هكذا تحدث محمد كريشان في كتابه.."... وإليكم التفاصيل"!

سبت, 12/11/2021 - 00:46

محمد المختار الفقيه

 

ليس غريبا أن تجد بعضا من ذاتك وأنت تقرأ لواحد من أبناء جيلك في أي قطر عربي كان! ستجد، حتما، وكان ظروف نشأته تتطابق مع ظروف نشأتك وأجواء تربيتك.

لذلك وجدتني وأنا أقرأ "نشرة" محمد كريشان المفصلة أحس وكأنني أقرأ في سجل تجربتي الدراسية، وميولي السياسية وانكساراتي وانتصاراتي في دروب الحياة!

محمد كريشان الذي كان والده كوالد أي واحد من جيلي مهموما بقضايا الأمة وقضيتها المركزية: قضية فلسطين تجرأ ذات يوم ليكتب في دفتر دروسه جملة مفيدة طلبتها أستاذة اللغة الفرنسية: "لقد بدأت حرب تحرير فلسطين" أو هكذا كتب؛ فكانت صدمته أن زجرته أستاذة اللغة الفرنسية قائلة إنهم في درس للغة الفرنسية وليسوا في حديث عن السياسة!

محمد كريشان الذي قضى والده نحبه في المستشفى العسكري على يد مختل عقليا لمجرد أنه كان ملتحما بمذياعه الذي لم يكن يفارقه لمتابعة تطورات الحرب مع اسرائيل! والده ذاك الذي هم يوما بالتطوع للقتال في فلسطين؛ فردت عليه زوجته ما ذا ستفعل؟ وما ذا ستفيدهم به في سنك هذه وقد خارت قواك؟! فأجابها: أقطع لهم الطماطم على الأقل لإطعامهم!

محمد كريشان الذي تجرأ ذات يوم فكتب لوزير التعليم التونسي آنذاك محمد مزالي،رحمه الله، محتجا على عدم تدريس القانون باللغة العربية حينما حصل على شهادة البكالوريا و كان الثاني على مستوى الجمهورية ليتفاجأ بالوزير يرد عليه و يضرب له موعدا ليقول له، و هو خريج السوربون، إنه مؤمن بأن شعبا لا يدرس بلغته الأم لن يتقدم، و ليعرض عليه دراسة الحقوق التي كان متعلقا بها في العراق نظرا لعلاقة تربطه بوزير عراقي ليسافر كريشان إلى العراق ثم ما يلبث أن يعود لعدم قدرته على التكيف مع بغداد حينها و كرهه حينها لطبق الارز الذي يشكل وجبة رئيسية في العراق، و الذي سيكون الطبق الرئيسي في المأدبة التي سيقيمها محمد كريشان بعد عقود في قطر على شرف عمال "الجزيرة" بمناسبة انتصار الثورة التونسية! سبحان مغير الأطباق!

من المفارقات أني لمَّا نلت شهادة البكالوريا سنة 1980 اقترح علي خالي الكريم بابا محمد عبد الله،رحمه الله تعالى، دراسة القانون في بغداد نظرا لصداقة تربطه بمدير المعهد التابع للجامعة العربية الذي كان يومها ما يزال في بغداد، لكنني لم أشأ أن أخوض تجربة كريشان مفضلا دراسة الحقوق بالمغرب، وأنا الذي أغوتني الصحافة الطلابية بدء من "مجلة الرابطة" في إعدادية لعيون، ثم "صدى النهر" في (روسو) مع زميل الدراسة محمد سالم الصوفي الذي سيصبح، فيما بعد صحفيا بارزا في قناة الجزيرة، ثم خوض تجربة الصحافة المستقلة بعد صدور قانون حرية الصحافة سنة 1991 لأكتشف حينها أنني لم أخلق لـ"صحافة المجاري" كما سماها كريشان و التي كانت و ما تزال هي الرابحة في سوق إعلامنا العصي على الإصلاح!

