إعلان

الأصالة الشعرية في شعراء أسرة أهل آدب

اثنين, 10/25/2021 - 04:26

جزالة الأسلوب أبلغ من جزالة اللفظ

 

 

 

 

___________

 

المصطفى المعطاوي

المغرب

___________

 

 

يقول ابن الأثير في المثل السائر: " اعلم أن الألفاظ تجري من السمع مجرى الأشخاص من البصر، فالألفاظ الجزلة تتخيل في السمع كأشخاص عليها مهابة ووقار، والألفاظ الرقيقة تتخيل كأشخاص ذي دماثة ولين أخلاق ولطافة مزاج، ولهذا ترى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم، واستلأموا سلاحهم، وتأهبوا للطراد، وترى ألفاظ البحتري كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات وقد تحلين بأصناف الحلي". يمكّننا هذا النص من الوقوف على نقطتين مهمتين:

أولا: أن ابن الأثير يحدد الجزالة في اللفظ، وهي تفعل في النفس ما يفعله النظر إلى ذوي المهابة والوقار.

ثانيا: أن الجزالة نقيض الرقة، بدليل قوله "والألفاظ الرقيقة"، وبهذا تصبح الجزالة مرادفا للقوة والشدة.

ولأن الأدب، والشعر خاصة، لا يمكن للفظة أن تكون منعزلة عن سياقها، سواء تعلق الأمر بالمعنى أو بالتجاور مع الألفاظ الأخرى، فهمنا كيف أن صاحب "اللسان" ميز بين الجزالة في اللفظ والجزالة في المعنى، يقول ابن منظور: "كلام جزل أي قوي شديد، واللفظ الجزل خلاف الركيك، ورجل جزل الرأي، وامرأة جزلة بينة الجزالة جيدة الرأي، وما أبين الجزالة فيه أي جودة الرأْي.."

بهذا تكون الجزالة في اللفظ نقيض الركاكة، وفي المعنى نقيض الرقة، وبعبارة أخرى فجزالة اللفظ خاصية مادية فيه، وجزالة المعنى قوته على طرق الدلالة المراد إيصالها إلى المتلقي، حتى لا يكون سواها محتملا من جهة، وتكون مقنعة ومؤثرة من جهة أخرى.

تخرج الجزالة من بوتقة الإبانة إلى فساحة التأثير الفكري والنفسي، بهذا فوجه التشابه بين جزالة اللفظ ورقته هو قوة الأثر النفسي وعدم احتمالية معنى آخر، والفرق بينهما هو طبيعة المعنى المطروق. لذا لن تغدو الجزالة سوى موافقة الألفاظ للمعاني وملاءمتها لمدلولاتها، مع شرط ذاتي أورده الشهرستاني في "نهاية الإقدام في علم الكلام"، وهو "قلة الحروف واختصارها وتناسب مخارجها"، مضيفا إلى ذلك أنه "ربما يجتمع المعنيان فيكون اللفظ فصيحا جزلا، فتجمع معان كثيرة في ألفاظ يسيرة". يضاف إلى هذا الشرط شرط آخر هو الاستقامة، وبغياب هذين الشرطين يكون اللفظ حسب صاحب "نقد الشعر" ملحونا شاذا، وجاريا على غير سبيل الإعراب واللغة.

لكن من أين تأتي تلك الاستقامة المفروضة في اللفظ؟ يجيبنا صاحب "الموازنة" عن هذا السؤال محددا ثلاثة مصادر لها، هي الطبع والرواية والاستعمال. مما يعني ضرورة ابتعاد اللفظ عن العامي والساقط والسوقي والوحشي، بتعبير صاحب "البيان والتبيين"، ذلك أن هذه الصفات لا تفقد اللفظ جزالته وإنما استقامته أيضا، الأمر الذي يعني أن الاستقامة هي الوجه الآخر للجزالة، أو هما وجهان لعملة واحدة، هي قوة اللفظ وتأثيره في القارئ.

