إعلان

تشكّل السرديات وتحولاتها.. هل يمكن الحديث عن "سرديات عربية؟"(2/2)

أحد, 11/01/2020 - 20:54

ضفة ثالثة ـ خاص 

 

مع بداية الستينيات، وفي خضم المرحلة البنيوية، تشكّلت في فرنسا نظرية للسّرد عُرفت بالسّرديات أو علم السرد، وجعلت من "السردية" موضوعها الرئيس. هكذا عملت هذه النظرية على تحديد خصائص السرد وقواعده وبنياته أيا كان الوسيط الذي يتحقق به. ولأن إسهام علمائها في افتراع مسارات جديدة لدراسة السّرد، استند إلى رؤية نظرية ومنهجية متماسكة ومختلفة كليا عما كان سائدا قبل هذه الفترة، فقد أمكن لهذه النظرية أن تتنقّل إلى جغرافيات مختلفة، فأصبح من العسير ربطها بأرض واحدة هي تلك التي نمت فيها أول الأمر. وفي الوطن العربي يُمكنُ القول إن السرديات حازت ما تستحقه من الشهرة بسبب تحليلها لبنيات النص السردي وأنساقه الأدبية والثقافية. لقد اشتغل بها عدد من السّرديين الذين حفروا بأعمالهم التي سعت إلى إعادة قراءة السرد العربي أثرا عميقا في الدّرس الأدبي العربي المعاصر. ورغم أنّ البحث الأدبي العربي سيعرف بفضل الدفع الذي وفّرته له السرديات، كيف يعيد تحديد موضوعه وأدواته، فإن ثمة أسئلة يظلّ طرحها ضروريا: هل يمكن الحديث عن "سرديات عربية"؟ متى تشكلت؟ وما هي الأسئلة الأساس التي انطلقت منها؟ وما أثرها في تجديد المعرفة بمفهوم الأدب؟ هل تطورت السّرديات أم انتهت بانتهاء الحقبة البنيوية؟ ما تصورها الجديد للسردية؟ وما هي الوسائط الجديدة التي تهتمّ بها؟ وبأي معنى يمكن وصفها الآن بأنها سرديات ما بعد كلاسيكية؟
للاقتراب من هذا الحقل البحثي المثير للاهتمام في محاولة لإلقاء الضوء على عمليات التطور داخله، وللإجابة عن الأسئلة التي يطرحها على الدّارسين والباحثين المهتمين بالسرد عموما وبالرواية على نحو خاصّ، نقدّم في هذا التحقيق تصورات أربعة من أبرز النقاد المشتغلين بالسرديات، وهم سعيد يقطين (المغرب)، عبد الله إبراهيم (العراق)، محمد الشحات (مصر)، محمد الأمين مولاي إبراهيم (موريتانيا).
هنا الجزء الثاني والأخير.

                                                                                                                                                              (إدريس الخضراوي)

 

 

سرديّات الما بعد: تأمّلات حول النظرية وما بعد الحداثة والنقد الثقافي- 
محمد الشحات (ناقد وأكاديمي مصري، أستاذ مشارك في النقد ونظرية الأدب)

 

