في ذكرى "ديمي".. أيقونة الغناء الموريتاني... "ملف"

خميس, 06/04/2020 - 14:53
الصورة جانب من صورة فنية نشرتها الكاتبة "الدهماء ريم"

ديمي وسدوم والشاعر نزار قباني

 

 

مباركة بنت البراء

 

 

في تاريخ الأدب العربي يرتبط ذكر الشعر أيما ارتباط بالغناء، رغم أن للشعر زخمه المشهود منذ العهد الجاهلي، وله حضوره في المحافل والمجالس، وللشاعر مكانته وهيبته بين القبائل، وفي بلاطات الملوك والساسة وقواد الجند.

ولا مراء في تأثير الشعر وسلطانه على القلوب، ولا جدال في أنه ظل ردحا من الزمن يمثل واجهة إعلامية مكينةً، ترفعُ من ترفعُ، وتضعُ من تضعُ، وتُروِّجُ لما ارتضاه الشاعر وجهةً؛ وتبقى آثارها ماثلةً مدى الأيام، متداولةً بين الرواة والمتلقين؛ ولذا ظل لسانُ الشاعر مخوفا ومرهوبا لدى الخاصة والعامة.

غير أن تأثير الشعر لم يكن يرجع إلى جمال الأسلوب، ونصاعة المعجم وجرْس القافية، بقدر ما كان يرجع إلى طريقةِ الإلقاء في المحافل، أو التغنِّي به على ألسنة المنشدين والملحنين.

وتُشير كتب تاريخ الأدب إلى وقفاتٍ جميلة للغناء مع الشعر؛ حيث يُرَوِّجُ له، ويزيد من ذُيوعه وانتشاره بين الناس.

من ذلك ما يروى؛ أن تاجرا يمنيا جلب إلى المدينة المنورة تجارته من الخُمُـرِ السُّود، وعَرَضَها في السوق، وفي البيوتات، فلم تلقَ رواجا، فقد شاعت في المدينة وقتها موضة الخمُر الملونة، فحزن الشاعر اليمني، ونفِدت عُدَّتُه من الزاد، فلجأ إلى مسجد الرسول الأعظم، ليقضيَ فيه ليلته وقد أخذ منه الهمُّ كل مأخذ.

ويلتقي التاجر بالمسجد الشاعر المعروف: (الدارمي) الذي اعتزل الشعر، وآلى على نفسه أن يتفرغ لعبادة ربِّه، ويُنِيبَ إِلَيه بعد تَعَاطٍ لِلَّهْوِ والمجونِ، فيسأله الدارمي عن شأنه، فيخبره التاجر بما صار معه من كساد الخمر، والرجوع بخفي حنين من سَفْرَتِهِ هذه؛ وعندها تدرك الشاعر رأفة بالغريب، فيقول له:

سأنظم لك أبياتا ، أرجو أن يكون فيها حل لمشكلتك؛ فاذهب بها إلى (عزة الميلاء) وقل لها إنها من عندي، وأريدها أنْ تغنيها.

ولم يلبث التاجر أن سار يشقُّ أزقة المدينة والأمل يحدوه، حتى وصل إلى منزل المغنية (عزة الميلاء)، والتي كان مجلسها يضم عِلْيَةَ القوم وأبناء الطبقة الأرستقراطية في مجتمع المدينة آنذاك، فبلَّغها تحية الدارمي، وأعطاها أبياته، وكم كانت فرحتها بعودة الدارمي إلى سابق عهده؛ من قول للشعر، وحضور لمجالس الطرب؛ فغنت الأبيات المعروفة لتوها:

قل للمليحة في الخمار الأسودِ @@ ماذا صـنعـتِ بـزاهــد مـتعـبـدِ @

قـد كـان شـمَّر لـلصلاة ثـيـابه @@ حتى وقـفـتِ لـه ببـاب المسجـد@

رُدي عـليه صـلاته وصيـامه @@ لا تـقْـتُـلِـيـهِ بـحقِّ ديـنِ محـمــد @

وانتشرت الأبيات في المدينة، بعد أن غنتها (عزة الميلاء)، فشاع وذاع أن الشاعر المتنسك (الدارمي) فتنته صاحبة الخمار الأسود؛ فرجع سيرته الأولى.