الجزالة في اللفظ –إذًا- متانة وقوة، يظهر ذلك من خلال أثرها الفكري والنفسي، وهو يجعل القارئ متأملا فيها متفاعلا معها، كأنها النجمة اللامعة بين النجوم إن صح التعبير، فرغم أن النجوم جميعا تضيء، ورغم أن المُشاهد يستعذب المشهد اللامع في السماء، إلا أن العين تنجذب مرارا وتكرارا إلى تلك الفرادة الضوئية للنجمة الوضاءة، فتأسر بصره(التأمل)، وتشد قلبه(الانفعال). ومن ثم لا ينظر إلى اللمع إلا من خلالها، كذلك اللفظة الجزلة تجعل القارئ لا ينظر إلى المعنى إلا من خلالها. وإذا كان الأمر كذلك فإن اللفظ الجزل يجب أن يكون بعيدا عن أشكال العماء الدلالي والغموض المعنوي.

أما حين يتعلق الأمر ب"الكلام" باعتباره القول المفيد، فلن تغدو الجزالة سوى تماسك الألفاظ للتعبير عن الدلالة، وهنا يخرج مفهوم الجزالة عن الوحدة المعجمية والصرفية إلى الوحدة التركيبية النحوية والبلاغية، فنتحدث إذاك عن مفهوم جديد هو الشرف، والذي مداره – حسب الجاحظ- على الصواب، وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال.

هكذا يمكننا القول إن الجزالة تشمل اللفظة المفردة وتركيب الألفاظ في الوقت نفسه، دون أن يكون هناك انفصال بين الطرفين، اللفظة الواحدة تحدث الأثر المرجو منها في الفكر والنفس، حتى تكون النواة المركزية للنظر إلى المعنى المراد، والألفاظ جميعا يتم تركيبها نحويا تركيبا يتوافق مع ذاك المعنى نفسه، وفي هذا التركيب تغيب الاحتمالات الدلالية من جهة، ويحدث الأثر النفسي من جهة ثانية.

بعد هذه التوطئة البسيطة يمكننا القول إن مفهوم الجزالة صرفيا أو تركيبيا يعتبر أهم محدد لجودة النص الشعري في الرؤية البيانية العربية، منذ الجاحظ حتى الجرجاني، وكان من أبرز محددات "عمود الشعر"، ولا نقصد هنا بالعمود الإطار الشكلي للقصيدة، وإنما الرؤية الفنية الجمالية واللغوية والفكرية للقصيدة العربية. من خلال هذا المنظور سنشتغل في هذا المقال على محورين اثنين لكل واحد منهما غايته:

الأول: إبراز مظاهر الجزالة في "سلالة الشعر وبيت القصيد لأسرة أهل آدب"، معتمدين على ما ورد من أشعار في الكتب الخمسة لسلسلة التراث الكنتي البوسيفي، خاصة كتاب أسرة أهل آدب، سلالة الشعر وبيت القصيد[1].

الثاني: البحث في إمكانية انتقال هذا الموروث البياني إلى التجربة الشعرية لأدي ولد آدب نفسه، باعتباره واحدا من حفدة هذا البيت الشعري، وذلك انطلاقا من دواوينه الثلاثة: رحلة الحاء والباء[2]، وتأبط أوراقا[3]، وبصمة روحي[4].

كنا في مقال قد نشرناه منذ سنوات في كتاب جماعي تحت عنوان "القصيدة العمودية المغربية، بنية الإيقاع والدلالة"، أبرزنا فيه الجزالة الشعرية في قصيدة مدحية من شعراء أهل الصحراء[5]، وقد استغرق المقال حوالي عشرين صفحة من الكتاب، ختمناه بأن أهل الصحراء لا يبحثون عن الألفاظ وإنما تأتيهم، وما يبحثون عنه هو الصيغ المتنوعة لتركيب تلك الألفاظ، وهذا هو فهمهم العام للجزالة، وهذا ما ذهبت إليه أصوات كثيرة من النقاد العرب القدامى، وإذا كان الأمر في مقالنا السابق يتعلق بقصيدة واحدة فكيف يمكن لمقال واحد أن يتناول سلالة شعرية إلا أن يكون مختزلا هذه التجربة في نماذج وما يصاحب ذلك من تبخيس، أو أن يغامر المؤلف بتأليف كتاب في الموضوع. ولأن فكرة كتاب مختمرة في الذهن لكن الاختمار وحده غير كاف للمغامرة، ذلك أن محاور الكتاب لا زالت تخضع في الذهن للكتابة والمحو، وأمام هذا الظرف الموضوعي لن يكون هذا المقال سوى بشارة لما سيأتي إن كان في العمر بقية، ومن ثم يمكن اعتباره مقدمة تشبه الريح التي تبشر بالفصل المطير، فلا يؤخذن علينا ناقد أننا انتزعنا أبياتا من سياقها، وإنما في ذلك دعوة لمن أراد أن "يعمل صالحا نقديا"، ولا يؤخذن علينا شاعر من الشعراء الذين تناولناهم في هذا المقال أننا لم نعد إليهم حياتهم الإبداعية، ويكفيهم أن السلالة عندنا بمثابة بيت واحد من الشعر.