-1-
ربما مات الناقد بالمعنى الأكاديمي الذي توقَّف عنده رونان ماكدونالد Ronan McDonald حيث تقلّص دوره وتراجع تأثيره كثيرا. بيد أن ذلك الناقد الذي عُومِل لفترات زمنية طويلة بوصفه شخصا خبيثا شِرّيرا قد "لعب في الحقيقة دورًا مهمًّا في تاريخ الفن والثقافة، وعلينا أن لا نحتفل بموته". لكنّ النظرية لم تمت، لا في مجال النقد الأدبي أو الثقافي، ولا في باقي حقول العلوم الإنسانية، رغم وضعية "التّيه النقدي" التي تعيشها ثقافتنا العربية منذ سنوات بعد الخروج من عباءة البنيوية على الأقل.
من جهة مقابلة، لم تعد النظرية "هنا- الآن" هي ذاتها "النظرية" (بحروف مكبَّرة) التي أُنتِجَتْ ومُورِسَتْ في القرن الماضي. أقصد إلى أن ثمّة تحولات معرفية وفلسفية (باراديجمية) طالت مبنَى النظرية ومعناها؛ أي طالت قاعدتها وأعمدتها وطبقاتها ونوافذها في حقبتي الحداثة Modernism وما بعدها Post-modernism. من هنا، يحقّ لنا أن نتشكّك في معايير النظرية ذاتها التي لخّصها جونثان كولر ببعض الاطمئنان غير المُريح في أربع نقاط هي: 1-  النظرية خطاب معرفي بينيّ.
2- النظرية تحليلية وتأمّلية.
3- النظرية نقد للإدراك المألوف ونقد للمسلّمات.
4- النظرية انعكاسية؛ أي أنها تفكير حول التفكير، سواء في مجال الأدب أو في أية ممارسات خطابية أخرى.

واللافت للنظر أن مُحدّدات كولر السابقة للنظرية تُحيل إلى فضاء حداثي يمتاح في مرجعيته الفلسفية من مفهوم "النصّ" ذاته الذي تشكّل في سياق بنيوي؛ أي بوصفه تجليّا فينومينولوجيا للبنية أو النظام في تصوّر الحداثة للفنون والآداب. أما النظرية منظورا إليها من زاوية ما بعد الحداثة فإنها ترمي إلى استقطاب منظومة مفاهيمية مغايرة تتصل بالأنساق المضمرة وفلسفة التشظّي وتعدّد الوعي أو الوعي المنقسم ولامركزية الدلالة وإرجاء المعنَى وتشتّته. أي أنها سوف ترتبط بـ"اللا بنية" أو الفوضى أو التفكيكية العدميّة، كما ترتبط بالهامش لا المتن، بالثقافات الجماهيرية لا ثقافة النخبة أو الثقافة العُليا. ففي مقابل الثقافة العليا، يوجد "الكيتش Kitsch" الذي يندرج أيضا تحت بند "الثقافة الجماهيرية". والمقصود به الفن الهابط الرخيص المبتذل السطحي الزائف الذي لا يعتمد في انتشاره على أية قيمة فنية أو أدبية ترتبط بتقاليد الفن، بل يعتمد على الحالة الاجتماعية والسياسية والمزاج الاجتماعي والجماهيري الذي هو مزاج استهلاكي محض.

إن النظرية التي تشكّلت ملامحها في فضاء الحداثة Modernism (الذي يُشار به غالبا إلى الكلاسيكية الجديدة Neo-Classical والتنوير Enlightenment الذي يُولي دورًا كبيرًا للعقل أو العقلانية أو السببيّة العلمية، وكل ما يؤثر في فهمنا للظروف البشرية) على أيدي كُتّاب نوعيين ونُخبويين- من أمثال ت. س إليوت وجيمس جويس وإزرا باوند وفرجينيا وولف ومارسيل بروست وغيرهم- قد تمّ تجاوزها زمنيا على أقل تقدير في مسار التأريخ الثقافي لحركة النقد المعاصر في الغرب.
 

 

,,

أصبح رهان الخطاب النقدي الجديد مُنْصَبًّا على ثقافة الناقد نفسه؛ على
أدواته الخاصة ومرجعيّاته وخلفياته الفلسفية ومهاراته اللغوية

