إعلان

رحلة الى قبرص... / الدهماء ريم

ثلاثاء, 10/23/2018 - 01:52

.............
في تعليق له على منشورٍ لي ذكَّرني أخي الغالي Mohamed Hmeyada برحلة جمعتنا الى قبرص، اشترطتُ عليه أن أحكيها بتفاصيلها فقَبِلَ.. 
جمعتني بمحمد أكثر من رحلة ومن مُهمّة.. هو من مدرسة الخضر عليه السلام، يكثِّف "أَمَّاتْ اكلام اهل إكَيدي" في ايقوناتها اللغوية المنقوعة في التَّشفير.. وأنا من مدرسة موسى عليه السلام، أقضي وقتي معه في "صَوْع المعنى" وممارسة الصّبر في الفهم... ومع ذلك علَّمني مِمَّا عُلِّم رُشدًا، وكان لي الأخ الحنون و المؤطر الناصح.

محمد احمياده عالِم اجتماع، واجتماعيٌّ خلوق حدّ الثّمالة،.. مُشْبع بخوض الهدوء، متناسقٌ مع شخصيته،.. ومفخرة وطنية ببحوثه وحضوره.

تفضَّل علينا الاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة (IPPF) برحلة الى جزيرة قبرص، شطرها اليوناني (ليماسول)، وصلنا الجزيرة السَّاحرة مساء، ولم نعلم أن انشوطة تنتظرنا،.. احتجزونا في المطار مع فلسطينية وعراقية، اخلوا سبيلهما بعد نصف ساعة تقريبا،.. أخذوا لنا صوّرًا،.. بدأتُ أتوتَّر من عِلَّةِ استثنائنا في البقاء في الحجز بفعل جرم يفوق ذنوب العراق وفلسطين دفعة،.. و بعد ساعة من تقليب الظنون، ومن الامتلاء بتوجسات تهتك ستر القلق، كانت التهمة أننا لا نحمل من المال ما يغطي الإقامة في فندق "كراون ابلازا ليماسول"، مع أنهم لم يسألونا أبدا عن مقدار زادنا!،.. فقط ، اتخذوا من مظنَّة الفقر الملاصقة لاسْمِنا مطيَّة يَمْطون بها إلى حجزنا.. تحوَّل قلقي الى غضب و مشادة معهم.. ، وكان يزداد غضبي كلَّما نظرتُ اتجاه رفيقي فأجده متكئا في مقعده، أعصابه درجتين تحت التجمد، رجلٌ على رجْلٍ، وكأنه على شاطئ هادئ من شواطئ غرينادا يناجيه ملاك الاسترخاء... محمد هل رأيتَ صفاقتهم؟.. فيرد علي وهو يتصنع التَّأثر: قطعا " اتْـبَـرْتِ " تهمة لا تليق بسليلة سلسلة ذهبية من التجار.. ولا يزيد.. فأقول: اصْبري المُرُّ يَمُر.

قادنا "الورع المالي" خلال إقامتنا في الفندق المتطرّف الأسعار، الى العزيمة في الصَّبر والقناعة، واعتزال اللحم أيَّامًا درءًا لشبهة العوز، فإمكانياتنا تعجزنا عن اللحاق بنمط معيشة الفندق فوق مستوى الكفاف.. وفي ليلة من ألف ليلة، نَظَّم الاتحاد عشاء للمشاركين على الشاطئ، فأضعفت رائحة المشاوي مِنَّا عفة البطن، استفتيتُ محمد: ما حكم تناول اللحم المجاني بحفل العشاء بحجة رفع حرج البيع عن "مَـدَّهْ امْبرتْـيَ"؟ .. فقال: هي ذبيحة الذين أوتوا الكتاب، حِلٌّ لنا.. جيّد، "ديرْهَا اعْل رَكَبتْ امْرابط، وامْركَها، ما نَكْ مُخاطَب".. ما دام "الطلبه" احتكروا عنا العلم، سنورِدُ احفادهم جهنَّم، ونجعلهم تحت طائلة الوعيد الإلهي بالتسارع الى فتيا لا تسلك مسالك الصالحين،.. طبعا نكاية بهم..

