الرحالة مونكًو بارك عند أولاد امبارك

أربعاء, 08/16/2023 - 01:32

 

سيد محمد بن عبد الوهاب

 

كان مرور المستكشف والمخابر البريطاني مونكًو بارىك (نهاية شهر شعبان 1210 هجري، مارس حتي يونيو 1796م) بالأراضي التابعة لسلطنة أهل بهدل ولد محمد ازناكًي (أولاد امبارك) أيام الأمير أعل ولد اعمر ولد بهدل اضطراريا نظرًا لأجواء اقتراب حرب شرسة بين ملك كارتا (ديزي كوريباري) وملك إقليم سيكًو مانسونكً، البمباريين، بسبب خلاف بسيط حول استرجاع بعض المواشي المستلبة ونظرًا للتنافس الدائم حول الموارد والنفوذ بين الجارتين.

 

هكذا شاءت الأقدار أن تخرج للوجود هذه القصة التي تحملنا إلى الفضاء الملحمي لسلطنة أهل بهدل من خلال نظرة أوربية مسيحية تشكل استطلاعًا عرضيًا على سكان الساحل والصحراء، ووثائقيًا مكتوبًا عن إحدى المجموعات الحسانية التي نسجت جزءا هامًا من ثقافة البيظان.

 

كما أنها تجسد صنفًا من البرتوكولات الثقافية والتلاقي الحضاري المعقد بين عوالم تفصلها غياهب الاختلاف وتراكمات الحقد المؤسس ولًا تفاهم العميق.

 

ونظرًا لندرة التدوين الوقائعي عن تلك الفترة و"انشغال أصحابها بصناعة التاريخ بدل كتابته" كما يشير إليه د. محمد بن بواعليبه الغراب في تقديم ترجمته لهذه الرحلة (دار النشر جسور، 2014) فإن تفاصيل القصة تكتسي أهميةً نظرًا لبعدها الرمزي وطابعها الاستطلاعي الظريف مثل حكاية ولد كيجه النصراني Renee Caillée مع البراكنه وكاميل دولس Camille Douls مع أهل الساحل .

 

تطرق الطبيب المغامر لتفاصيل هذه الحلقة من مشواره في الأجزاء (9 - 10 - 11 - 12 و13) من كتابه الشهير " Travels into the interior of Africa " الذي نعتمد نسخته الورقية Wordsworth Editions 2002 والصوتية (Audio Book read by Lynda Marie Neilson  على اليوتوب) نظرًا لأهميته كشهادة نادرة على إحداثيات فترة من التاريخ الثقافي والسياسي للمجتمع الموريتاني .

 

صعوبة الحصول علي دليل وضمانات لقطع الطريق في خضم هذا الجو المتوتر أدت بالمغامر م. بارك الي تغيير مساره نحو جهة الشمال (منطقة جارا وترنكًومبو التابعة لأولاد امبارك) بعد استشارة ديزي كوريبارلي (ملك كارتا في عاصمته كامو) الذي نصحه أولاً بانتظار نهاية الحرب المحدقة مع ملك سيكًو والرجوع إلى مملكة كاسون المجاورة تحاشيًا للتعرض لمسار جيش مانسونكً الزاحف من الشرق في اتجاه أقاليم كارتا أو محاولة الطريق الشمالي "المحفوف بالمخاطر" في حالة الإصرار على مواصلة الرحلة.

 

وعاصرت ذلك التوتر أزمة أخري بين مماليك كاصون (الملك دمبا سيكًو الفلاني) وكاجاكًا (الملك باتشيري السوننكي).

 

يشير د. ولد بواعليبه، في مقدمة ترجمته، إلى أن منطقة الكينكًي كانت تابعة لسلالات جاورات Diawara عدة قرون قبل أن يبسط أولاد امبارك سيطرتهم عليها حوالي ثلاثينات القرن الثامن عشر ميلادي (1735 م) وعلى مصادر استخراج الذهب في إقليم بيرو (ولاته) عدة عقود بعد تأسيس إمارتهم المكونة من مجموعات أهل هنون لعبيدي (اشياخه العام) في الحوظ الشرقي، ومشيخات أهل بسيف ولد محمد ازناكًي (فونتي) في الحوظ الغربي، وأولاد لغويزي ولد الفحفاح (الكًاشوش) في العصابة، وشرقًا سلطنة أهل بهدل في منطقة كينكًي وباخونو داخل مالي حاليا إثر انتصارهم علي أولاد بوفايده وحلفائهم في وقعة مد الله المفصلية 1711 م كما يروي تفاصيله الأستاذ يوسف نجاح، رحمه الله، في "المتدارك من أعلام أولاد امبارك" استنادًا إلي الكتابات التاريخية (خاصةً الحسوة البيسانية للمؤرخ القاضي صالح بن عبد الوهاب الناصري الولاتي)، والشهادات الشفهية المتاحة عن تلك الفترة .