,,

لقد انفتحت النظرية الأدبية والنقدية في القرن الواحد والعشرين على دراسات الجنوسة والأنواع البينيّة ودراسات المثليّة والشذوذ الجنسي والنقد البيئي والدراسات الثقافية والتاريخانية الجديدة. ولأن النظرية المعاصرة قد فتحت نوافذها العليا على سماء ما بعد الحداثة التي تُحلّق فيها مقولات إيهاب حسن وفريدريك جيمسون وإدوارد سعيد وفرانسوا ليوتار وجاك بودريار وجاك دريدا وآخرين، فقد تغيّرت من ثمّ ماهية النقد ذاته أو قاعدته المعمارية؛ فغدا ممارسة حرّة للأفكار والثيمات والبِنَى ولعِبًا طليقًا بالدوال والمدلولات بعد أن كان تطبيقا لإجراءات واضحة أو شبه واضحة في نصوص تتضمّنها مقرّرات الطلاب في الجامعات والمعاهد. في هذا السياق، ارتبطت الممارسات النقدية الراهنة (وأغلبها ممارسات قامت على مقاربات سردية بالضرورة) بهموم الأقليات والمهمّشين وخطابات ما بعد الاستعمار ودراسات الهويّة، وغيرها من موضوعات تراهن على قدرة النقد على استيعاب تحولات المجتمع المعاصر وتبدّلات نماذج المعرفة ووسائط الفنون الجديدة، واستعادت الثقافة الشعبية folk-culture بؤرة الضوء من جديد في متن الخطاب النقدي الراهن.

من ثمّ، أصبح رهان الخطاب النقدي الجديد (وكل خطاب ثقافي جديد أو حداثيّ يجب أن يكون طليعيّا Avant-grade بدرجة ما؛ أي ما بعد حداثيّ) مُنْصَبًّا على ثقافة الناقد نفسه؛ على أدواته الخاصة ومرجعيّاته وخلفياته الفلسفية ومهاراته اللغوية وقدرته على صنع مغامرات "هكلبريّة" شتّى من المراوغة واللعب، الظهور والاختباء، المناقشة الحِجَاجيّة وتمرير الخطابات والأنساق المضمرة تمريرا ناعما، حيث يشارك الناقدُ المبدعَ ميراث التقاليد الأدبية والأعراف الثقافية للعصر الذي ينتميان إليه معًا. لنقل بالمعنى المباشر أو السطحي، إنه ليس ثمة موت نهائي أو حاسم للنظرية، ولن يكون؛ إذ لا موت للمنهج أو للنقد وفق هذا التصور الساذج أيضا، بل دورة حياة أخرى من دورات البعث الفينيقيّ المتجدّد، مَفْهَمة جديدة للأشكال والوظائف، تبادل للأدوار في عمليات الخلق والتأثير والتأثّر.

