إعلان

شيء يتسمَّى الإدارة العمومية/ الدهماء ريم

أحد, 11/04/2018 - 21:47
لوحة تجسد ملامح الدفء والقوة (للفنانة التشكيلية الإماراتية فاطمة الحوسني)

 

بدأت تجربتي الإدارية بالتَّسكع في التجاويف والحفر الواقعة تحت السُّلَّم الإداري..، أحْمل حماسًا جامحًا، وقد كنتُ في فن الإدارة طفلة، إذْ لم أظهر بعد على عوراتها،.. أمضيتُ فترة في إدارة ترقية المرأة، أتثاءب و أترجى الزمن أن ينقضي، وانساق في فضول استمع لقصص مجترة من زملائي الجدد، .. خليط أجناس مرتاح منذ سنين للتهميش والضَّجر،..في لباس هو تعبير عن آخر سوء الذَّوق.. وأحذية مُعفَّرة بغبار "اتروكَيج".

يَستهلُّ الزُّملاء يومهم بنيران الاذلال، يفتحها عليهم الفراش، وهو يتوعَّد بالحرمان من الفطور كل من أطال المقام في "الكرنه"،.. يكون شرسًا في وسط الشهر، أيام الرَّمادة، ثم ينقلب دبلوماسيا في الخمس الأواخر ترقُّبًا منه لهلال الرّاتب، .. تغالب أغلب الزميلات من أطر أسفل السُّلم بؤسا لاذعا، تشي به ملامحهن،.. مثلا، حين يمارسن التَّرف، يدفعن بخبزة الى صاحب المشوي المُجاور لطَلْيها ببعض المرق مقابل مئة أوقية قديمة، .. لا قبل لهُنَّ بشراء المشوي، فذلك يتجاوزُ الأماني الى التَّماس مع النَّعائم، والمرق يمنحُهُن إحساسًا وهميًّا "بالطَّوْجين"،.. كنت أتأمَّل الخبز المُشْبَع بالدسم الضَّار يعبر من أفواههن في ومضة، ليقيم على راحته بقية العمر فوق الأرداف والأثداء.. والمفارقة أنه صباح اليوم الموالي قد يُنعشن برنامجًا في الإذاعة يُنَظِّرن فيه للصحة الغذائية والرشاقة والتدبير المنزلي!

لاح لي فجر المهمة الأولى .. استدعتني مديرتي رفيعة التهذيب لانتظارها في مكتبها(حراسة)، وما إن توارت حتى انقضضتُ على المكتب المُتبعثر، وبعد ساعة جعلته يشعُّ نظافة وترتيبًا، حتى الهاتف الثابت كشطتُ ما عليه من اللطخات السّوداء بأظافري، كانت تلك أول مهمة تُسندُ "للإطار الجديد"، فترجمتها بامتياز إلى درسٍ من التَّزلف الصَّامت، مع وسائل الإيضاح،.. سُرّت المديرة، وتبوأتُ عن استحقاق - في لاحق الأيام - وظيفة الحارس المُياوِم لمكتبها،.. ثم ترقيتُ بسرعة إلى متابعةِ ملفات الإدارة على حسابي (انفق على الدولة)،.. كنتُ أطوي الأرض في اللظى والمطر، وأجفِّفُ أوْهامي على حبال الأحلام المُؤجَّلة، لأثبت في حماسٍ أن وجود "اشويبه اجديده" جدوائية إدارية!،.. لا توجد سيارة للخدمة، وبقية السَّيارات من نصيب الكبار... 
في ذلك الطور من السُّخرة، قد استثني إعداد الشاي، لا أكثر، وما بقي من مهام ما تحت السلم الإداري كنت بها زعيمة! ، ..الطِّباعة، اعداد التَّصورات، المحاضر، التقارير،.. ثم .. عليَّ أن أوقعها باسم مديرتي أو مدير الديوان! .. فاسمي الهزيل إداريًّا لا يستحق النقش على عصارة عملي.. يحترق صغار الموظفين في تنظيم الملتقيات والندوات،.. جانبها العضلي والفكري الجاف، أما الجانب المالي المُمْطر فتضاريسه الوعرة لا يسلكها إلا الكبار.. 
يتناحر الصّغار على التقاط رزقهم كيفما اتفق، من فضلات الأنشطة المحلية أو من الدعوات الخارجية التي عافها الكبار.. ضربٌ من العبودية المرذولة بأجر زهيد.