 

لم تحمل القصص المتداولة محليًا أو الأشوار الزمنية التي بلغتنا أصداءً لرحلة هذا الأوروبي رغم مكوثه شهورًا بين خيام أسكرة أهل بهدل في أوج إبداع المقامات الموسيقية ربما لاندثار الكثير من الروايات الشفهية وجسامة الأحداث التي شهدها القرن الموالي والذي تغيرت خلاله خرائط ومعطيات في المنطقة.

 

كما أنه لم يسهب في ذكر الجلسات الفنية في المخيم الأميري عدا إشارته إلى إحدى المناسبات الاجتماعية وتقاليد الأعراس البدوية وأشوارها الشعبية (ص: 124) رغم ملاحظاته عن مواكب الفنانين المرافقين للملوك الأفارقة الذين زارهم.

 

ونظرًا لندرة الاستطلاعات الخارجية المكتوبة عن تلك الحقبة، ارتأينا التوقف عند بعض التفاصيل المعبرة أو المثيرة لهذا الريبورتاج الفريد رغم التحفظ على مواقف الرحالة المتأثر بالعقلية المركزية المسيحية الأوروبية، وغياب رواية معاكسة (من جهة أولاد امبارك) للمقارنة والتدقيق وإجراء التقاطع الحدثي.

 

البداية :

عند وصوله لمدينة جارا (عاصمة إمارات جاوارات سابقًا والتابعة لسلطنة أهل بهدل آنذاك) أرسل الرحالة الاسكتلندي هدية للأمير اعل ولد أعمر ولد بهدل متمثلة في خمس قطع قماش ملابس قطنية زرقاء، اشتراها من عند وسيط وبائع رقيق أقام عنده (اسمه ديمن جوما)، مع طلب الإذن بالمرور بالأراضي التابعة للسلطنة في اتجاه سيكًو ومسيل نهر النيجر، هدف رحلته، كما هي العادة مع أغلب ملوك وأمراء المنطقة الذين كانوا يتقاضون ضرائب مرور على العابرين لأراضيهم.

 

بعد 14 يومًا جاء رد الأمير أعل إيجابيًا بإرسال دليل يقوده مع رفاقه (دمبا خادمه الوفي وجونسون الدليل الأول والتاجر كونتي مامادي ورفاقهم) من جارا إلى قرية ترونكًومبو ليواصل بعد ذلك مشواره شرقًا (ص: 104).

 

بعد قطع مسافة معتبرة في اتجاه سيكًو، مرورا بمدن كيرا وسامبكا ودنكًالي وسامامينكوس ودنكًالي ودالي (التي تعرض فيها لبعض النهب والشتائم من طرف السكان المحليين الكارهين للنصاري) ودينا (و كلها مدن تابعة للسلطنة) وسامي، تفاجأ بارك بمجيء عدد من فرسان أولاد امبارك لاقتياده إلى حلة الأمير في بانعوم في اتجاه معاكس بعدما رأى اقتراب حلمه برؤية خرير مياه النيجر وهو يستمتع ليلًا باحتفالات شعبية في سامي (ضواحي مدينة دينا  Deena) مسافة يومين من حدود بامبارا، مرتاحًا حينئذ لشعوره باجتياز منطقة "الخطر البظاني the moorish danger" يوم 6 مارس 1796 م (ص: 107).

 

ونظرًا للفزع البين والاحباط الشديد الذي أصاب المسافر الحالم، عكف هؤلاء الفرسان على اطمئنانه أن الأمر مجرد رغبة من زوجة الأمير، "الملكة فاطمة" كما سماها بارك في مؤلفه، في رؤية هذا الرجل "النصراني الأبيض" الذي لم تر قط نوعه رغم سماعها بحكايات غريبة عن هؤلاء القوم؛ وبعد ذلك سيخلون سبيله وربما يعطيه الأمير هدية معتبرة ليواصل طريقه بعد ذلك.