-2-

إن المعرفة والحقيقة والواقع والهوية مفاهيم متغيرة وسياقية وجزئية. لكنّ ما يهمّنا حقا هنا: لماذا تُستدعَى بعض الأحداث دون غيرها؟ وكيف يتمّ رسم بعض الأحداث -دون غيرها- وتشكيلها أو تصديرها على أنها "حقيقية"؟ أو على أنها جزء من "التاريخ" (وتاريخ الأدب -هنا- جزء من التاريخ الثقافي العام)؟ إن ما هو مركزي، أيضا، بالنسبة إلى ما بعد الحداثيين، هو كيف أصبحت "بعض" وجهات النظر "حقيقةً"؟ وكيف يتمّ تكييف المعرفة من قِبَل أجهزة السلطة؟ يريد النقّاد الثقافيون، إذًا- وهم أولئك القادمون من خلفيات ثقافية وأيديولوجية مختلفة، ولا يمثّلون كتلة متجانسة بالضرورة- أن يجعلوا من مصطلح "الثقافة" مصطلحا يشير إلى الثقافة الشعبية Folklore، جنبا إلى جنب إشارته إلى تلك الثقافة التي ترتبط بما ندعوه "الكلاسيكية" أو ثقافة النّخبة. ومن المحتمل أن يكتب النقاد الثقافيون عن "رحلة عبر النجوم"، بينما هم يحلّلون في الوقت ذاته رواية "يوليسيس Ulysses" لجيمس جويس J. Joyce (1882- 1942)؛ لأنهم يريدون تحطيم الحدود الفاصلة بين المستوى العالي أو الراقي والمستوى المنخفض أو المتدنّي. أو بصيغة أخرى، إنهم يريدون تفكيك ونقض التراتب الذي يوحي به هذا التمييز بين المستويين. إنهم يريديون أيضا أن يكشفوا عن الأسباب -السياسية في بعض الأحيان- التي تجعل من منتج ما منتجًا جماليًا أعلى قيمة من غيره.
إن كتابة ناقد ثقافي ما عن الكلاسيكية المبجّلة ربما تركّز على فيلم سينمائي أو حتى مسلسل هزلي، أَو ربما تنظر إلى مثل هذه الأعمال في ضوء بعض الأشكال الأكثر شيوعا لقراءة المادة الفنية. فرواية من تأليف جين أوستن Jane Austen )1775- 1817) إما أن يُنظر إليها في ضوء الرومانسيات القوطية، أو تُقرأ بوصفها دليلا على: "كيف تتصرّف السيدات؟"، وذلك كانعكاس لبعض الأساطير أو الاهتمامات الثقافية المشتركة. كما أن قصة شهيرة، كنا نقرؤها ونحن صغار، مثل "مغامرات هكلبري فين" The Adventures of Huckleberry Finn لمارك توين M. Twain ) 1835- 1910) يمكن رؤيتها على أنها انعكاس أو تشكيل للأساطير الأميركية حول مفهوم "العرق"، وما يتصل بجنوح الصبيان وإهمالهم، أو بوصفها مثالا دالا على الكيفية التي ترجع بها النصوص إلى الوراء، صاعدا فصاعدا، حتى ملامسة الحدّ المزعوم بين "الثقافة المتدنّية" و"الثقافة الراقية". إن واحدةً من مسرحيات شكسبير W. Shakespeare )1564- 1616) التاريخية، ربما بدأت بوصفها عملا شعبيا استمتع به الكثيرون من أبناء الطبقات العاملة، قد تصبح لاحقا -كما يذكر بعض النقاد الثقافيين- "عملا مسرحيا مثقّفا"، يتمتع به فحسب أصحاب الامتيازات النخبوية والفئة المتعلّمة.

 

-3-

بالطبع، في خضمّ هذه التحولات التي تجمع السرديات إلى فضاء النظرية المعاصرة وما بعد الحداثة يحقّ لنا الحديث عن "سرديّات عربية". أقصد إلى تراكم الوعي النقدي العربي الذي اشتغل به عدد كبير من النقّاد والباحثين العرب، منذ تسعينيات القرن الماضي، بغية إجراء مقاربات منهجية مختلفة لنصوص الأدب العربي. وهو ما أنتج تراكما نظريا وأداتيا واضحا لديهم، سواء تمثّل في مقاربات ذات مرجعيات بنيوية أو سيميولوجية أو (مؤخرا) ثقافية أو غيرها. لكني أتصوّر أن الرهان الأكبر الذي سيواجه المشتغلين بالسرديات العربية في السنوات القادمة هو مدى استيعاب أجهزتهم النقدية دقّة التحوّلات المعرفية الحادّة التي تمرّ بها العلوم الإنسانية في العالم، وتحوّلات مذاهب النقد الأدبي وتيّاراته ومرجعيّاته الفكرية الأكثر حدّة وتسارعا.
ولا أرى الناقد العربي المعاصر إلا مُطالبًا بمتابعة موضوعية دقيقة للنصوص العربية الجديدة أولا، ومطالبا بمتابعة تحولات مفاهيم السرديات العالمية ونظرياتها والإسهام فيها ضمن الفضاء العام لحركة النقد العالمي ثانيا، ثم مواكبة الحركات الاجتماعية والثقافية والسياسية من حولنا التي تشتبك مع السرديات العربية بأشكال شتى من التفاعل والتناصّ والحواريّة.
الرهان الأكبر الذي سيواجه المشتغلين بالسرديات العربية في السنوات القادمة هو مدى استيعاب أجهزتهم النقدية دقّة التحوّلات المعرفية الحادّة التي تمرّ بها العلوم الإنسانية في العالم، وتحوّلات مذاهب
النقد الأدبي وتيّاراته ومرجعيّاته الفكرية الأكثر حدّة وتسارعا.

