إعلان

رحلة مع شيخي في رحاب الطرب / الشاعر د. عبد الله امون

سبت, 02/17/2024 - 16:19

 

قلت لشيخي: اليوم ستستمع معي إلى شريط من (أزوان) الحقيقي، فقال مستغربا ومستنكرا: أعوذ بالله، فقلت ضاحكا: إنه غير مصحوب بعزف، ولا تدعو كلماته إلى فُحش، وليس في مجلس شبهة، ولا بشاغل عن فرض، فهو مستوفٍ لشروط ما نقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين على حليته، فأخذت من انشراح أسارير وجهه موافقة ضمنية وضغطت على الملف الصوتي من هاتفي لأنطلق مع شيخي في رحلة طربية ما لا أعتقد أن لها سابقة فيما مضى من عمره الذي سخره لخدمة كتاب الله والانشغال به تعلماً وتعليماً. 
كان المغني يقلد (العملاق الداه ولد انگذي) ويتبعه حذو القذة بالقذة كما يتبع الفصيل أثر أمه، فيأتي (بالرَّدَّاتْ) مستنسخة حد التطابق، لا يحيد عن نمطه في (الشَّبْحْ) حال الصعود بالنغمة نحو "الجواب" ولا في (لمكظْ) عند الهبوط بها نحو "القرار"، ولولا معرفتي الدقيقة بصوت الداه لقلت إنه هو.
وكما العادة استفتح الشادي تطريبه في (الجّاَنْبة الكحلة)  من ظهر"اكحال كرْ" (انْتماسْ) بلغة أهل التِّيدِنِيتْ، منشدا الأبيات الشهيرة  
(مديحُ رسول الله جلَّ عن الحصر*** سوى الله لم أبلغ مداه مدى الدهر) 
متبعا إياها بالبيت الثاني من قصيدة "المربي" للعلامة محمد اليدالي
بادي الشفوف داني القطـوف *** بـرِّ عطـوف ليـث همــام
لتكتمل -على الوجه الأتم - الوصلة الأولى التي كانت بمثابة مقدمة لاستعراض قدرات صاحبنا الفذة في اشباع المدود وتغيير طبائعها واللعب بأحكامها بما يتناسب مع مقام "اكحال كر" إنشادً وإنشاءً، مع الحرص على إتباع الوصلة باللازمة الشهيرة (يلااااااااااااالَ يللَّ) متفننا في ترتيلها وهو الطريق الذي توارثه إياگون الگبلة عموما، وأهل انگذي بصفة أخصْ.
ولم تخرج تلك البداية عن المعهود في مقام "كرْ" المعروف بأنه مقام مديح وابتهال وعشق نقي، لذلك واصل المطرب محلقا على نفس النسق مع أبيات مديحية من بحر الوافر للعالم الشاعر عبد الله ولد بليلي مطلعها 
(أبعد ثناء خالقنا تعالى *** على طه ثناء للورى لا
فما أبقت على خلق عظيم *** مؤكدة لمخلوق مقالا)
وأتبعها باللازمة الثانية ( نبي الله صلى الله على ذلك الوجه المنير يا لعْل) التي تشكل فرصة للمنشد يلتقط من خلالها أنفاسه بين الوصلتين.