ولأن شعراء هذه الأسرة الذين تم توثيق بعض أشعارهم في كتاب سلالة الشعر يزيد عن ثلاثين شاعرا، ما بين أجداد وأعمام وأحفاد، فإننا سنعمد لضرورة مقامية أن نقسم هذه الورقة إلى أجزاء في ما يشبه سلسلة مقالات يتناول كل واحد منها زمرة من الشعراء، ونخصص المقال الأول لثلاثة شعراء هم:

1-الشاعر محمد بن محمد بن أحمد انبوسيف بن حيبل بن باب بن أحمد بن باب بوسف

2-الشاعر المختار بن محمد من أهل محمد بن الطالب بن أعمر بن خيري

3-الشاعر محمد بن المختار بن محمد بن الطالب اعمر بن خيري

يقول الشاعر محمد بن محمد  بن أحمد انبسيف بن حيبل بن باب بن أحمد بن باب بوسيف في عينيته التي مطلعها[6]:

هل من منازل نازلات الأربع   سفحت نجيعا واكفات الأدمع؟

إلى أن قال:

أم من هبوب نسيم نمام الصبا
 

 

أم من أليل الوامضات اللمع؟
 

أم ما لقلبك إن ترم سلوى طغى  
 

 

أم ما لجفنك إن يكفكف يهمع؟
 

في هذه الأبيات تتجلى جزالة التعبير في خلق إيقاع أكثر أثرا في النفس، انطلاقا من استعارة معنى مكون لغوي ومنحه لمكون آخر، مع أن الأول قادر على إبلاغ المعنى والمحافظة على الإيقاع، ذلك أن الشاعر أدرك ذاك التناغم الإيقاعي الذي سيحافظ على قوة الأثر النفسي التي تحدثه أداة التعيين "أم" التي تتصدر الأشطر الأربعة، فعمد إلى استبدال أداة الاستفهام (هل) في الشطر الأول من البيت الأول، بـ"أم" حفاظا على التناغم الإيقاعي.

فالحرف "أم" لا يستفهم به، وإنما يرد مع الاستفهام قصد التعيين، لكن الشاعر منحه دلالة الاستفهام حتى يخلق ذاك التناغم الإيقاعي ذي الأثر النفسي القوي الناتج عن التكرار، وليس في إيراد "هل" ما يعيب الدلالة ولا الإيقاع إن قال: "هل من هبوب نسيم نمام الصبا"؟

ومن أمثلة الجزالة الأسلوبية عند الشاعر نفسه خلق التقابلات الصرفية انطلاقا من الألفاظ، وهي تقابلات توحي بامتلاك ناصية اللغة صرفا وتركيبا. يقول في لامية من الكامل مطلعها[7]:

هاجت رسيس الصب مهلا عذلي   دمن تقادم عهدها بالنزل

إلى أن قال:

وتخافقت فيها البوارق لمعا  
 

 

تزجي غيوم المسبلات الحلل
 

 

وتصوبت أمطارها وغزارها 
 

 

تهمي بأجراز القلوب القحل
 

 