باختصار، لا يمكن الزعم ببساطة بموت السرديات البنيوية بين عشيّة وضُحاها، كما لا يمكن في الوقت ذاته الزعم ببقائها على صورتها الأولى التي بزغت إلى الوجود منذ الستينيات الأوروبية. لكنّ بقاءها - كبقاء أية نظرية معرفية- مرهون بمرونتها وصمودها وقدرتها على التحول والاندماج بنسب متفاوتة سواء مع السرديات السيميولوجية أو السرديات الثقافية أو السرديات الرقمية. في فضاء ما بعد الحداثة، ليس ثمة ثوابت جامدة، ولا كيانات مستقلة، ولا هويّات نقيّة. الهُجنة هي مفتاح العصر القادم. والسرديّات الجديدة، أو سرديّات الما بعد (ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، ما بعد الكولونيالية، ما بعد الماركسية، ما بعد الفرويدية، ما بعد النسوية.. إلخ) ربما تكون هي "باراديجم" الزمن الآتي.

 

السرديات في التجربة العربية: قضايا النظرية وأسئلة المنهج-
محمد الأمين ولد مولاي إبراهيم (أستاذ السرديات، مدير مدرسة الدكتوراه
بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة نواكشوط العصرية)

 

تأخذ السرديات  Narratologie اليوم، في الفكر الأدبي العربي، صياغات نظرية ومنهجية ذات مكانة علمية ملحوظة، أدت إليها التراكمات النظرية والمنهجية التي عرفت النظرية الأدبية المعاصرة، وآلت إليها التحولات  النقدية والإبدالات المنهجية، في التجربة العربية على يد جيل الرواد من السرديين العرب، في انتقالها من النقد البنيوي للسرد إلى السرديات في الربع الأخير من القرن العشرين. ومع أن انشغال مدرسي السرديات بقضايا تجذيرها في التجربة العربية، واشتغالهم بأسئلتها المنهجية والإجرائية، قد أدى إلى تراكمات نظرية ومنهجية اضطلعت بها ثلاثة أجيال من مدرسيها، جعلت البيئات العلمية العربية تسهم من موقعها العلمي في تدعيم سلطتها، وتفعيل قدرتها على إنتاج المعرفة، فالسرديات في التجربة العربية اليوم، تسهم من موقعها في إشاعة المحتوى العلمي للسرديات، وتحسن من كفاءة أدواتها المنهجية في وصف السردية، بما تقدمه من تصورات نظرية ومنهجية، ومن تحقق القدرة على اختبار الأطروحة وتطبيقاتها المنهجية على مدونة السرد العربي وأشكاله القديمة والحديثة، وفي انشغالها بالكشف عن خصوصيات ثقافية وسردية ثاوية في النص العربي، على نحو ما نجده اليوم في المتداول العلمي في الدوريات العلمية المتخصصة والأطاريح العلمية المنشورة.
ولئن عرفت السرديات في التجربة العربية مستويات من الوعي شملت النظرية وأدواتها، عمقها تعاقب ثلاثة أجيال من السرديين العرب منذ تسعينيات القرن الماضي، فإن المبصر لحركة الفكر النقدي فيها يلحظ هذا التطور التدريجي في استيعاب قضايا النظرية وأسئلة المنهج، لدى منشغلين بأطروحتها ومشتغلين بتطبيقاتها، فقد كان للمهاد النظري العميق والواعي، الذي أسس له جيل الرواد من السرديين العرب منذ ثمانينيات القرن الماضي، في حوارهم مع نقاد السرد البنيوي، في قاعات الدرس الجامعي وصفحات الكتاب النقدي والجامعي ـــــ دوره البارز في إشاعة وعي نقدي متزايد بالسرديات وتطبيقاتها، ما فتئ يتعزز بانضمام الكثيرين من الطلاب الباحثين الشباب حينها، لهذا الفكر الأدبي الجديد الصاعد، والتتلمذ على رواده بالجلوس إليهم، أو قراءة كتبهم ومتابعة تصوراتهم والانخراط في مشاريعهم العلمية.