وفي نفس البحر والمقام لكن بانتقالة تشبه التغير في صوت المحرك حال تحول ناقل الحركة من الرابع إلى الخامس دون تمهيد، دوَّى صوت الرجل منشدا أبيات ابن الملوح المفعمة بالعشق، الطافحة بمشاعر الرغبة والشوق
(بِرَبِّكَ هَل ضَمَمتَ إِلَيكَ لَيلى *** قُبَيلَ الصُبحِ أَو قَبَّلتَ فاها
وَهَل رَفَّت عَلَيكَ قُرونُ لَيلى ***  رَفيفَ الأقحُوانَةِ في نَداها)
قلت لشيخي، لو كانت (التيدنيت) حاضرة في مجلس الرجل لكانت أنامل صاحبها الآن تداعب الأمهار والتشبطن متنقلة في مقام "انتماس" بين  (آگويدير، گدم العوام، اجراد، و موسَ ناجم...) ولكان عليك أن تدلي  بكاف للمشاركة في إثراء أحد الأشوار، فابتسم شيخي وهو يشيح بوجهه قائلا: أعوذ بالله
وانسلخ العملاق العتي من " كر" الأكحل ليدخل بسلاسة واقتدار إلى" بياظ كرْ، (ارديف انتماس) المعروف عندنا في الكبلة "بسيني كرْ" ، وهنا كان الرجل أكثر راحة واسترخاءً، وكانت الردَّات أطول مدودا، وأهدأ وقعا، كما تقتضي طبيعة "رخُو انتماس" (ما يخرَّصْ) في أدبيات "آمنگري لبيظْ"
كانت البداية بأبيات الأعرابي ذائعة الصيت، الوارد خبرها عن الشيخ "نصر ابن الصباغ" في كتابه (الشامل) والتي تقول: 
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ***  فطاب من طيبهن القاع والأكم 
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه   ***  فيه العفاف وفيه الجود والكرم 
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته *** على الصراط اذا ما زلت القدم
شعرت بانسجام شيخي مع شدو الرجل للأبيات المحملة بشحنة عاطفية تحرك الصخر الأصم.
وثنى على نفس الشاكلة ببيتي الولي الشيخ سعد أبيه
اطوف بيت الله والناس نوم *** كما طاف بعض القوم فى السر والجهر
وذلك قبل اليوم , واليومَ ربما *** أتاني بيتُ الله فى موضعى يجري.
وبلغ المراد من سيني كر جين أنشد طلعة "بوعمران" المشهورة إنشادً في المقام والمنسوبة إلى الأديب (عبد الله العتيق ولد أعمر ولد بده الأبييري)
دون مريم منت اعثيمين ##
بوگريبة والغرد الزين ##
وءاوليِّگ لحمرْ لمتين ##
ؤدونها بالظربان اتبان ## 
ذاك معناها عنها بين ##
تامرزگيت ؤبالظربان.
وكما كان متوقعا، لم يبخل الشادي على الطلعة بما يتطلب التطريب من ترديد وترجيع وتكرير، فقلت لشيخي مخاطبا إياه بلغته التي يتقن، أرأيت قدرة الرجل على التحكم في مخارج الحروف وإعطاء كل منها حقه؟، أسمعت كيف يتلاعب بالميم والنون الساكنتين وبالتنوين، فينتقل بين الإظهار والإدغام والإقلاب والإخفاء، ثم تأمل كيف يخالف بين المدود أصليها وفرعيها، فقال شيخي ضاحكا: الحمد لله انه لا يقرء القرآن بنفس الأحكام، فللرجل مدود غريبة لا تستقيم على أي وجه
قلت لشيخي، أعتقد أنك أخذت عليهْ إشباع المد الطبيعي في قوله "دووووون" مريم، أو مدَّ البدلِ في قوله "وءآآآآآآوليِّگْ"  لحمر، وهو ما يخالف صراحة مقتضى قول ابن بري  
وصيغة الجميع للجميع *** تمد قدر مدها الطبيعي