وباكرت الغواني بكور الطير الأسواق يبحثن عن الخمر السود، ووجد اليمني عروضا مغرية لتجارته التي ربحت ربحا مضاعفا؛ وبحث الشعراء والمغنون عن الدارمي فوجدوا أنه ما زال على عبادته ونسكه.

ولعل الأمثلة عديدة على ترويج الغناء الشعر، ولكن أكثرها نصاعةً هو ذيوع قصائد نزار قباني في الأوساط الاجتماعية الموريتانية.

فمنذ أواخر السبعينات من القرن الماضي؛ غنى الثنائيُّ الفني (ديمي وسدوم) أجمل قصائد نزار، وشاعت أشرطة الغناء في عواصم الولايات، وفي القرى والأرياف، ولدى المسنين والصغار.

لقد غنيا له الكثير؛ وهل هناك من لم يحفظ من خلال أشرطتهما قصيدته (غرناطة) التي يبكي فيها الأندلس؛ الفردوس المفقود:

في مدخـل الحـمـراء كان لقاؤنا @@ ما أطيــب اللـقــيــا بــلا مـيـعـــاد@

عينـان سوداوان في حجريهمـا @@ تتـوالــد الأبــعـــــاد مـن أبـعــــاد @

هـل أنـت إسبانـيـة ؟ ساءلـتهـا @@ قـالــت: وفي غـرناطــةٍ مـيــلادي@

و قصيدته ( ماذا أقول له؟)

مـاذا أقـول له لـو جـاء يسألـني@@ إن كنـت أكـرهه أم كنـت أهـواه؟ @

مـاذا أقـول إذا راحــت أنامـلـه @@ تلملـم الليل عن شَعْـرِي وترعاه؟ @

غـدا إذا جـاء أعـطيـه رسائلـه @@ ونطعـم النـار أحـلـى ما كـتـبـنـاه @

و قصيته (ترصيع بالذهب على سيف دمشقي)

أتــــراها تحـبـني مـيـــســــون @@ أم توهـمـت؟ والنســـاء ظنــون @

يا ابنـة العـم والهـــوى أمـــوي@@ كيف أخفي الهوى؟ وكيف أبين؟@

هل مرايا دمشق تعرف وجهي@@ من جديد، أم غيـرتني السنيـن؟ @

والقائمة تطول...

لم يأت سدوم وديمي بدعا من الأمر في اختيار كلمات نزار قباني مادة لغنائهما؛ فقد سبقهما إلى ذلك فنانون عرب مرموقون؛ كمحمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، ونجاة الصغيرة، ولحق بهما كُـثُـرٌ مثل: ميادة الحناوي، وكاظم الساهر...

فهل يا ترى كان الفنانان (ديمي وسدوم ) هما من أوصل شعر نزار قباني إلى الموريتانيين؟ خاصة وأن فرص المطالعة كانت محدودة وقتها، ودواوين الشاعر لم تكن متوفرة بحيث يقرؤها العامة؟

ثم هل كان من رددوا مع ديمي: (حبيبتي إن يسألوك عني@@ يوما فلا تفكري كثيرا)

كلهم قراء يعرفون أن يتهجوا ما تسطره الأقلام؟

لقد دخل شعر نزار الخيم البدوية، والأعرشة الريفية، وتغنى به الرعاة سائرين خلف قطعانهم، وردده العمال اليدويون وهم يواجهون حر الشمس وعَـنَـتَ السَّمُومِ، وشَدَا به الصبية وهم يلعـبون الطابة في الشوارع.

أعتقد أن الشاعر العظيم (نزار قباني) مدينٌ لهذين الفنانين الكبيرين بكل ذلك الذيوع والانتشار في هذه البلاد، والذي جعل منه أيقونة فنية تُحتذى؛ فقلما هم شاعر معاصر أن يكتب إلا واستدعى له صورا أو عبارات أو أساليب.

 

 

تَرَفُ الأماني مشروع!

 

 

الدهماء ريم

 

 

أطالع أحيانا بعض التَّكريم هنا في قاعات بائسة، بإضاءة باهتة، وجمهور قليل يتثاءب ملَلًا لشخصيات ناصعة، مُلهمة.، هاجس حياتها الإبداع و توزيع عطاءات القرائح من غير منَّة .. ويَسْتَحِرُّ قلبي.. الى أيِّ مدى اسْتولت العدميَّة في حياتنا على ما سواها؟

.............