 

وزوجة الأمير اعل المعنية هي فاطمة بنت أحمد بن امحمد بن بكار بن هنون لعبيدي (كما بينه ذ. يوسف نجاح في الفصل السادس من كتابه عن "المتدارك من أسماء النساء لمباركيات"، ص: 141) التي طلب "الأسير الأوربي" وساطتها من أجل إخلاء سبيله واستنجد بها لما ضاقت به سبل الخروج من ورطته الجغرافية الاستخباراتية الجريئة وأشاد بعطفها عليه كمسكين غريب أوطان على حافة الضياع الجسمي والمعنوي.

 

من هنا بدأت في الواقع قصة م. بارك مع أولاد امبارك ولقاؤه مع مجتمع البظان الذي حمل خياله، على غرار أغلب المغامرين الأوروبيين آنذاك، الكثير من الصور المخيفة والأوصاف الشنيعة والقصص المرعبة والمآخذ الجاهزة عن ملثمي الصحراء رغم اطلاعه على كتاب حسن الوزان (ليون الإفريقي، وصف إفريقيا)؛ وذلك موضوع قد نتطرق له في تحليل آخر ان شاء الله.

كما أن كابوس وفات زميله (دانيال هيوكًتون 1791م مبعوث الرابطة الافريقية البريطانية الذي سبقه) في ظروف غامضة ، قرب بئر "تارا" (شمال جارا) صحبة مجهولين تعامل معهم ليوصلوه إلى تيشيت (ولم يكن لقادة أولاد امبارك علاقة بمصيره خلافًا لما كتبه يوسف نجاح في المتدارك…)، أملاً في سبيل يقود إلى تمبكتو، ظل يخيم على مراحل رحلته الخطيرة.

 

وإضافة للقيمة الرمزية لتلبية رغبة "أعين" الأميرة فاطمه يبقى سؤال محوري حول البعد الأمني والاستراتيجي لتحفظ أولاد امبارك وسلطانهم على مرور هذا الزائر الغريب، مواطن الملك جورج الثالث (ملك بريطانيا من 1760 حتى حوالي 1810) الذي تحوم فوق رأسه شبهات التجسس في غضون تصاعد التبادل عبر الأطلسي وتنامي الأطماع الأوربية في المنطقةً بحثًا عن العاج والذهب والرقيق والهيمنة الإستراتيجية.

 

الأمير أعل ولد اعمر ولد بهدل، الذي وصفه بارك بالرجل العربي المسن راكب الحصان الأبيض ذو الذنب الأحمر وبالديكتاتور الهمجي، هو ثالث أمراء سلطنة أهل بهدل (الملقب أعل العافية وكذلك أعلي بوسروال طويل) وامتد حكمه قرابة أربعين سنة من 1757 حتي 1798 م لم تشهد سوى معركتين (وقعة بانعوم ومعركة بير أرطان) رغم انتشار الحروب آنذاك وتوفره علي جيش يضم آلاف الفرسان المسلحين، وكان (حسب العالم و المؤرخ صالح بن عبد الوهاب الناصري الولاتي) "أرفع ملوكهم ذكرًا وأنفعهم للمسلمين طرًا وأطولهم في الملك مدةً، وأكثرهم عددًا وعدةً" (الحسوة البيسانية في علم الأنساب الحسانية، ص: 190، تحقيق د. حماه الله السالم).

 

وقد وصل إلى الحكم اثر وفاة والده أعمر ولد بهدل بعد خلاف مع عمه اعل الشيخ (أمنج اظح، الذي مدحه سدوم ولد انجرتو في روائعه) دام سبع سنوات، والذي هاجر (أو نفي) إلى أرض ماصه (بلاد البامبارا) حيث توفي هناك.

 

ومن بين إخوته بسيف الكبش وهنون أديكه وعثمان الكًصاص وابيبكر وأعمر الجد إضافة لأخ من أمه يسمي هنون (ترجمة د. بو اعليبه، ص: 30) وأبنائه أعمر (العيمار الذي خلفه) وامحيمد وأحمد وابيبكر.