لكنه يا شيخي إن يكن خالف الحكم في مقام التجويد، فقد أصابه في مقام "آزَّاي" ولكل من المقامين أداؤه الخاص، تبسم شيخي المتبحر في أحكام التجويد قائلا: إن قبلنا منه ذلك في الكلام العادي فلا نقبله في لفظ الجلالة، وتحديدا حالة الوصل، فلم يقل مطلقا بمده أكثر من حركتين غير صاحبك، قلت : أعذره يا شيخي فربما قاسه خطأ على حالة الوقف التي جوز بعضهم فيها المد على الثلاثة أوجه باعتبار المد جينها في حرف الألف صار عارضا للسكون في حرف الهاء
تذكرت حينها شاهد "كتمار" وهو من الأشوار (الزمنية) ب "اكحال كرْ" (مكَّ موسَ ) من الجَّانْبة البيظة
يالْسايلني عن ميمونة *** راهِ تكْرَ ساحل كيمِ
عَمَّ  يَتَسَاءَلُونَ ۝ عَنِ  النَّبَإِ  الْعَظِيمِ 
فقلت في نفسي، لو اختلف المقام، وتطلب الإتقان إنشاد "الشاهد" مع ما يتضمن أداؤه في المقام من تطريب بآيتي سورة النبأ المدرجتين في الشاهد، بما في ذالك مدَّ حرف العين من اسم الجلالة (العظيم) لكان شيخي حينها سيقول غاضبا، إن الأمر يدخل ضمن نطاق اتخاذ آيات الله هزوا، سيكون حينها معذورا، ذلك أن رواية "كتمار" عن (مكَّ موسَ) عن (كرْ) من طريق (الجَّانْبة البيظة) لم يرد لها قطعا ذكر في زهاء الألف طريق التي نقلت إلينا بها القراءات العشر الصغرى والكبرى
وفي نفس المقام، عاد إلى الفصيح فغنى بصوت مريح بأبيات مشهورة للعلامة  محمد فال الملقب ببها بن محمذن بن أحمد بن العاقل يمدح فيها العارف بالله الشيخ سعد أبيه
مطلع الغرب لاح ويحك فيه *** سعد خير مذلاح سعد ابيه
سعد خير ينمى الى كل سعد *** زاخر اليم اريحي نبيه
نال ما نال في صباه و لما *** يعد عشرا مضت له من سنيه
قل لمن قال ان للغوث ندا *** او شبيها في قطرنا ارنيه

وعلى نفس النسق و جريا على عادة رواد مدرسة أهل انگذي، مر على أبيات أبي مدين:
ألا ليت شعري هل أرى أم جعفر *** بحيث عيون الحادثات هجوع
وهل لي إلى أحياء ديمان  عودة  *** وهل لي إلى حي الأمير رجوع
لم يكن الهدوء النسبي الذي اعترى الأداء بحكم مقام "سيني كر" إلا نوعا من الهدوء الذي يسبق العاصفة، إذ كان الرجل يستجمع قوته، ويشد حباله الصوتية استعدادا لأداء يناسب اكحال فاقو "تنجوگة" وهو مقام الحرب والحماس مع ما يتطلبه ذلك من نبرة عالية وصوت هادر 
انفجر الرجل فجأة، رافعا عقيرته بأبيات الشاعر المتصوف (عمر تقي الدين بن عبد المغني الرافعي)، متَّبعاً الصيغة المعهودة عند إيگاون، التي تلحق عجز البيت الثاني بصدر البيت الأول، وتضيف عجز البيت الرابع إلى صدر البت الثالث فتُختصرُ الأبيات من أربعة إلى اثنين فقط
أَرى كلَّ مَدحٍ في النَبِيِّ مُقَصّراً *** وإن بالَغ المثني عَلَيهِ وَأَكثَرا
إِذا اللَهُ أَثنى بِالَّذي هو أَهلُهُ ***عليه فَما مِقدار ما تمدح الوَرى
ولأن اكحال التطريب في كحال فاقو يتطلب جهدا ومشقة فإن الرجل لم يطل فيه جريا على عادة غيره، إذ من النادر أن يتجاوز الأداء فيه ما يعرف (ببيت حرب) لينتقل المطرب ىإلى طبقة صوتية أدني تمثل منزلة بين المنزلتين من مقام "فاقو" متوسطة بين سواده الهادر وبياضه الهادئ، وتسمى تلك الطبقة لدى أهل الكبلة ب (التجانيف)وهنا شدى الرجل بالأبيات الأُوَّلِ من قصيدة الفقيه (محمد بن العباس التيفاشي) التي مدح بها الخليفة الموحدي، عبد المؤمن ابن علي، وهي أبيات لا يكتمل المراد من "فاقو" قبل الغناء بها