ظاهريا يبدو أن البيتين اكتسبا قوتهما من دلالة البنية الصرفية للألفاظ الموظفة، وهي الدلالة على الفاعلية التي وردت بصيغة الجمع في (لمع، حلل، قحل)، والتي اختار لها الشاعر صيغة جمع (فُعّل) التي من خصائصها تقوية الدلالة، لكن جزالة البيتين تكمن في التركيب لا في الألفاظ، ويتجلى في خلق التقابلات التركيبية التي كان لها الأثر القوي في إظهار هذه الألفاظ  بالقوة التي تمنحها لها اللغة، ذلك أن الشطر الأول من البيت الأول بدأ بفعل "تخافقت"، وهو فعل دال على الماضي، مسند إلى المؤنثة الغائبة، وقابله في الشطر الثاني بمثله مسندٍ إلى ما أُسْنِدَ إليه، لكن بنقله من الدلالة على الإخبار إلى الدلالة على الحالية "تزجي". والأمر نفسه نجده في البيت الثاني، إذ صدّره الشاعر بفعل "تصوبت" مسندٍ إلى ما أسند إليه فعل الشطر الأول من البيت الأول، بالدلالة الزمنية نفسها ووضع الإخبار نفسه، وقابله بمثل ما قابل به نظيرَه؛ بفعلٍ دال على الحال، مسندٍ إلى ما أسند إليه نظيره في الشطر الثاني، فجاء هذا التركيب خادما للألفاظ وليست الألفاظ خادمة للتركيب، الأمر الذي يعني أن الشاعر ليس مالكا نحوَ اللغة وبلاغتَها فحسب، وإنما مالكٌ ضروبَ التراكيب اللغوية التي تقوي الدلالة من جهة، وتبرز جزالة الألفاظ من جهة ثانية، وهذا ما أقررناه في التقديم من أن الجزالة الشعرية ليست جزالة ألفاظ، وإنما جزالة تركيب، ليس إنكارا لقوة اللفظ، لكن انتصارا لقوة التركيب على اللفظ.

ولأن جزالة الأسلوب لا تختص بالشعر وحده، وإنما تشمل كل أنواع الخطاب الأدبي، فإنها في الشعر جمّاعة لكل مراد، على اعتبار أن الشعرَ لسانُ العرب، منه الإقناع والإمتاع والجدل والهزل وما إلى ذلك، لذا فاللعب الفني بالألفاظ والتراكيب مستوى من مستوى الجزالة الأسلوبية فيه، وهذا ما تنبه إليه النقد لعربي القديم فميز بين ثلاثة أنظمة في الخطاب: البيان والبلاغة والفصاحة، وتفطن الناقد العربي أيضا إلى أن هذه العناصر الثلاثة هي مبنى لثلاثة علوم هي علم البيان وعلم المعاني وعلم والبديع.

ومن أشكال الجزالة الأسلوبية في تجارب الشعراء التي بين أيدينا، توظيف المقابلة لخلق معان مركبة تخدم فيها الدلالة الحالة النفسية بشكل دقيق، ومن ذلك قول الشاعر المختار بن محمد، وهو أحد أعمام أهل آدب، في قصيدة مطلعها[8]:

أبدى من الشوق ما قد كنت أخفيه   وكنت أزعم أن لا شيء يبديه

إلى أن قال:

عهدي به وظباء الأنس تقطنه  
 

 

واليوم صارت ظباء الوحش تحييه
 

 

إني مررت على ربع عهدت به  
 

 

أسماء لا برح الوسمي يسقيه
 

كأنه ما مشت-ميسا- منعمة  
 

 

جيدانة، كقضيب ناضرٍ فيه
 

ولا تجلبب بالأزهار يانعة 
 

 

ولا تبسم روض في أعاليه
 

 

جادت عليه من الرحمان سارية 
 

 

من الودائق تجري في نواحيه
 

 

لقد قابل الشاعر في البيت الأول بين تركيبين متماثلين في المبنى متقابلين في المعنى وهما: "ظباء الأنس تقطنه"، و" ظباء الوحش تحييه"، ذلك أن التركيبين معا يتألفان من مبتدإ وجملة فعلية على سبيل الإخبار، وبينهما لفظ دال على الإضافة، لكن على مستوى الدلالة يطرح التركيبان معنيين مختلفين، يضطلع لفظ المضاف إليه بما يمكن أن نسميه نواة المقابلة، وهو "الأنس" في التركيب الأول، و"الوحش" في التركيب الثاني، والواضح أن هذا التقابل الدلالي المبني على التماثل في التركيب، يماثله تقابل دلالي خفي على مستوى البيت بين زمنين: الماضي تشير إليه عبارة "عهدي"، والحاضر تدل عليه عبارة "اليوم"، ليس هذا فحسب، وإنما نستطيع أن نكتشف تقابلا أكثر خفاء بين لفظتي "تقطنه" و"تحييه"، الأولى دالة على السكينة والهدوء، والثانية دالة على التوتر والاضطراب، ذلك أن ضمير المفعول في فعل "تقطنه" يعود على "الربع" في البت الثاني، أما في "تحييه" فالضمير يعود على الشوق في البيت الأول، لذا نصبح أمام بنية متكاملة من المقابلة الفنية، تشمل اللفظ،  والتركيب، والزمن، والعبارة العائدية (الهاء)، والشطر، والبيت، والمقطع، ليتحد الكل في إبراز حالة التقابل النفسي بين السكينة الضائعة والاضطراب المستولي.

