من أيام القرية

أربعاء, 04/11/2018 - 04:22

 مباركة بنت البراء

 

زرته ذات صباح من شهر آب في الصيف قبل الماضي، ومعي صديقتي مريم ، فامتلأت أساريره الوضيئة رضى وانشراحا. كان متكئا على سجادته والسبحة بيده، وقد رصت مجموعة من الكتب الفقهية واللغوية حواليه، وإلى جانبه أخته الفاضلة التي عرفته بنا فجلس بدماثته المعهودة يُوسِـعُـنَا سلاما وترحيبا.
صديقتي كانت أسرع مني بديهة، وأذكى تصرفا، فقد بادرته معرفة بنفسها قائلة: "لقد جئتك اليوم زائرة بهذه الطلعه التي قلتَ أنتَ ذات مرة لأهل تنبيعلي:

هِلْ تِـنْـبَـيَـعْـلِي جَيْتْ هُـونْ ++ مِنْ هَـكْ امْغَافِـسْ هُـونْ هُـونْ+
وَافِي صَبْري مَا تَيْتْ كُـونْ ++ كِـلْــتْ الْـكُـــمْ عَـنِّي رَايِــــحْ +
خَالِكْ لِي شِي كِيفْ اجْنُـونْ ++ تَـوْصِيـفُـــو مَـاهُـو بَـــايِــــحْ +
يَـلْ مِمْلِي مِنْكُـمْ كِــلْ كَـوْنْ ++ وِادْمُــــوعْ الْكَــوْنْ اسْــرَايِـحْ +
اعْلِيكُـمْ لَايِـحْ مِـيـتْ طُـونْ ++ مِـنْ مُـــــرَادِي مِـطَّـــايِـــــحْ +
فَيْـدِيـكُـمْ مَـانِي جَــايْ دُونْ ++ نَـجْـبَـــرْ مُـــرَادِي طَـايِــــحْ +
يَـابَّــاهْ أَرَانِـي زِدْتْ زِيــــدْ ++ نَـبَّـهْــتَـــكْ عَــنِّـي لَايِــــــــحْ +
ذِيـكْ اللَّـوْحَه ؤُنَبَّهْتْ سِـيـدْ ++ الْـعَـــرْبِي وِلْ الـسَّـــايِــــــحْ +

أنْصَتَ إليها باهتمام وتأن بالغين، وتابع إلقاءها الجميل، وأداءها الجيد للطلعة، بصوت لم يساوره تلكؤ ولا خجل، وانفرجت أسارير وجهه عن ابتسامة معبرة؛ فعلق قائلا: (رب زائر مزورْ).
لحظتها انتابتني حالة من الحنين والذكرى جاءت تعبر رماد السنين، وسرحتُ للحظات وأنا أستعيد الماضي، فقد ارتبط في ذهني حضور هذا الرجل؛ أحمدو سالم ولد الداهي، بذكرى رجلين كانا صديقيه الحميمين: الولي العارف، والطبيب النبيه محمد ولد اباه، والوالد البراء بن الأمين (الأستاذ) - رحمهما الله-.

كانت قرية اتاكلالت أيامها طفلة غريرة مثلنا، ترتدي دراعة من النيلة، وتخضب يديها الناعمتين بالحناء، وتُـسرح غُـرَّتَها بمزيجِ الفحم ِوالصمغ، وتلعب معنا لعبة الغميضة في المساءات المقمرة.
كل صباح نباكر ألواحنا ولا ننتهي منها إلا وقد سطعت شمس الضحى، نتباطأُ متلكئين في الحفظ عند أستاذتنا خديجة منت ألجد (ابَّيَّ) حتى ننعم بدقيق البسكويت والقديد الذي يفطر به الوالد ألجد بن حببْ (ادَّ)، ولا يبخل علينا بحفنات منه نَسُفُّهَا متلذذين، ثم يعطينا رَوْزَاتٍ من الشاي المنعنع، نتشاركها بمتعة فريدة، لتنطلق بعدها الحناجر صادحة بحفظ الكتبة الجديدة في اللوح، وبعدها نسند الألواح بعناية إلى جذع الشجرة الطويلة التي تتوسط مسجده المبارك.

يظل اليوم حافلا ونحن نجوب أفياء القرية الصغيرة، ونتلهى بملاحقة العصافير وطرد الحمر الناعسة حول المنازل المهجورة. وحين يخيم صمت الليل ويملأ نعيب طائر البوم الأرجاء، ننكمش مبحلقين في الظلام، فأبو العشرين ظفرا في هذا الوقت يجوب الدروب باحثا عن الصغار الذين اجترحوا صمت الظهيرة، أو لم يقرأوا ألواحهم القرآنية، وخالفوا بذلك أوامر الأمهات.

كنا نعلق الكثير من الآمال على الضيوف القادمين إلى القرية، لنتحلل من ربقة الألواح، حيث ينشغل الأهل بضيافة القادمين، ونعيش فترة من التسيب والطيش لا تتسنى لنا في الأيام الاعتيادية.
هكذا كنا نتسلق التل شرقي للقرية متنسمين الجديد، ومتحينين القادمين من الشرق؛ من جهة (الدَّخْلَاتْ) حيث الماء والمزارع، والحصائر المزركشة، والنعال الخشبية الملونة، والخيم الصغيرة التي تحملها الوافدات لأترابنا من أقربائهن، فنتمنى أن تكون لنا خالات يحملن إلينا مثل هذه الهدايا.