 ما هز عطفيه بين البيض والأسل *** مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي
الواهب الإبل ابن الواهب الإبل  *** الفارس البطل ابن الفارس البطل
وأخذ الرجل استراحة محارب لم تستغرق أكثر من نصف دقيقة فقال شيخي مشفقا عليه، لابد أن الرجل اغمى عليه بعد هذا الصراخ الشديد، فقلت كان مجبرا، إذ عليه في مقام "كحال فاقو"، أن يتخيل نفسه عند ظهر الأمير الممتطي فرسه مخترقا صفوف العدو مقبلا على الموت غير هياب ولا متردد، هذا المقام يا شيخي إنما استحدث لينشد بين يدي قوم يعتبرون الموت الطبيعي عارا وشنارا، ألم تسمع المقولة المنسوبة للأمير (محمد الزناكي) شيخ أولاد امبارك وهو يوصي أولاده قائلا: (إعلموا أن من مات منكم مريضا لم تصبه رصاصة فقد مات ميتة حمار) إنه مقام الحرب والصخب، لذلك كان الراحل المختار ولد الميداح ينشد فيه قصيدة طرفة ابن العبد التي يقول فيها
سائلوا عنا الذي يعرفنا*** بقُوانا يوم تَحْلاقِ اللِّممْ
يوم تبدي البيض عن أسْوُقِها *** وتلفُّ الخيل أعراج النَّعمْ
كما كان الراحل سيمالِ ولد همد فال يغني في نفس المقام أبيات عنترة ابن شداد التي يقول فيها
أنا في الحربِ العوانِ  *** غير مجهول المكانِ
أينما نادا المنادي  *** في دجى النقع يراني
واستمر الرجل مخففا من حدة الهدير ومغيرا في لغة الغناء من تلك التي تحرض على الإقدام في الحرب وتمجد الضرب والطعان، إلى لغة وسط تمدح الشجاعة لكنها بالمقابل تثني على الممدوح بالخوف من ربه، قلت لشيخي إن الرجل يستعد لمغادرة أرض المعركة وإن لم ينسحب كليا، فابتسم وهو ينصت إلى الرجل منشدا أبياتا من قصيدة (الخطيب الخوارزمي) في الإمام علي بن أبي طالب 
إذا ما مقلتي رمدت فكحلي *** تراب مس نعل أبي تراب
هو البكاء في المحراب ليلا *** وهو الضحاك أيام الضراب
وعلى نفس النسق، أنشد الرجل أبيات الولي الصالح (عبد الله بن سيد محمود "النهاه") التي يمدح بها القطب الولي لمرابط محمذن فال بن متالي
الشوق منذ زمان زاد بالبال *** شوقا لأستاذنا محمذن فالِ
إن العليل إذا ما حام حومتكم*** يشفى سريعا بإذن الخالق العالِ
وتأكيدا لانسحاب الرجل من ميدان المعركة الافتراضية، التي أملتها طبيعة الشدوِ في "اكحال فاقو"، وبدأ غبارها ينقشع مع دخول آمنگري حيز (التجانيف)، وتتويجا لوصول المحاربين إلى مضارب آمنة لا تُسمع فيها لعلعة الرصاص، أكمل الرجل عملية الهبوط التدريجي إلى مدرج (سيني فاقو) ودوت الخروج عن مألوف مدرسة أهل انگذي في ذلك المقام ، أنشد بصوت يقطر عذوبة، أبيات الشاعر "البيضاوي الجكني" التي يشيد فيها بصوت أحد أشهر أساطين الغناء في الگبلة ومؤسس مدرسة أهل انگذي في الغناء (محمد ولد انگذي) (لَعْوَرْ عَلَمًا) 
لَعَمرِي لقد خُضتُ القُرَى مِن كُناكِر*** وجوزت أرضَ الصَّينِ بعد الجزائِرِ
وبالمغرِبِ الأقصَى دِيارِى ومنشئِي *** وسامرتُ أربَابَ الغِنَى والمزامِرِ
فما سمِعَت أذنِي ولم يَرَ ناظِرِي *** كذَا الاعوَرِ المشعُورِ عن كلُّ شاعِرِ
كان الرجل بإنشاد أبيات الطويل تلك،  قد دخل رسميا إلى (سين فاقو) "ارديف تنجوگة " في التيدنيت، وهو (التّحْرارْ) كما يحلو لأهل الگبلة وتكانت أن يسموه.