كان الشاعر العربي قديما ينظم الشعر بالفطرة، فقد ورد في الأثر أن بشارا بن برد كان إذا أراد هجو أحدهم في مجلس، تربع وتفل يمينا وشمالا، ولم ينهض حتى ينتهي من قصيدته، وكأنه يقرؤها من كتاب، ورغم ذلك ظهر ما يسمى بشعر "الحوليات" عند زهير بن أبي سلمى، بحيث كان يعمل القصيدة في أربعة أشهر، ويهذبها بنفسه في أربعة أشهر، ويعرضها على أصحابه الشعراء في أربعة أشهر، فلا يشهرها حتى يأتي عليها حول[9]، غير أن الذي يجب إدراكه هو أن صنع قصيدة لا ينفي سليقة الشاعر، وسليقته لا تمنع من صنعها. المسألة –إذًا- ليست مسألة قدرة، وإنما مسألة بناء فني، وهو ما يفيد أن الشاعر العربي لم يكن يقول الشعر خارج إعمال العقل، وإلا كيف نفهم أن الشعر "ديوان العرب"، والديوان يشمل كل ضروب الحياة بما فيها أشكال الخطاب. لذا فجزالة الأسلوب الشعري ليست مجرد طبع تلقيه في النفس "ربات عبقر"، لكنه إعمال للفكر، وما دام الأمر كذلك، فله غاية وقصدية دون منازع. فالوصف بالمفرد ليس هو الوصف بالتركيب، والوصف بالتركيب الاسمي ليس كما الوصف بالتركيب الفعلي. إن تركيب: "الزهرة متفتحة الآن"، ليس هو تركيب: "الزهرة تفتحت الآن"، وليس هو تركيب: "الزهرة تتفتح الآن"، مع أن كل التراكيب هي إخبار وصفي. إن الجزالة الأسلوبية هي مطابقة دلالة التركيب للمعنى ليس إلا. يقول الشاعر أحمد بن المختار بن محمد بن الطالب أعمر بن خيري، وهو واحد من شعراء أولاد بوسيف الخضر أعمام آدب، وهو من رواد شعر الزريكة[10] إلى جانب الشعر الفصيح[11]:

يا ليت شعري هل آتي إلى فضِل  
 

 

يزيل –إن جئته- عني إدخانا
 

 

أو شئت غانية، حوراء، قاربها   
 

 

بيض منعمة عجزاء وهنانا
 

 

ريا المعاصم ملء الدرع خربعة  
 

 

كأنما ركبت أوصالها بانا
 

لمياء في لعس يكفي تبسمها   
 

 

من كل ما يشتهي من كل ما كانا
 

في هذا المقطع الشعري يظهر اعتناء الشاعر بشكل دقيق بالبنية التركيبية للوصف التي جاءت كما يلي:

في البيت الأول:

الموصوف: "فضِل"، والوصف: "يزيل إن جئته عني إدخانا"، ونوع الوصف: جملة فعلية فعلها مضارع.

في البيت الثاني:

الموصوف: "حوراء"، والوصف: "قاربها بيض"، ونوع الوصف: جملة فعلية فعلها ماض.

في البيت الثالث:

الموصوف: "خربعة"، والوصف: "كأنما ركبت أوصالها بانا"، ونوع الوصف: جملة فعليه فعلها ماض

في البيت الرابع:

الموصوف: "لمياء"، والوصف: "يكفي تبسمها من كل ما يشتهى من كل ما كانا"، ونوع الوصف: جملة فعلية فعلها مضارع.