 

وهو جد أمراء أهل بهدل (خطر، هنون، اعل ومحمد آماش) أبناء أعمر المشهورين بمقام الكرس وأشواره الشهيرة: ولد اعمر ولد اعل لا دور في دين، ولد اعمر ولد أعل ما ريت اللي كيفو، وولد اعمر ولد أعل دمولي يلخلاكً…

 

الطريق إلى بانعوم :

لم يكن أمام الرحالة الغريب إلا الرضوخ طوعًا ومصاحبة هؤلاء الفرسان رجوعًا إلى جارا مرورًا بقرى كان سكانها يتجمهرون حوله استغرابًا لبياض جلده وتصميم ملابسه وطبيعة شعره الأحمر ولون عينيه الزرقاوتين وشكل قبعته وحصانه.

 

الوصول إلى الحي الأميري:

وصول الزائر الغريب أحدث حالة استنفار شعبي في مخيم بانعوم (يوم 12 مارس 1796 م) المتمثل في "عدد كبير من الخيام السوداء الرثة المتناثرة فوق سهل شاسع تحوم حولها قطعان المواشي من إبل و بقر وأغنام" (حسب وصفه، ص: 111) : الجميع يتهافتون لرؤيته، البعض يتفحص سباكة جلده وطبيعة شعره المنساب وآخرون أزرار ثيابه ومنهم من رمي دلاءه قرب البئر ليواكب بداية المشهد، وآخرون ركبوا خيولهم لمتابعته والدوران حوله، ومنهم من انشغل في عد أصابع يديه وتفحص أزرار لباسه الغريب وقبعته الدائرية، والإلحاح عليه بالنطق بلا إله إلا الله وشهادة الإسلام في جو من التعجب وترديد عبارات الهيللة وسبحان الله …

 

مشهد عجيب لزائر غريب: ثلاثة قرون بعد فيالق البرتغاليين المسلحين على شواطئ بحيرة اركًين، قرنين من الزمن قبل تعود الناس على "السائح" الأوروبي المعاصر وقرن قبل مشروع كبولاني بإنشاء مستعمرة "موريتانيا الغربية".

 

اقتيد الرحالة البريطاني أمام خيمة الأمير اعل، "الرجل العربي المسن ذو اللحية البيضاء" (حسب وصفه)، الذي كان يجلس فوق سجادة جلدية سوداء (إلويش أكحل) يقص بعض الشعيرات من شنبه وبالقرب منه سيدة تحمل له مرآة صغيرة: نظر الأمير بهدوء إلى الرجل الأوربي، وسأل هل يتكلم العربية؟ وبعد استغرابه لجوابه والتعجب من هدف رحلته أمر بأخذه إلى مكان يبيت فيه حتى يرتب له أوضاع إقامته وأتوه بخنزير بري أشار إليه الأمير بذبحه للعشاء.

 

كان ذلك فحوي اللقاء الأول بين الأمير والرحالة، بين السلطان الهادئ القوي والضيف الغريب "المسكين".

 

ونظرًا لتحاشيه ذبح الخنزير البري، أرسل له بعض الذرة للعشاء في الليلة الأولي قبل ان يزوره في الصباح ليتفقد أحواله صحبة ستة فرسان، ويشير إليه بتحضير مكان لإيوائه عن حرارة الشمس وبرد الليل، وهو عبارة عن عريش مربع مغطي بأوراق الشجر.

 

هكذا كان البرتكول الاستقبالي للرحالة المغامر المقيم في مخيم بانعوم (من مارس حتي يونيو 1796)، وأحضر قربه الخنزير "الرمزي" الذي تحاشي ذبحه، رغم شغف الأوربيين بلحوم هذه الدواب، لكي لا ينفر ساكنة المخيم منه.

 

أتاح هذا المقام الإجباري للمبعوث البريطاني "السري" فرصة الاطلاع على حياة البادية بداية الصيف ومراقبة نوعية تسليح جيش السلطنة الذي يزيد فرسانه على الألفين، ودقة الاحتياطيات الأمنية للأمير الذي لا ينام في مكان معهود ولا يأكل إلا مما أعد أمامه بأيد يثق بأصحابها، وكذلك طبيعة علاقات أولاد امبارك مع جيرانهم (جاوارات وبمبارا والماندينغ والطوارق) وأنواع التبادل التجاري (الملح، الذهب، القطن، الحديد..)، كما وفر له لقاء تجار وافدين من المغرب (الشريف عبد الله مورا) ومن مدينة ولاته (الشريف عالي) والذي زودوه بمعلومات قيمة عن طريق القوافل والمسافات بين بانعوم – ولاته - تمبكتو-جينه - هاوسا من جهة وجارا – تيشيت – تاودني - أكًادير- صويره من ناحية أخرى.