وثنَّى بوصلة تضمنت بيتين قالهما للأعور أيضا العلامة أبومدين بن الشيخ أحمد بن اسليمان
من كان أصلعَ فليضرب ليطربنا *** أو كان أعور فليشدو بما شاءا
ياليت كلَّ مغنٍ كان ذا صلع *** أوكانت العينُ عينا منه عوراءا
وكان الأمر جد مستساغِ، إذ بعد أن قام المغني بتمجيد أمراء الحرب وأنشد تشوقا إلى لقاء زعماء السلطة الروحية، فمن العدل أن يشدو مفتخرا بصوته ومشيدا بقدراته التي تعجز زملاء المهنة كنوع من المكافأة على ما بذل أثناء وبعد المعركة من مجهودات تستحق التقدير
وهنا استمرت إسكاتة الرجل دقيقة كاملة وهو يستعد لتعديل حباله الصوتية بما يتناسب مع الانتقال إلى التطريب في مقام "لكحال" (هيبة) في التيدنيت، المنفرد بنغماته السباعية، عن بقية مقامات الطرب الحساني، ذات النغمات الخماسية، هذا المقام الذي يمثل الطيف الأكحل و العمود الأول من أعمدة "سنِّيمة"، هناك، حيث يأخذ بتْ (السغيَّر) العادي وشقيقه (تكادرين) منفردين مكانتهما اللائقة على خارطة الطرب (البظاني)، وحيث تنسحب معظم بحور الشعر الفصيح تاركة مكانها لبحر الخفيف ليمد رجله كما يحلو له.
شكلت همزية البوصيري، بكل ما تحمل من معاني الشوق السامي إلى الحضرة النبوية ومقامات الأنوار المحمدية، المدخل الذي اخترق منه الرجل الجانب الأكحل من مقام  "سنِّيمة" فتكفأ معه مسترسلا كأنما ينحدر من صبب  
كيف ترقَى رُقِيَّك الأَنبياءُ *** يا سماءً ما طاوَلَتْها سماءُ 
لَمْ يُساوُوك في عُلاكَ وَقَدْ حا___لَ سناً مِنك دونَهم وسَناء
إنّما مَثَّلُوا صِفاتِك للنا ___س كما مثَّلَ النجومَ الماءُ
أنتَ مِصباحُ كلِّ فضلٍ فما تَص___ دُرُ إلا عن ضوئِكَ الأَضواءُ
لكَ ذاتُ العلومِ من عالِمِ الغَي ___ بِ ومنها لآدمَ الأَسماءُ
لم تَزَلْ في ضمائرِ الكونِ تُختَا ___ رُ لك الأُمهاتُ الأَباءُ
ما مضتْ فَترةٌ من الرُّسْلِ إِلّا *** بَشَّرَتْ قومَها بِكَ الأَنبياءُ
ولولا حرصه على إكمال "اجَّانبة الكحلة" بركائزها الخمس، لأطال في المقام، لكنه توخى نوعا من العدالة في توزيع الوقت، فشرع ينسلخ من خاصرة "سنَّيمة"(هيبة) حالكة السواد، باتجاه خاصرة "مقجوكة" ناصعة البياض، متخذا من أبيات العلامة (ببَّها ولد محمذن ولد أحمد العاقل) سالفة الذكر، بداية جسر للعبور بين الخاصرتين، مما شكل ميدانا غلسيَّ اللون، تتشابك على متنه "الرَّدَّات"  فتمتزج كحلاؤها ببيضائها ليولد من ذلك التزاوج نتاجٌ هجينٌ يعرف بمقام "ازراك البلاوي" أو "الراشكة" كما يحلو للبعض أن يسميه، ثم ذيَّل الأبيات الأربعة بخامس هورابع رباعية قالها في نفس الممدوح وفي نفس البحر وعلى نفس الروي، العلامة المجدد باب بن الشيخ سيديا
مطلع الغرب لاح ويحك فيه *** ســعد خير مذ لاح سـعد أبيه
سعد خير ينمى إلى كل سعد *** زاخر اليم أريحي نبيه
نال ما نال في صباه ولما ***  يَعْـدُ عشرا مضت له من سنيه
قل لمن قال إن للغوث شبها *** أوشبيها في قطرنا أرنيه
ينتهي القول دون مبلغ حبر *** كامل الفخر في الورى منتهيهِ
وبعد أن أبدع في الأداء فأتى بكل ما لخص صاحب الكفاف (آدًّ) مما يكره في الأذان من تطريب وتمديد وتمطيط وبطْح حروفٍ في كل كلمة من الأبيات كما يتطلب "الزراك"، أردف شاديا على نفس النهج لبيتين تعود الشدوَ بهما المنتمون إلى مدرسة أهل انكذي مجتزئين لهما من أصل ثمانية أبيات أوردها صاحب الوسيط ضمن نماذج من رائق شعر ابن التلاميد التركزي.