إن ما يمكن ملاحظته هو أن كل الموصوفات نكراتٌ، والصفاتِ جملٌ فعلية موزعة بين دلالة الحاضر والاستقبال في البيتين الأول والرابع،  ودلالة المضي في البيتين الثاني والثالث. وإذا كان الشاعر قد وجد نفسه في سياق تعبيري لا يسمح له إلا بالتدقيق في الوصل والتفصيل فيه؛ فلجأ إلى الوصف عبر الجمل، إلا أنه أدرك تماما أن هذا التفصيل في الوصف لا يمكن أن يستقيم دلاليا باعتماد نمط واحد من الوصف، فاعتمد على دلالة الفعل الماضي لتأكيد الصفة واستغراقها في الزمن (البيت الثاني)، حتى تصبح صفة ملازمة للموصوف، وإلا لما تحققت الغاية من الوصف، ذلك أن جملة: "قاربها بيض" التي وصفت الحوراء هي جملة فعلية دالة على الاستغراق الزمني في الماضي والحاضر والمستقبل، باعتماد الدلالة الثانية للفعل الماضي كما شرح ذلك سيبويه، والأمر نفسه في البيت الثالث، إذ لما أبطلت "ما" عمل الناسخ، تحولت الجملة من الاسمية إلى الفعلية: "ركبت أوصالها بانا"، وهذا الوصف الذي أريد منه قد المرأة وهيئتها، يود الشاعر منه أن يظهره على شكل صفة ملازمة، شأنها شأن الوصف الذي قبله، ولو وظف الشاعر دلالة الفعل المضارع لأفقد الصفة دلالة اللزوم ولسقط في تناقض دلالي.

هذا من ناحية، أما من ناحية الأوصاف التي وظف فيها الشاعر الفعل المضارع، فالملاحظ أن غايته كانت إظهار صفة الثبات في الصفة، فمن صفات الفضِل أن يزيل الإدخان، ولا يمكن لهذه الصفة إلا أن تكون ثابتة، كي يوصف بها الموصوف، كذلك الأمر في جملة: "يكفي تبسمها..." فقد أراد منها الشاعر أيضا صفة الثبات. بمعنى أن استعمال الجمل الفعلية، تارة بالفعل الماضي، وتارة بالفعل المضارع في عملية الوصف، لم يكن قطعا من باب التداعي التركيبي، وإنما لضرورة دلالية اقتضاها السياق، وحين نتحدث عن ضرورة دلالية نعني بها إعمال الفكر، مما يفيد أن المقطع،  ومن ثم القصيدة برمتها، خضعت للمراجعة والتنقيح وإعادة النظر وإعمال الفكر، بين إزاحة وإحلال وكتابة ومحو، حتى استقامت على ما هي عليه، الأمر الذي منح التركيب جزالته، فجاء متناغما مع الدلالات المختلفة المراد إيصالها إلى المتلقي. ولم يكن التركيب هنا سوى الاشتغال على الصفة والموصوف، ونعت هذه الأخيرة بما يفيد استغراق الصفة في الزمن، وما يفيد ثباتها في الموصوف أيضا، من خلال قاعدة نحوية، وهي أن الجمل بعد النكرات نعوت، ولو عرف الموصوف لكانت أحوالا، ولفقدت الدلالة صفتي الثبوت والاستغراق في الزمن، لأن الحال فقي بيان اللغة صفة تدل على التغير باستمرار.

من أهم المباحث اللغوية في البيان العربي مبحث الفصل الوصل، ويتحقق هذا الأخير تارة من خلال المكونات الصرفية، وتارة عبر البنية التركيبية، بل إن علامات الترقيم من فواصل ونقط تضطلع بهذه الوظيفة باعتبارها مكونات بصرية تنوب أثناء القراءة وتأمل الخطاب عن التجسيد اللفظي والإشاري أثناء فعل التكلم، ومن ثم فهي إشارات ذات طابع فكري وليست ذات طابع تنميقي تطريزي، فلننظر إلى هذا السؤال وجوابيه:

هل أبوك مريض؟

الجواب الأول: لا، شفاه الله

الجواب الثاني: لا شفاه الله

إن الفاصلة في الجواب الأول أعطت للكلام دلالتين ظاهرتين: الأولى نفي المرض عن الأب، والثانية الدعاء له بالشفاء، ومن ثم نكون أمام بنيتين تركيبتين: الأولى خبرية والثانية إنشائية، بنقل "لا" النافية من حقيقة النفي إلى مجاز "الدعاء"، وهو أمر سارٍ في اللسان العربي. أما الجواب الثاني إذ الفاصلة محذوفة، فقد منحنا فعل التلفظ دلالتين: الأولى ظاهرة، وهي الدعاء على الأب بعدم الشفاء، والثانية باطنة وهي أنه فعلا مريض، الوصل والفصل بنية تركيبية معقدة تضطلع بها الألفاظ؛ حروفا وأفعالا وأسماء، وعلامات الترقيم؛ فواصل ونقطا، كما تضطلع بها البنية التركيبية(النحو)، وعملية التوظيف تتم لتحقيق دلالة متمثلة في الذهن بشكل واع ومقصود. بعبارة أخرى إنها بنية عميقة تجعل اللاحق من الخطاب في ترابط دلالي مع سابقه، ومن ثم فالانتقال من سطحها إلى عمقها يعني الانتقال إلى عمق الدلالة، وإلا لفقَد التركيب جزالته، وإن احتفظ بمعناه.