تحل اليوم الذكرى التاسعة لرحيل فقيدة الإحساس ديم بنت آب، وما زلتُ أمني النفس بتكريم خاص لذكراها:

ديمِ من أجمل عناوين الحياة في هذه الأرض، وكان صوتها رديفا لكل آهة صادقة، لكل شيء جميل.. ومَا كانت مفاتن "ريشة الفن" ولا النّزاريات، ولا حتَّى كلاسيكيات أهل آدُبَّ لتبرز ولم يُعضِّدها ذلك الصَّوت، تلك الملكة الرَّبانية...

زُرتها في بيتها مع زميل نلتمس تعاونًا، بادرتْ إلى إكرامنا بكل شيء، حتى.. بصوتها، اعتذرتُ لشُحِّ الوقت،.. انفجرت ضاحكة و أشارت لزميلي: من أي كوكب هذه؟، رميتُ ورائي حزمة الالتزامات، فقد خيشتُ أن أندم العمرَ إنْ أنا ضَيَّعتُ العَرضَ،... وأنصتُّ بجوارحي لمن تَديَّرَتْ قلبي، لصوتٍ لن يتكرَّر ومُحال أن يُستنسخ في كائنٍ آخر.

قال لي زميلي المسؤول بحسرة: كُنَّا نلوذُ ببيتها في المغرب من مخمصة الحيِّ الجامعي،.. و بيتها في وطنها بالإيجار، ... سيقول قائل: كيف ؟ .. وهي الأكثر مالاً والأعزّ نَفرًا، حتما عن تبذير أو سوء تدبير.. سأقولُ: بل عنْ جُودٍ!... وهيَّ التي أنفقتْ بطاقةٍ سِعتُها موريتانيا وما جاورها ولم تراع فارق الألوان ولا الأنساب.

يوم وفاتها... سمعتُ دويًّا هائلاً في وجداني، رجعُ صدَى لسقوط قيمة وطنية،.. كأنَّ قطار المنجم ابتلعته الأرض، أو أنَّ مئذنة شنقيط هوت من عليائها.

.............

وأمني النفس بتكريم خاص لأحمدُّ ولد عبد القادر وهو على قيد الحياة:

احمدُّ، الحائز على كل مَلكَات الإبداع وكينونة الأفعال، ومعه بلغت الكلمة الوطنية مُرادها،.. جمعتنا جيرة عمل ذات وقت، وكانت له أكثر من صورة منطبعة في ذهني،..

كان النَّادل عليّ يمرُّ على المكاتب يستوْضح أصحابها عن طلباتهم: قهوة؟، شاي؟، قنينة من الشافي، من الصافي؟.. وحين يأتي الدور على الشاعر الرمز، يجيب ضاحكا مسترخيا: يا علي، قنينة من الكافي (ماء الحنفية)!، فيرد النادل المتعوِّد على الجواب بضحكة أعلى منها، كان فاقدًا للشَّهية النَّفعية،..

وكنتُ أصاب بخدرٍ في الضمير و أنا أراني وبقية زملائي من محدودي الدَّخل العلمي وعديمي الإنتاج الثقافي نتقاذف بالشَّافي والصَّافي وطَيْبة، بعضنا عن مقدرة وبعضنا عن مُكابرة،.. ولسنا بقدر الشاعر ولا مقداره،.. وهو من شرب من أجلنا كأس العناء وسقانا وعيًا و دراية، ورواية من رحيق الصحراء،... وهو من اقتبس لنا من جَمال الله جَمالاً وأهداه لنا شعرا ونثرا.

كانت تتسلَّطني الرغبة في تأمل بعض تفاصيل يومه معنا عن بُعد، واستعينُ بما اختَزنَ في ذاكرتي مما قرأتُ عنه أوْ لهُ لإسقاطه على تلك التفاصيل،.. فلا أرى غير نبضٍ شديد التناغم بين ماضي الرَّجل النِّضالي ورصيده الزَّاهد في البهرجة وحاضره القنوع... القنوع وقد استدار العمر...شفاه الله وعافاه.

.............

وأمنِّي النَّفس بتكريم غيرهم..

حرام أن يتوارى هذا المجهود، ... فزُهدُ هؤلاء في التَّكريم من مُنطلق قناعاتهم بأن لا شكر على واجبٍ وطنيٍّ أو علميٍّ، لا يُبرِّرُ زُهدنا نحن في تكريم مَنْ مَدُّوا جسور الاتصال بين عقولنا وقلوبنا، وغذوا أحاسيسنا...