مالي أرانيَ مذْ يوْمي وليْلاتي *** سبتْ فؤاديَ إحدى اللادِميَّاتِ
أدْمانةٌ من بني المبروك حُمَّ لنا *** منها لَعَمْرِي إدْمان الصَّباباتِ
ولأن مقام الزراك يمنح الشادي مساحة أكبر لالتقاط الأنفاس فقد أخذ نصيب الأسد من عدد الوصلات الغنائية، فما إن أكتملت وصلة ابيات التركزي حتى أتبعها بأخرى تضمنت ببيتين لعلي ابن أبي طالب من أصل سباعية مشهورة
لا تَخضَعَنَّ لِمَخلوقٍ عَلى طَمَعٍ *** فَإِنَّ ذَلِكَ وَهنٌ مِنكَ في الدينِ
وَاَستَرزِقِ اللَهَ مِمّا في خَزائِنِهِ *** فَإِنَّما الأَمرُ بَينَ الكافِ وَالنونِ
ثم بأخرى تضمنت أبياتا محتمة الإنشاد في مقام الزراك، وهي من قصيدة للعلامة الأديب محمذن ابن أحمد العاقل في مدح آل محم سعيد اليداليين
أودي اصطباري محض الجهل والمين *** لما نظرت إلي أم الرويصين
فتلك تنيلف لا تمرر بها أسفا *** وابك المعاهد من اتويد املين 
ذاك المنار وقد لاحت به دمن *** مثل اليواقيت من آل السعيدين 
قوم سعيدون لا يشقي جليسهم *** مقالة رويت عن ناصر الدين 
ثم ببيتين يعدان ماركة مسجلة لأهل انكذي تطريبا في مقام الزراك وينسبان للعارف بالله أحمد الرفاعي
في حالة البعد روحي كنت ارسلها *** تقبل الارض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الاشباح قد حضرت *** فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
وكانت آخر وصلة له في المقام مع أبيات للشاعر التندغي، معاوية بن إشدّ، اشتهرت بأداء الفنان القاضي ولد انكذي لها في شريطه الأقدم والأشهر المسجل نهاية السبعينات صحبة عقيلته الفنانة جلَّيت منت انكذي التي كانت تضع حينها قدميها الصغيرتين على أولى سلالم الغناء بصوت يحمل مسحة طفولية، لكن القاضي حينها غنى الأبيات في لبياظ وبأداء متفوق مقلدا محمد عبد الرحمن ولد انكذي (حمًّ) في حكايته الشهيرة التي تصف بشكل ملحمي وصلة "لكباح" الذي جمع بينه وأباه (الأعور) من جهة وبين "فتى" قومه (محمد محمود ولد عبد الرحمن) شيخ أهل مولود من أهل باركللًّ، غداة لقاء قمة بين إكاون و "الزواية" في خرق مقصود لقاعدة (لمرابط ماهو صاحب إيكيو) 
صاحَ الغراب لنا بالبين من سَلَمَهْ ***ما للغراب ولي دقَّ الإله فمَهْ 
لو تعلمون الهوى أو ذقتمُ ألمه  ***ما لمتمُ في البكا أو قلتمُ كلمه 
وهنا، ودون تمهيد انتقل الرجل إلى مقام الوجد والشوق والعشق والحنين، مقام "لبياظ" (مقجوكة) من الجًّانبة الكحلة، المقام الأكثر سماعا والأوسع رواجا لدى المستهلك العادي للطرب الحساني، المقام الذي أخذ مساحة واسعة من غناء الثنائي الأشهر في تاريخ الطرب الموريتاني (سدوم وديمي)، المقام الذي لا يعلو فيه صوت"بَتٍ" على صوت (لبَّيرْ) وحيث تمثل (آكواليل) أفضل خيار للوصلات الغنائية القصيرة.