وكثيرا ما نجوب (الكود التلي) إلى (امْكَـيْـرِنَاتْ) متطلعين إلى القادمين من بَـقَّـاسْ وتِـنْـيِخْـلِـفْ ولِعْـوَيْـنَاتْ، فأحسنُ الفترات وأوفرها أُنسا؛ تلك التي تتحلق فيها الأحياء البدوية القادمة من الشمال حول القرية راجعة من نُجْعَتِهَا الخريفيَّة؛ وتتراءى رؤوسُ الخيم الوبرية والقماشية البيضاء قريبة لعين الناظر، وتحمل راوية الماء كل يوم ضيفات يشترين أغراضهن من الحانوت، ويغسلن الثياب عند البئر، ويقضين سحابة اليوم في القرية وقد اجتمعت من حولهن النساء، فنجد الفرصة سانحة للعب وتشييد المنازل الصغيرة من طين (امَّـيْحِـيـمْ)، والتغيبِ عن اللوح.

أما الأيام التي لا تُنسى، فهي تلك التي يقدم فيها الطبيب العارف مُحَمَّدْ ولد ابَّاهْ صحبة أحمدُّو سالمْ ولد ادَّدْ إلى القرية، تنطلق الزغاريد من كل جنبات القرية، ويهرع الرجال إلى الوفد مهللين مرحبين، ويخرج الوالد هاشا باشا مستقبلا القادمين، ثم يبادر إلى البئر حيث يتخير شاة تليق بالضيافة، وتنتحي النساء جانبا لإعداد الطعام وتوزيع الشراب، ويتحلق جمع الرجال على الضيوف، والعيونُ مشرعةٌ صوبَ محمد ولد اباه الذي حباه الله أخلاق الأنبياء؛ رجلٌ لا تفارق الابتسامة وجهه، ولا الطمأنينةُ والترحيبُ صوتَه، فهو ممن ألقى الله محبتهم في قلوب العباد.
كان يبادرُ كل داخل بالسلام، ويستقبلُ كل المسنين بالرفق والأدب، ويُرْبِت ُعلى رؤوس الأطفال ويداعبهم مداعبة الأب الحنون، وإن هي إلا ساعات حتى تتسامعَ الأحياء المجاورة بمقدم الوفد، ويغصُّ سور المنزل الكبير بالكثيرين ممن أتوا طلبا للاستشفاء، والطبيبُ النبيهُ يقابلهم بِمُحَيَّاهُ المشرق، وابتسامته الرائعة، ويعاين كل مريض ليمنحه الدواء اللازم، ويحددَ له النظام الغذائي الذي عليه اتباعه.
يجلس والدي إلى جانبه يساعده في تحضير (الدَّكَّـه) لبعض المرضى، أو يمسك له الصغار ليعاينهم، والناس ما بين غاد ورائح، لا يقطع الجمع إلا اصطفاف الناس للصلاة في أوقاتها.

أما في المساء فينعقد مجلس (الفاهمين) وهو المجلس العامر بالسكينة، والفوائد العلمية والنوادر الأدبية، حيث يتذاكرون أيام الدراسة في المحظرة، ويتطارحون المساجلات الشعرية، وتصب كاسات الشاي عبقا بالنعناع الطري، على ضوء المصابيح الزيتية، التي تدخرها الأسرة لمثل هذه المناسبات.

ليال تمر سراعا بأيامها، ننعم فيها بالأنس والراحة، وتملأ المصابيح بنورها فضاء القرية، فيختفي أبو العشرين ظفرا، وما إن يرحل الوفد المبارك حتى ترجع القرية إلى سالف عهدها فتنام معنا مبكرا بالمساء، وتحلم كما نحلم كل ليلة بالشبح المخيف.
أحمدُّو سالم ولد الداهي-رحمه الله- وهو الذي نذر حياته لتعليم الأجيال، وشكل مدرسة أدبية في لِغْنَ تعتبـرُ نسيجَ وحدِها احتذاها الكثيرون، وخلَّدَ مرابعَ إكِـيـدِي والدَّخْـلاَتْ ولِعْكِـلْ في قصائده البديعة، ألا يستحق على جمهور الأدب أن ينشر ديوانه الشعري؟ وعلى الباحثين والدارسين أن يوفوا هذا الشعر حقه بحثا ودراسة؟ وعلى وزارة الثقافة أن تضع جائزة باسمه؟

يمر أحمد سالم بالمكان: (آمِـكَّـيْشْ) الذي كان شاهدا صامتا على أجمل صداقة ربطته بشيخه وصديقه محمد ولد اباه فيتحدث إليه متسائلا في طلعته الجميلة التي امتزج فيها الحب بالفقد، فخرجت نسيج وحدها في غرض الرثاء:
يَـا مِكَّـيْـــشْ آنَ بِالـتَّـغْــرِيـــــشْ ++ شِـفْـتَـكْ فِالسِّـغْــرْ ؤُفِاتْـفَـكْـرِيــشْ+
وِانْـشُوفْ امْنِ ابْرُوكَكْ لِعْمِيـشْ ++ وِيلَا رَكَّـــــبْ نَـــوَّكْ نِـكْــعِـــــــدْ+
وَلَّا رَايِـمْ لِي عِـدْتْ اعْــرَيْــشْ ++ لِـغْـــرَابْ امْـنِ اللَّـيْـعَـه وِالْـفِـكْـــدْ+
وِامْـكَــرَّرْ فِـيَّ يَـا مِـكَّــيْـــــشْ ++ عَــنَّـــكْ بِالْـعَـــــرَّادْ اتْـــفَــــكَّـــــدْ+
غَـيْــرْ آنَ كَــاعْ أَصْـلاً فَـكَّـادْ ++ أَلاَّ نِــتْــفَــكَّــــدْ نِــتْـــفَـــــكَّــــــــــدْ+
مَـانِي نَـــاسِ شِي، وِالْـعَــــرَّادْ++ إفَــكَّــــدْ بِــيــهَا كِــــلْ ابْـــــلَــــــدْ +