السرديات العربية وتحولات المشغل: تعاقب الأجيال

يمكن أن نصف مسار تشكل السرديات في التجربة العربية وتحولاتها النظرية والمنهجية من خلال ثلاث لحظات امتدت من نهاية ثمانينيات القرن الماضي إلى اليوم، كان في كل عشر سنوات منها، يظهر جيل من المشتغلين بها المتبنين لفكرها، والمتمكنين من أدواتها، والمنخرطين في المشروع العلمي لأصحابها. ومن الملاحظ في حركة تطور نظرية السرديات في التجربة العربية، أن هذا التشكل، كان دائما مرتبطا بصدور كتاب أو كتب والالتفاف حول النظرية أو الأدوات التي تقدم، ذلك أن ظهور السرديات في التجربة العربية كان إلى حد كبير نتيجة لقوة تأثير مشاريع روادها العلمية من أمثال الأساتذة توفيق بكار ومحمود طرشونة وعبد الله إبراهيم ومحسن جاسم الموسوي وسيزا قاسم ومحمد برادة وأحمد اليبوري ومحمد القاضي وسعيد يقطين وغيرهم، وقدرة أصحابها على تطويرها والتمسك بها. ولرصد مظاهر تشكل السرديات في التجربة العربية وتطور مسارها، سنتخذ هنا من مشروع الدكتور سعيد يقطين عينة على ذلك، لملاحظة قوة تأثير إسهام مشروعه في ظهور السرديات في التجربة العربية وتطورها. فقد ساهمت كتب الدكتور يقطين في تأسيس الوعي النقدي بالسرديات في التجربة العربية، وكان ظهورها في كل مرة العلامة المؤشرة على التحول من لحظة لأخرى، والدالة على ظهور جيل جديد ذي مشغل علمي مختلف عن سابقه. فقد دخلت المتداول العلمي العربي نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وساهمت في صياغة الفكر النقدي والمنهجي للجيل الأول من مدرسي السرديات في البيئات العلمية العربية.

فقد خصص يقطين كتاب "تحليل الخطاب الروائي: الزمن، السرد، التبئير"، منشورات المركز الثقافي العربي ببيروت 1989، لأطروحة السرديات الكلاسيكية وأدواتها، متخذا من سردية الرواية العربية موضوعا للسرديات الوصفية في الكتاب. فكانت مقدماته النظرية والمنهجية التي خص بها كل مكون من مكونات الخطاب السردي، ووصفه لطرائق اشتغال هذه المكونات (الزمن ، الصيغة، التبئير) في تحقيقها لسردية الخطاب ومآتي الحسن والامتناع فيه، المحتوى العلمي العميق لأطروحة "السرديات الكلاسيكية" في أبعادها النظرية والتطبيقية. كما كان كتابه الثاني "انفتاح النص الروائي"، منشورات المركز الثقافي العربي ببيروت 1989، مخصصا لأطروحة سرديات ما بعد الكلاسيكية، فقد بسط فيه تصوره لتوسيع السرديات، تعميقا منه لمدارك نظرية ومنهجية، خرج بها السرديون الجدد في التجربة الغربية عن طرح "السرديات الحصرية"، وحملها سؤال المراجعة والتنظير في ثمانينيات القرن الماضي، ولأن يقطين كان مدركا، حينها، لراهن تطور السرديات في بيئاتها العلمية، واعيا بالتحولات النظرية والمنهجية، التي أدت إليها مراجعات السرديين الجدد في التجربة الغربية، ولأن الكتابين مثلا مادة للتداول العلمي النشط للسرديات الحصرية والتوسيعية، قدم خلالهما محتوى علميا ظل قائما في أذهان جيل التسعينيات، فان هذا المحتوى سيتعمق أكثر، بإصداره  لكتابين آخرين مؤسسين (1996) هما "الكلام والخبر: مقدمة في السرد العربي" وكتاب "قال الراوي" ليستكمل في الأول ملامح أطروحة السرديات في أبعادها النظرية والمنهجية، ويجذر في الثاني تطبيقاتها في التجربة العربية على النص التراثي هذه المرة، وهما الكتابان اللذان سيشكلان في السرديات في التجربة العربية لحظة ثانية من تمثل الأطروحة، تتعمق معها المدارك النظرية بجيل ثان من السرديين العرب، انشغل أصحابه في العقد الأول من هذا القرن بالسرديات التطبيقية، وحذقوا أدواتها، وامتلكوا ذهنيتها النقدية، فكانوا بذلك الجيل الأول من أحفاد جيل الرواد.