وكانت البداية قوية شَبَحَ فيها الرجل صوته منشدا الأبيات الأخيرة من رائعة الشاعر محمذن ولد السالم الحسني في مدح الشيخ سيدي الكبير
يداك غمامتانِ على البرايا *** على التدءاب دائمة انهِمَال
فذي عمَّتْ بصَيّبِهَا وهَذي *** تخصُّ به ذوي الهمم العوالي 
حوتْ ما دون مرتبة التنبّي *** يداكَ من المكارمِ والمعالي
فأنت اذاً من الثقلين طرا *** بمنزلة اليمين من الشمال
أتبع الرجل الأبيات بطلعة من (لبَّيرْ) ثم بالأبيات الشهيرة التي قالها العلامة البشير ولد امباريكي واصفا فيها نصر (الأعور) المؤزر على غريمه في الغناء ذات (اكباح) جرى بين الإثنين في النمجاط حاضرة أهل الشيخ سعد بوه
إن للشاعر الشهير لصوتا *** جمع الحسن واللذاذة فيه
ناقص العقل من يعاند شخصا *** نصر الله ما يقول بفيه
قوةُ الفمِ من يعاند ثغرا *** تفل الشيخ فيه سعد أبيه
وبعد أن أوفى الكيل وزاد في إعطاء الأبيات ما تستحق، انتقل كما العادة إلى إنشاد (آكواليل) منتقاة من عيون (لبَّيرْ) 
هناك، التقطت آلة التسجيل كلمات عفوية بين الشادي وإحداهن، ربما صاحبة الدعوة، أو المشرفة الفنية على إخراج الشريط، حول ما انقضى من زمن التسجيل وما بقي، ليُتَّفَقَ بعدها على أن المساحة لم تعد تسمح بإعطاء (ارْديفْ لبْياظْ) أو مُتداركِ أهلْ تكانت الذي أسموه (اللِّيِّنْ) حقه من التطريب، فينتقل الرجل إلى مقام (لبتيت) بالجانبة الكحلة المعروف ب (بيكي أعظَّالْ) مقام "الحزن" كما يسميه المختار ولد حامدٌ، وهو خامس وآخر مقامات أزوان، حيث مغرب شمس الطرب، وحيث تذرف الدموع سخينة على أطلال المكان والزمان، فيبكي المحب ذكرى دارس المضارب، ويندب الشيخ عهد الصبى الغارب، وحيث لا يبقى على لسان المطرب من منظوم الكلام غير "لبتيت" تاما أو ناقصا، هناك، أخذ الرجل راحته ومد رجله لينشد مختارات من (لبتيت)، لكن صوت المؤذن الجهوري، اخترق الجدران معلنا دخول وقت صلاة العصر ليتخذها شيخي - وهو إمام المسجد - ذريعة للانسحاب من مجلس الطرب الذي كان قد شارف على الانتهاء.
عدنا إلى البيت بعد الصلاة فقال شيخي، هداك الله يا أخي، إن صوت صاحبك مازال يتردد في أذني ولا أستطيع له صرفا، فقلت ضاحكا (ذاكُ انْتَ لاهِ تبْياظْ وذْنَكْ يَشيْخِي).