنها المقصودة ضمنيا بالحديث، وأن المنشغلين بالأدب وتسقط أخبار الناس سيتأولون ويخمنون ويدلي كل منهم بدلوه، ومع ذلك يظل النص محافظا على إيحائيته ورمزيته، قابلا لتجدد القراءات والتأويلات.