في قصيدة للشاعر محمد بن المختار بن محمد بن الطالب اعمر بن خيري، نرى كيف اشتغل على بنية الوصل لتحقيق دلالة كاملة خفية، وذلك من خلال توظيفه أشهرَ تركيب في اللغة العربية يفيد الوصل، وهو تركيب العطف الذي نقلنا من وصل ظاهر إلى وصل ضمني، في صورة من أقوى صور الجزالة الأسلوبية. يقول الشاعر[12]:

عاش الفراق حليف عيش أنكد  
 

 

واستبدل... الأسيف من الدد
 

 

وغدا الغد الآتي عليه بما به   
 

 

وعد الأحبة في غد من مبعد
 

كم صير الأشفاع أوتارا، وكم
 

 

عيش هنيء عاضه بالأنكد
 

وكم اقتضى بقضائه كون الفتى  
 

 

بحبيبه في حيرة وتردد
 

 

إن انتظار قضائه لأحبتي  
 

 

أفنى تحملي الأذى، وتجلدي
 

وأعارني سفع الجوانح والحشا  
 

 

بحريق حزن في الفؤاد موقّد
 

 

كان الشاعر قد سكن مع الشيخ سيديّ وصحبه وأحبه، ولما أراد المسير عنه قال فيه هذه القطعة من الكامل، والتي كسر إيقاع شطرها الثاني من البيت الأول، نتيجة سقوط كلمة من المصدر، لكن المعنى رغم بعض الغموض فيه، إلا أنه يمكن ترجيحه بالنظر إلى ظروف إنتاج النص من جهة، وتتبع الدلالة من خلال الأبيات التي تليه من جهة ثانية. وهذه معاني الأبيات أولا:

البيت الأول: فراق الصديق حوّل أيام الأنس إلى وحشة ونكد

البيت الثاني: الزمان يسوّف لقاء الأحبة، وقد عبر الشاعر عن ذلك بصورة بليغة، بأن الغد يخاطب الحبيب بأن ينتظر غدا آخر ليعود الرفيق، ولأن الغد لا يعرّف غدَه، وإنما ينكّره، فهذا يعني أنه غد غير معروف، ومن ثم قد لا يأتي.

البيت الثالث: أن الغد يفرق بين الأحبة (الأشفاع)، ويتركهم فرادى (أوتارا)، ويبدل العيش الهنيء بالعيش النكد

اليت الرابع: أن للغد قوة قاهرة كقوة القضاء، تترك الحبيب في حيرة دائمة، لا يعرف ما الذي ينتظره

البيت الخامس: تعبير الشاعر عن ضعف تحمله وتجلده من انتظار ما قد يخزنه له الغد

البيت السادس: تصوير الشاعر شدة آلام قلبه وجوانحه بسبب الاحتراق الذي يعاني منه بسبب هذا الغد المجهول.

هكذا يصور الشاعر آلامه من فقد صاحبه، متوجها باللوم إلى المستقبل كقوة قاهرة بغموضها وقسوتها، تجعل انتظار ما سيأتي به أشد قسوة مما قد يأتي به. وإذا تأملنا البنية التركيبية لهذا المقطع فإننا نجدها قد اعتمدت على الوصل من خلال تركيب العطف، وذلك على الشكل التالي:

- عطف البيت الثاني على الأول من خلال حرف الواو الذي صدّر به البيت الثاني، ولأن الشاعر لم يعتمد تدويرا، بحيث درج على تخصيص كل بيت بمعنى، فهذا يعني عطف معنى على معنى.

- عطف البيت الرابع على الثالث بالأسلوب نفسه، وبالمكون اللغوي نفسه (الواو)، الذي صدّر به البيت الرابع

- عطف البيت السادس على الخامس بالطريقة نفسها.