 

لم يضع الأمير اعل بارك في الأغلال ولم يعذبه لانتزاع شهادات منه ولم يمنعه من الحديث لأهل الحي وزائريه ولم يسد عينيه بمنديل أسود مثل ما يعامل به الجواسيس في بعض البلدان، رغم الشبهات حول مهمته الاستخباراتية، ولم يترك رعيته تنهش جسم هذا الرجل الأبيض رغم عمق الأحقاد على النصارى آنذاك، كما أنه أحال قرار مجلس أولاد امبارك في موضوعه إلى حين في انتظار عرض "صيده الثمين" على نسائه، وربما التفكير في جدوى الاحتفاظ به أو مقايضته أو مقاضاته أو توفير فرصة لإخلاء سبيله كما طمأنه به الفرسان الذين جلبوه.

 

بعد التأكد من عدم خبرة بارك في إصلاح البندقيات وعدم استعداده لإبراز معرفته الطبية حاول أهل الحي توظيفه في مجال الحلاقة حيث كانت أول تجربة مع ابن الأمير اعل الصغير (ربما بيبكر) في خيمة الأمير، والتي تبين خلالها عدم صلاحيته لهذه المهمة بعدما جرح رأس الصبي أمام والده في حين أن مرافقه دمبا وظف في جمع العشب اليابس (لحشيش) لخيل الأمير (ص: 115).

 

فضل م. بارك إظهار عدم صلاحيته لأي عمل، كوسيلة لتعجيل إخلاء سبيله لقلة فائدته على المخيم الأميري.

 

الاستجواب الثاني:

بعد أربعة أيام من إقامته في بانعوم تفاجأ بارك بإحضار المترجم جونسون (الذي لم يكن على علم بتوقيفه) مع رفاقه وبقية أمتعته أمام الأمير، واستدعائه لشرح محتوياتها، وكذلك تفتيش بقية أغراضه في عريشه من طرف ثلاثة أعوان للأمير، والإتيان بها لجمعها في حقيبة جلدية مودعة في خيمة الأمير "خوفًا من الأيادي الطائشة، حتى يتبين أمر هذا الزائر الغريب" (ص: 116).

 

يعكس هذا الاستجواب المتعدد الأبعاد مدى شك قائد أولاد امبارك الشرقيين في أهداف هذا الأوروبي، وتحفظهم من نواياه المريبة.

 

ارتاح المغامر الأوربي لكون المترجم جونسون قد سلم أوراق رسائله إلى احدي زوجاته لترسلها مع إحدى القوافل لصديقه الوسيط التجاري د. ليدلي قبل اقتياده إلى بانعوم كي يوصل أخباره للجمعية الجغرافية وأهله في بريطانيا.

 

أثار جهاز البوصلة استغراب الأمير نظرًا لإشارته دائما لاتجاه الشرق مما جعله يقلبها كثيرا ويسأله عن أهميتها.

 

استدرك المستكشف المغامر حساسية الموضوع، وشرح للأمير أن البوصلة هدية من أمه تبين له مكان وجودها، وفي حالة وفاتها تبقي الإبرة في اتجاه قبرها لتدله عليه!

 

رد الأمير الجهاز الغريب إلى الرحالة وجمع أغراضه في حقيبة جلدية كبيرة (تاسوفره) ليضعها في ركن من خيمته مبينًا له وضعها في مكان آمن حتى يحين موعد رحيله، وخوفًا عليها من الأيادي والضياع.

 

يتبين جليًا تشابك الأبعاد الأمنية والإنسانية والجمالية في قصة "الجاسوس المسكين" و"الضيف الغريب" و"المغامر النصراني" و"التحفة البشرية" ذي الزي اللندني بين خيام الصحراء الذي خصص وجهاء السلطنة اجتماعًا لبحث موضوعه (ص: 117)، وظل سكان أسكره أهل بهدل يتناوبون للاطلاع عليه نهارًا وبعضهم يوقد حزمة حشيش ليراه ليلًا أو يدل آخرين على مظهره الغريب.