اكتشفتُ تعاسة المُوظَّف الصّغير والمتوسِّط،.. كائن مباح الامتهان!.. يُمارس عليه رئيسه الإداري - الذي قد يصغره علمًا وعطاءً - التَّنمر والخشونة اللغوية ،.. ثم يكتفى الموظف المهان بالتذمر المخنوق واختلاق الأعذار.. يكره وظيفته ولا يستغني عنها.. يبذل الحد الأدنى من الجهد .. ويُحَمِّل الإدارة مؤونة تعاسته بذرائع لا تنتهي، ولا تنتهي الحاجة الى سدِّها... ثم يمارس هُوَّ بدوره الازدراء والتَّغافل على المواطن الذي يتوسَّل حقوقه على حافة مكتبه ويتمعَّن في تحسيسه بالاغتراب عن الإدارة.

عجزتُ عن تنمية مساحة كبيرة للتلاقي مع بعض فنون الإدارة التي تُبقَّع وجهها بالنفاق والوشاية،.. فهي خبرة جديدة عليَّ تتطلب نصب الشِّباك وتبادل الطعنات في المقاتل بين أقطاب شديدة الكفاءة في الوقيعة، تتنافر وتتناحر على التّوافه.. مع أنهم لأوهَى الأسباب يُمَوْسقون ضحكًا زائفا اتجاه بعضهم.

أما قمة الامتهان الخارجة عن الطَّور ، فقد عشناها في آدميتنا!.. عاشت الوزارة في بداياتها حالة تشّرد فريدة، فقد انتسبتُ إليها وهي بمكاتب الوزارة الأولى، وكانت ثلاثة مكاتب بلا مراحيض! ، 
بعد فترة تم إبعادنا إلى ملحق مجاور لمكاتب الصّندوق الوطني للضمان الاجتماعي.. ولكنه أيضا بلا مراحيض!.. تملقنا السكان الأصليين للصندوق سبيلا للوصول إلى مفاتيح مراحيضهم المغلقة والمروية بالغثيان، ونجحنا.. ثم وبعد سنتين هُجِّرنا إلى عمارة "النصر- اسمار"، في مكاتب متنافرة وأيضا بلا مراحيض!.. نظعن و ننيخ، .. ويركض معنا نحس المراحيض من بناية لأخرى، فحيث ما حللنا تَشمُتُ بنا العواذل وقد أصبحنا بامتياز من "ذوات الحاجات الخاصة"،.. تسولنا من جديد لدى جارتنا مفوضية الأمن الغذائي، .. لكن المفوضية مؤصدة، فهي تُقسم الأرزاق ، وتُسيِّر ما هو أهمّ من استلام نفاياتنا،.. 
ثم شُرِّدنا من جديد الى بناية من " افُّكُّداي" الاستقلال، كانت تستغلها "آسَكْنَا"..، لها مرحاض يتيم لم نفرح به كثيرا.. فقد كان من نصيب "الشيخه لكبيره". فلا يليق بمعاليها " اتْشَوْتِ المِتْوشوش" على طريقتنا، .. مددنا يد الحاجة لإدارة عقارات وأملاك الدولة، في الطرف الآخر من الشارع، مراحيض زلقة يُسَيِّرُها فرّاش مُتمرِّس على طريقة "لعْجَام"، ويزاحمنا عليها جيش من سماسرة القطع الأرضية يحتل ظل الأشجار المجاورة، .. كانت الزائرة مِنَّا للمرحاض مَهْمَا كان استعجال "حالتها" وتحمُّس أحشائها للاستفراغ، وقد كان مِنَّا الحوامل ومِنَّا دون ذلك ممّن يتبارى الفقر والمرض للظَّفرِ بهن ،.. لا بد أن تخضع "الزبونة" لاستجواب الفرَّاش ليقدّر حجم الحُمولة ونوعها قبل أن يُجَمرك و يأذن بالإنزال.. يَرْمقها شزرًا، ومن بين شفتين كمِشْفرَيْ بعيرِ يسألها: ما ذا ستفعلين في المرحاض، "صغيره ولّاااا كبيره"؟.. وبعد البوح المُهين، تتحدّد قيمة الدّفع 50 أو 100 أوقية قديمة حسب نوع التَّلويث!. .. هذا نموذج من التّقصير العام في أبسط الحقوق الآدمية للموظف العمومي المقهور.

كبرى سقطات الإدارة الموريتانية اهمال الكادر البشري القاعدي، كما أَنَّ صُنع القرار في الإدارة يُبنى على الأهواء واجتهادات الأمزجة الشَّخصية.... تُمنح المسؤوليات وتحتجز الصَّلاحيات للمتنفذ فقط، وإن بغير وجه حق... و تَحُولُ ضآلة الإمكانيات دون تعاظم العطاء.

ما لم نُصلح حال الموظف الصَّغير، الجالس على ارجوحة البؤس، تقذفه مرة للأعلى ومرة الى الأسفل، فلا يهُمُّ مَا إذا كان الوزير الأول من أهل لعيون، أو من أهل النّعمه، أو من أهل ....