وهذا البناء يعني أننا بصدد ثلاث دلالات هي كالتالي:

الدلالة الأولى: (البيتان الأول والثاني): وفيه أن الوحشة والنكد ليست نتيجة لفراق الصاحب، وإنما لبعد الأمل في عودته. بحيث أن الإنسان لا يعرف ما يخزنه له المستقبل

الدلالة الثانية (البيتان الثالث والرابع): وفيها أن النكد الحقيقي ليس في أن يترك الفرد وحيدا، وإنما في التفكير أن يبقى دائما وحيدا، لأنه لا يعلم المستقبل.

الدلالة الثالثة: (البيتان الخامس والسادس): وفيها أن ضعف التحمل والتجلد ليس نتيجة التفكير الطويل في الغد القاهر، وإنما نتيجة الألم والاحتراق الذي يعانيه الشاعر بسبب هذا التفكير

هكذا اشتغل تركيب العطف الذي وظفه الشاعر واصلا، ليمنحنا الدلالات العميقة المخفية بين المعاني الظاهرة، غير أن ذلك ليس سوى عمله كتركيب ظاهر، بحيث إن هناك تركيب وصل خفي يجمع الدلالات الثلاث في دلالة واحدة هي المقصودة بذاتها. فإذا عدنا إلى البيتين الثالث والثاني، بحيث لا وجود لتركيب العطف نكتشف وجود هذا الوصل من خلال البنية الصرفية المتمثلة في الضمير المستتر في الفعل "صير"، والذي يعود على "الغد" في البيت الثاني، وإذا عدنا إلى البيت الخامس وجدنا العبارة الصرفية نفسها تربط البيت بالبيت الرابع، وهي الضمير الذي اتصل بكلمة "قضائه"، مما يعني أننا أمام تركيبين للوصل، واحد ظاهر والآخر خفي، الأول يجمع معنيين في بيتين مستقلين لإنتاج دلالة واحدة، والثاني يضطلع بجمع الدلالات الثلاث في دلالة واحدة هي المقصودة من هذا المقطع، وهي الدلالة المكونة على التوالي من فقدان الأمل في المستقبل، والتفكير فيه بشكل دائم، وما يحدثه ذلك من ألم، ليكون فراق الصاحب في الحقيقة ليس سوى دافع للتعبير عما تشعر به النفس من خوف دائم من المستقبل، وبالتالي تنتقل الدلالة الظاهرة في النص إلى دلالة أعمق تكشف عن الهم الوجودي الذي يحمله الشاعر. فهل ثمة جزالة أسلوبية أكبر من تلك التي تقودك من الظاهر العانِّ إلى الخفي المقصود؟

..........................................................................

في الجزء الثاني من هذه السلسلة:

الشاعر أحمد بوه بن محمد بن أمحمد بن الطالب اعمر بن خيري

الشيخ بن سيدي الأمين

محمد " ويقي" بن سيدي الأمين

 

 

 

 

[1]  أدي ولد آدب. أسرة أهل آدب. سلالة الشعر وبيت القصيد. سلسلة التراث الكنتي البوسيفي. (أدبيات أهل آدب). مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال. مراكش. المغرب. 2020

[2]  أدي ولد آدب. رحلة الحاء والباء. منشورات وزارة الثقافة الجزائرية. 2009

[3]  أدي ولد آدب. تأبط أوراقا. منشورات وزارة الثقافة الجزائرية. 2009

[4]  أدي ولد آدب. بصمة روحي. منشورات آفاق للدراسات والنشر والاتصال. مراكش. المغرب. 2018

[5]  انظر مقالنا ضمن كتاب القصيدة العمودية المغربية. بنية الإيقاع والدلالة. منشورات وزارة الثقافة. 2011

[6]  أدي ولد آدب. أسرة أهل آدب. (م. م) ص: 28

[7]  م. ن. ص. ص. 29-30

[8]  أدي ولد آدب. أسرة أهل آدب. سلالة الشعر وبيت القصيد (م. م) ص: 34

[9]  اسكندر اغا ابكاريوس روضة الأدب في طبقات شعراء العرب. ص: 11

[10]  شعر مستحدث يمزج بين مفردات العربية الفصيحة ومفردات اللهجة الحسانية الدارجة في القصيدة الواحدة

[11]  أسرة أهل آدب. سلالة الشعر وبيت القصيد. ص: 37

[12]  أسرة أهل آدب. (م. م) ص: 40