 

اعتبر بارك نفسه سجينًا (دون أغلال) وضحية لأشكال من التعذيب حين كان سكان الحي يتفحصون تصميم ملابسه ويعدون أصابع رجليه ويتعجبون من أزرار قميصه ولون بشرته وشعر لحيته، وحينما حاول الابتعاد إلى ظل شجرة مسافة من المخيم تبعه فرسان أمروه بالرجوع إلى مكان عريشه تحت التهديد واقتياده إلى خيمة الأمير، الذي كان يقلب بندقية ويتفحص مخزونها، وأمره، بعد إلقاء نظرات اشمئزاز عليه، بعدم التحرك خارج الحي وإلا اعتبر ذلك محاولة هروب وأعطي الإذن لأول من رآه برميه بالرصاص (ص: 119).

 

عكف "الأسير" على تعلم اللغة العربية، التي كان مصطحبًا في أمتعته كتابا حول قواعدها (Arabic Grammar) لريشاردسون، مما جعل ذلك منفذًا له من إهانات المتطفلين عليه بانشغالهم بجواب أسئلته عن حروفها وكتابتها على التراب ونطق رسومه على الرمل.

 

وتمضي أسابيع من شهر رمضان (مارس - إبريل 1796 م) على المغامر بارك متكيفا مع مناخ الصحراء الحار وحياة البدو التي كان ينتبه لكل تفاصيلها حين كتب، بعد ذلك، عن طبيعة الاعتماد على التنمية الحيوانية وأهمية الإبل وكثرة الأغنام وجمال الخيول التي يعتمد عليها فرسان أولاد امبارك في تحرك جيشهم…

 

اصطحب "السجين المدلل" الأمير اعل في رحلة للقاء أربع سيدات (وصفهن بارك بزوجاته) قدمن له أقداحًا من اللبن الممزوج بالماء (ازريكً) متعجبين من شكله ولون جلده الأبيض وطرحن عليه بعض الأسئلة عن بلاده وحياة قومه ملاحظًا حجمهن "الكبي" وحياء أعين لم تر قط مثل هؤلاء الغرباء من عوالم الصليب وكانت "ترمش" استغرابًا لقرب البعيد وفواصل الاختلاف (ص: 122).

 

كما رافقه في رحلة للقاء "الملكة فاطمة" العائدة من منتجعات الشمال (موضوع استدراجه الرسمي) والتي كان حب اطلاعها سببًا في الإتيان به من بعيد وانتظار لقائها منقذًا له من تطبيق بعض توصيات مجلس أعيان أولاد امبارك الذي اجتمع في خيمة الأمير (يوم 18 مارس 1796) لبحث موضوع مصيره (ص: 117).

 

وحسب "تسريبات" من سكان الحي وصلت مسامع الرحالة الموقوف فإن بعض الوجهاء طلبوا من الأمير قتله، وآخرين طالبوا بقطع يده اليمني، فيما أخبره ابن الأمير الصغير (الذي كان عمره حوالي تسع سنوات حسب تقديره) بمحاولة عمه إقناع والده بانتزاع "عينيه الزرقاوتين مثل أعين القط" ليرد الأمير بانتظار رؤية فاطمة له قبل تطبيق العقوبة المناسبة عليه.

 

ويدل هذا الاجتماع على أهمية الموضوع عند أعيان أولاد امبارك وطريقة مشاوراتهم السياسية مع استحضار البعد الأمني لخطورة مثل هؤلاء الزائرين من عوالم ما وراء البحار.

 

كما أن البعد الرمزي لتلبية رغبة الأميرة الأمباركية من طرف فرسان أولاد امبارك وسلطانهم في استدراج هذا الأوروبي، مهما كان ذلك نظريًا، ودورها بعد ذلك في إيجاد مخرج إنساني للرحالة المغامر (بإرجاع فرسه وبقية متاعه) والذي استعطف خواطرها بعدما ضاقت عليه السبل وتجرع ألوان المعاناة، وقد احتفظ ببعض كوابيسها بعد رجوعه إلى شواطئ نهر التاميز بلندن وحقول فولشلدس بقرية ذويه؛ مما جعل بعض المحللين البريطانيين يشيرون إلى وجود "مسكوت عنه" أو "ما لا يمكن أن يقال" في هذه الرحلة الاختراقية لتخوم صحراء الملثمين.