حُقَّ للعقل أن يَنبهر بالعلم التطبيقي وقد قفز بالبشرية بشكل مُذهل،... لكن الرُّوحَ تميل للأدب وترقص على مراقيه.. ولذلك كان أغلب التكريم عالميا لأهل الأدب والفن وصُنِّاع الجمال اللاّمادي،...

لو كان لي من الأمر شيء، لأفردت للأحياء منهم رواتب تفرُّغٍ مُجزية، فما خُلقوا للكد و التحصيل مثلنا، وليس من العدل مطالبتهم بالتَّصوف المادي في مواجهة مشقَّات الحياة،.. والمال ليس عدوًّا للإبداع، بل قد يكون مُحفزا، فلولا خمسون جنيها لوَّحت بها دار انتاج لندنيّة أمام بتهوفن ما وضع السنفونية التاسعة.

إذا لم نُكْرمهم، ونُكَرِّمَهم، علينا ألاَّ نكون على الأقل أوصياء ظَلَمة على إرثهم الذي لا يُقدَّر بثمن ممَّا نعدُّ من مالنا الرَّخيص.

.......................

للتاريخ كلمة لا بُدَّ أنه قائلها في حقِّهم ... لكن ربما بعد فوات الأوان.

 

 

أيها الغائب الذي في فؤادي..

 

الشيخ محمد المامي

في حقبة الثمانينات و حتى منتصف التسعينات من القرن الماضي تقريبا شهد الفن الموريتاني ثورة حركت الساحة و شكلت شلالا معرفيا لا ينضب، وتيارا أضاء كل البيوت، فمن لا يمكنه أن يكمل البيت!
تجلت لوحدانية الحق.. أو: أعلمت من ركب البراق.. أو: وبت ترقى إلى أن نلت.. أو: فؤادي بربع الظاعنين.. أو: إذا عهدوا فليس.. أو: أمن تذكر أهل البان.. أو: أيها الغائب الذي في فؤادي.. أو: أعد الوداع فما.. أو: به فأستنر إن تنتهض.. أو: لكل خطب مهم.. رفاقي الظاعنين.. قد أيقظت دمن قفر.. تجمعن من شتى ثلاثا.. إذا تصفحت يوما يا بنفسجتي.. إلي أكتبي ما شئت.. في مدخل الحمراء.. أتراها تحبني.. أخبروني بأن حسناء.. عرفتك من عامين.. للمرة العشرين كررتها.. أتحبيني بعد الذي.. لإن جدت بالمطلوب من...إلخ
كل هذا الكم الهائل المتراكم من الشعر لم نسطره في دفاتر ولم ندرسه في المدارس او المحاظر ولم نتتلمذ فيه على غير "إيگاون" و أشرطة تلك الحقبة الجميلة.
هذا الرصيد العلمي الكبير و هذا الحقل المعرفي الوارف الظلال المليء بالمشاعر فضلا عن مكارم اﻷخلاق و الموعظة و اﻷدب و الذي نهل منه المجتمع البيظاني بجميع مكوناته، بدأ يضمحل شيئا فشيئا عندما وصفنا تلك اﻷشرطة الجميلة ب "أبناض الغساله" و منذ ذلك الحين إختفت الثقافة اﻷصيلة المحفورة في اﻷذهان و التي لاتحتاج إلى محركات البحث، تلك الثقافة التي تجمعنا و توحدنا بمختلف أطيافنا و بمختلف مستوياتنا و بآلامنا و آمالنا بأفراحنا و اتراحنا..
ليتنا نشهد طفرة في فنانينا المحترمين ليجدودوا دورهم في تثقيف المجتمع و صقل ذائقته الصدئة، أو على اﻷقل لينتنا نرجع "ﻷبناض الغسالة".
تحياتي

 

السراج تستعيد إرشيف وداع الفنانة ديمي منت آبه في الذكري التاسعة لرحيلها (صور)

 

قبل تسع سنوات رحلت فنانة موريتانيا الشهيرة ديمي بنت سداتي ولد آبه بعد وعكة صحية طارئة ألمت به في المملكة المغربية دخلت بعدها العناية المركزة ثم رحلت يوم السبت 4 يونيو 2011

 

تكريم سيداتي ولد آبه وديمي بنت آبه بـ"وسام أبوبكر بن عامر"