 

,,

لئن حققت السرديات في التجربة العربية ما حققت، فإن أولويات البحث
في سرديات ما بعد الكلاسيكية اليوم ـــ في نظرناــ تظل
الانشغال بأدبية الخطاب السردي، ومصادر السردية
فيه، تعميقا لمدارك الشعرية

,,

 

غير أن صدور كتابين جديدين للدكتور سعيد يقطين يطرحان قضايا السرديات في التجربة العربية وقضايا الفكر النقدي العربي عامة من منظور علم الأدب، ويحملان قلق السؤال المنهجي في الفكر النقدي العربي، هما كتاب "السرديات والتحليل السردي" وكتاب "الفكر الأدبي العربي"، سيعجلان بولادة قيصرية للجيل الثالث من السرديين العرب، مع مطلع العقد الثاني من القرن العشرين، لما أثاره الكتابان من قضايا الفكر النقدي العربي، وطرحاه من أسئلة نقدية، هي اليوم راهن المتداول العلمي في البيئات العلمية العربية، والشغل الشاغل لعلماء الأدب، والسرديين الجدد في التجربة العربية، وهي قضايا وأسئلة تواجه الدرس النقدي الأدبي عامة والدرس السردي منه خاصة في وحدات التكوين العليا (الماستر الدكتوراه) ومراكز البحث ومخابره، تتصل بتجذير الفكر الأدبي العربي في الفكر العلمي، بما يكفل ممارسة نقدية، هي إلى علم الأدب وتطبيقاته أدخل منها إلى النقد الأدبي، وتتعلق بانشغال السرديين العرب الجدد بالقضايا النظرية للسرديات والتحسين من كفاءتها المنهجية في الإمساك بالسردية والكشف عن مآتي الحسن ومصادر الإمتاع والمؤانسة فيها، واكتشاف مناطق ثاوية في النص السردي (المتخيل ومستويات اللغة)، منابت قولها تعبيرية، هي أدخل في تخوم السردية التعبيرية من السردية السيميولوجية.
السرديات الكلاسيكية الجديدة في التجربة العربية وإعادة طرح سؤال التوسيع 