 

شاهد علي العصر

كان م. بارك، أيام مروره بسلطنة أهل بهدل، شاهدًا على أحداث تبين بعض جوانب العلاقات السياسية والعسكرية في تلك المنطقة: الملك البمباري مانسونكً يطلب من الأمير الامباركي مائتي فارس لإعانته على الهجوم على ملك كارتا المتحصن في مدينة كًدينكًوما، وثوار كارتا يطلبون المساعدة العسكرية لرد هجوم مرتقب من طرف ملكهم ديزي مقابل مبلغ من الذهب، مخيم بانعوم يرحل بسرعة بأوامر أحد أبناء الأمير نظرًا لاقتراب جيش البامبارا من المنطقة وأغلب سكان جارا يحملون أمتعتهم ويقودون مواشيهم خوفًا من هجوم الملك ديزي عليهم عقابًا لهم على إيوائهم لثوار كارتا .

 

وكذلك أزمة صراع نفوذ بين ممالك كاصون وكاجاكًا، وزيارة عشرة فرسان من فوتاتورو لكاصون مطالبين الملك دمبا سكًو جالا والسكان بامتثال تعاليم الإسلام ونطق "إحدى عشر صلاةً على النبي" صلى الله عليه وسلم كبرهان على ذلك بتوجيه من ملك فوته الألمامي عبد القادر كان، ضمانًا للتضامن معهم في الحرب المحدقة.

 

كما تحدث الرحالة الأوربي عن مناطق تحكمها قبائل "كًدموله " Ghedemula و"جافونو " Jafunu  في أرض البيظان وأشار إلى البراكنة والترارزة كأقوي ( formidable) سكان المناطق الغربية آنذاك.

 

عاصرت سنة مرور بارك من الأمراء في الفضاء الحساني تقريباً، حكم سيد أحمد ولد عثمان ولد لفظيل في آدرار، وأعمر ولد المختار ولد آقريشي في البراكنة، ومحمد ولد امحمد شين ولد بكار ولد اعمر في تكًانت، وأعمر ولد المختار و لد اعمر ولد اعل شنظوره (أعمر كمبه) في الترارزة.

 

الهروب المسهل وفرصة الانطلاق:

مع أخبار اقتراب جيش ملك كارتا ديزي من ضواحي جارا لمعاقبة سكانها على احتضانهم للثائرين "الكرتين" انسحب بهدوء الرحالة التحفة حاملًا خنشة من الشعير ولجام فرسه متسللًا بين السكان المغادرين للمدينة خوفًا من فتك الجنود وسلب الحريات.

 

ليجد نفسه، بعد أيام، "متابعًا" في مدينة كيرا Quira ببعض فرسان أولاد امبارك صحبة أحد الرعية المقرب من الأمير، تحدثا عن إرجاعه إلى بانعوم وهم أحدهما بإبعاد فرسه قبل أن يقنعه الآخر بعدم قدرته على الهروب على مثل هذا الحصان الهزيل.

 

هل كانت محاولةً أخرى لسد الطريق أمام مشروعه ضبابي الأبعاد؟

 

لاذ المغامر بالفرار آخر الليل عندما أكد له المترجم جونسون نوم الجميع، سالكًا طريقه عبر الغابات والقرى إلى سيكًو وضفاف نهر النيجر حيث لقي تحفظًا آخر من ملك البامبارا الشرقيين مانسونكً (الذي أهداه خمسة آلاف من عملة الكوري، واعتذر عن لقائه لعدم تبين هدف زيارته)، كما أوصاه السكان بالسعي بعيدًا عن جوار سيكًو والمدن القريبة لوجود أوامر "عليا" بإيقافه ليعود من مدينة سيلا ( شرق سيكًو)، عبر مهامه الغابات المبللة وضفاف الأنهار، إلى بيزانيا على نهر غامبيا قبل رجوعه إلي بريطانيا (نهاية دجمبر 1797)، سنتين ونيف بعد مغادرته ميناء بورتسموث Portsmouth إلى شواطئ إفريقيا الغربية: رحلة تشابكت في طياتها أبعاد الاختراق الاستراتيجي مع إكراهات الخرائط القديمة والاعتبارات الأمنية، إضافةً إلى فواصل الاختلاف بين عالمين على أديم تجاذبات مشاعر الانبهار والشفقة والكراهية وحب الاطلاع والتردد وإرادة الحياة.