بعد جولة بين أفران الشَّيِّ وجدنا ضالتنا في بعض "الكباب" و"الشَّاورما" السوداء! .. اطفأنا فتنة بطوننا، وارضيْناها.. ثم سأل محمد نادلاً سوريا عن سرّ سواد اللحم فكان جوابه أنه لحم الخيل.. كدتُ أفرغ معدتي،.. استفظعتُ هضمه و أنا أتخيل حصانا يُصَدِّع بسنابكه جدار بطني،.. قلتُ: ما رأي المفتي؟ .. قال: هي "بهيمة" الأنعام، وأنت على شفى حفرة من "التَّْينيكْ"، تجوز في حقك صدقةٌ من لحمٍ لا "تَعِرْفِ".

رافقتنا في العودة خبيرة مغربية من خبراء الاتحاد، تدعى خديجة، مخمورة (بالحسانية)، من النوع المتسخِّط الذي يتأفَّف من عذوبة النَّسيم، ظهيرها في ذلك عيون ناهدة، ومقوِّمات جسدية مغموسة في الجودة.. فالكبرياء يليق بامرأة من شاكلتها،.. نزلنا بمطار أثينا وكان الزمن صيفا والمطار مكتظا بالسياح، امضينا قرابة الساعتين وقوفا،.. وبعد أن جلسنا التفتُ بحركة عفوية فسقطت عيني على وشم أخضر لنجمة داود على ذراع جاري، رفعت عيني فيه.. فوجدته يعتمر "الكِيبَا"،.. صرختُ في محمد، .. يهودي! .. ووقفتُ آليًّا، طلبتُ منه أن نترك المقاعد.. ومحمد من النوع السَّخي الخلق الذي لا يردُّ طلباً، قال لي: إلى أين وكل المقاعد مشغولة؟ .. قلت: إلى البلاط، لا أستطيع مجاورة صهيوني ولو على مقعد عمومي.. هذا يتنافى وثوابتي!.. بدأ يلتفت يمنة ويسرة، .. قلتُ: عمَّ تبحث محمد؟ .. قال: عن من يزوّدني برقم هاتف ياسر عرفات، فليس من العدل أن لا يعلم بهذه الصَّفعة التي وجهتِ لإسرائيل.... طبعا كان يقودني وقتها اندفاع الشباب وتلاعبه بمقاييس الأشياء في تطرّف، تضخيما وتصغيرا.

ونحن نحثُّ الخطى في اتجاه بوابة الإقلاع كانت خديجة تتبختر مُخصَّرَة الكشْحِ ، تلبس على الطراز الفرنسي، ابلوزة أنيقة وتنورة لحد الركبة.. طلبت من محمد استعجالها ، حيث لا يمكنني ذلك، فرد عليَّ: "ماهِ لاَهِ تعجلْ.. هيَّ امثكله"..، ساءلتُ نفسي: كيف؟.. لم يطق عقلي المُهان في وعيه جوابه، فهي لا تحملُ إلا حقيبة يدوية!.. ربع ساعة آخر،.. وخديجة تجرُّ أقدامها بخطى تحرق الأعصاب وتوقظ الضغينة،.. ثانية، محمد لوْ سمحتَ استعجل السيدة،.. "تركيهَ عنَّك.. أمَّالي كَتلك انْها امْثكلَ".. التفتُ خلفي مُحاولة الفهم ، فلا مجال لمثلي بالتَّخاطر الذِّهني مع "أهل إكَيدي"، فسقطتْ عيناي على سيقان خديجة الممتلئة،.. أوتاد تعلوها راسيات من جمال.. فماتت دهشتي... أنا أركض كالقطا مسابقة الزمن للوصول إلى بوابة الاقلاع، وعزيزي غارق في اللحم الأبيض المتوسط! ... منهم لله الرّجال.