ولئن لوحظ في المتداول العلمي للسرديات العربية اليوم، اتساع دائرة البحث في المشاغل العلمية "للسرديات ما بعد الكلاسيكية" المرتبطة بالمشغل الثقافي، والمتصل بانفتاحها على اختصاصات وعلوم حافة، سيرا على سنة السرديين التوسعيين في توسيع "حدود السرديات" ــــ فإن السير على خطى فيليب ماتيو كولاس وسعيد يقطين، يتطلب منا التمسك بخيارهما والانحياز لنهج شيخهما جرار جينت في التمسك في الخطاب السردي أرضية للتحرك، لاكتشاف مناطق من سردية الخطاب ما زالت بكرا، يتعين الوقوف عليها، توسيعا لما ضيقه المتقدمون (أصحاب السرديات الحصرية) وتصحيحا لمسار في التوسع أقدم عليه المتأخرون (السرديات التوسيعية) بجمعهم بين القصة والخطاب موضوعا للبحث، وبحثا منهم عن سردية يرونها مفقودة. فاخترنا البقاء في خندق سرديات الخطاب، تمسكا منا في بحثنا عن سردية ضائعة، بمآت من الحسن ومصدر من الإمتاع والأنس، مصدرها اللفظ والتعبير والتكثيف، لا تزال ثاوية في جبة القصة، ينبغي استخراجها (المتخيل، مستويات اللغة). لذلك انحزنا في توسيعنا لحدود السردية، إلى خيار التمدد (سرديات التمدد) لا التوسع، بحثا في مآتي سردية النص، لا في حدود السرديات. فوسعنا مكونات الخطاب لتشمل مكونين اثنين بالإضافة إلى المكونات الثلاثة السابقة (الزمن، الصيغة، التبئير) هما: المتخيل، وهو القصة أو المادة الحكائية بعد أن تكتب أو تروى، ومستويات اللغة، لتصبح مكونات الخطاب في "سرديات التمدد" خمسة بدل ثلاثة. وهي الأطروحة التي دافعنا عنها منذ سنوات، في كتاب "شعرية رواية الصحراء: شعرية الشكل وخصوصية النص"، الكتاب الذي فاز بجائزة شنقيط للآداب، الجائزة التقديرية للدولة الموريتانية 2004، وقدم له أستاذي الدكتور سعيد يقطين ونشرته جامعة نواكشوط 2012.
ولئن سعينا في هذا الكتاب إلي مراجعة أطروحة ماتيو كولاس في توسيع حدود السرديات، في بحثه المشهور، على قاعدة البحث عن سردية النص، دون التمسك باختصاص محدد من اختصاصات علم الأدب بفرعيه (الشعرية والسيميولوجيا)، بل الجمع بينهما، بحثا عن سردية ممتعة ضائعة، يراها موزعة بين السيميولوجي والتعبيري (القصة، الخطاب) ــ فإننا بنينا التصور وأقمنا المراجعة على مساءلة نظرية ومنهجية: نظرية بسعينا لتوسيع مساحات السردية في النص السردي، باكتشاف مناطق من السردية فيه، مصدرها طرائق اشتغال مكونات للخطاب (المتخيل، مستويات اللغة)، لم يغطها واصفو مكونات الخطاب،

يمكن أن نصف مسار تشكل السرديات في التجربة العربية وتحولاتها النظرية والمنهجية من خلال ثلاث لحظات امتدت من نهاية ثمانينيات القرن الماضي إلى اليوم، كان في كل عشر سنوات منها، يظهر جيل من المشتغلين بها المتبنين لفكرها، والمتمكنين من أدواتها

ومستويات من السردية مصدرها، ليس طرائق اشتغال الزمن والصيغة والتبئير، وإنما طرائق تكثيف المتخيل ومستويات اللغة باعتبارها مصدرا لجماليات سردية، مأتاها لغة النص، ومصدرها أساليب القول الأدبي ومستويات اللغة ونثريات الخطاب. ومساءلة منهجية ترى الجمع في وصف السردية بين خيارين منهجيين جمع بين أختين (الشعرية، والسيميولوجيا) مخل بضوابط الصنافة المنهجية.
ولئن حققت السرديات في التجربة العربية ما حققت، فإن أولويات البحث في سرديات ما بعد الكلاسيكية اليوم ـــ في نظرناــ تظل الانشغال بأدبية الخطاب السردي، ومصادر السردية فيه، تعميقا لمدارك الشعرية، وإضاءة لمناطق منها في النص السردي، لم تطؤها أقدام السرديين التوسعيين، في حوارهم مع السرديين الأوائل، انضماما منا لجهود بحثية، تسعى لمراجعة السرديات الكلاسيكية ومساءلة طرحها بما يخدم الفكر النقدي ويطور علم الأدب، وينقل قضاياها وأسئلتها الى دوائر من البحث العلمي، تنشغل بـ"الأدبي" من النص، موضوعا "لسرديات كلاسيكية جديدة"، وتنخرط بمشاغلها العلمية وأسئلتها المنهجية في مشاريع السرديات ما بعد الكلاسيكية، تنويعا لموضوعاتها وتطويرا للفكر النقدي الأدبي، وتمسكا بخياراتها النظرية والمنهجية، التي يتأسس عليها علم الأدب.