محمد كريشان الذي عرفته على شاشة الجزيرة منذ ذلك اليوم الفارق الذي طالعتنا فيها تلك القناة التي حسبناها مجرد استنساخ لقناة (سي أن أن) الأمريكية؛ بل وقدرنا أنها لن تكون سوى فقاعة ما تلبث أن تتلاشى في طقس الوطن العربي المسكون بالتخلف والإحباط وفشل كل تجارب الانعتاق!

وهنا أستحضر ما كتبته بالضبط في شأن الجزيرة على صفحات جريدة "الشعب" بتاريخ 10 أغسطس 2006 قبل أن ألجم بلجام القضاء في شهر نوفمبر من نفس السنة إلى أن فك الله تعالى أسري سنة 2019 فاستعاد قلمي، بعد أن شاب مفرقه، بعضا من حريته!

لقد كتبت حينها في شأن الجزيرة و بمناسبة الحرب الإسرائيلية على لبنان وتحت عنوان "قطر التي في الجزيرة" لقد: "... طلع علينا أحدهم بخبر مفاده أن قناة إخبارية عربية على نحو ( سي أن أن ) قد خرجت إلى الوجود.. ومن قطر! قطر الدولة الخليجية الصغيرة التي لا تكاد تذكر في مضمار السياسة الإقليمية فما بالك في المحافل الدولية!

كنا نقدر حينها أن الأمر لا يعدو مجرد محاكاة لا تلبث أن توأد .... لكن الأيام ما انفكت تفند هواجسنا؛ و خرجت "الجزيرة" من الامتحان؛ بل خرجت قطر من الامتحان متحدية إكراهات الجغرافيا، مشرئبة بطموحها السياسي إلى ما هو أبعد بكثير من الكيلومترات المعدودة التي تشغلها على خارطة العالم!

...إن ظاهرة قناة الجزيرة قد قفزت بالإعلام العربي من الحضيض، بل من حضيض الحضيض إلى قمة العالمية والمهنية والشهرة! حتى ليحق لمن سيؤرخون يوما للإعلام العربي بأن يقولوا "إعلام ما قبل قناة الجزيرة" و "إعلام ما بعد قناة الجزيرة"!

الحالة القطرية في هذا المضمار تستحق التدبر؛ فقطر الدولة الصغيرة المحشورة بين عمالقة كبار أفادت من إطلاق العنان لـ"قناة الجزيرة"، ليس فقط ماليا و دعائيا؛ بل ساعدت "قناة الجزيرة" في "أنسنة الأمراء" في مقابل "التأليه" الذي درجت عليه وسائل إعلام أنظمة الجوار و المستمد أولا و آخرا من "فلسفة الاحتجاب" و "التخفي" بعيدا عن الناس وعن واقع الحياة اليومية؛ فتكون "طلة" الأمير أو الملك كأنما هي انكشاف الغيب و بزوغ الفجر أو "حديث السماء إلى الأرض"!

..."استفادت" الجزيرة-وهذا قدرها- من مآسي الأمة؛ بل لقائل أن يقول إنها "بنت شهرتها على أنقاض الأمة"؛ فكانت تجربتها الأولى في أفغانستان حيث أبلى مراسلو الجزيرة، وعلى رأسهم أسير الرأي والمهنة الأستاذ تيسير علوني، في إظهار حقيقة ما يدبر في أفغانستان و نقلت بالخبر الصادق والصورة الناطقة، والتعليق الصائب، مأساة شعب يجتث على أساس فرضيات و اتهامات لم ينهض دليل مادي وجيه على صحتها!

ثم كانت من بعد ذلك صولات الجزيرة في بغداد: عاصمة العباسيين؛ فلم تقصر ولم تتقاعس ودفعت حياة صحفييها ثمنا للحقيقة، ولم يكن طردها من العراق إلا وساما علقته على صدرها المكلل بالنياشين والمنجزات!

ثم دهمتنا قضية لبنان؛ فاستبسلت الجزيرة وصرنا لا نميز بين من يحمل "السلاح الحي" و من يحمل الميكروفون فقد اعتمر الإثنان الخوذة و الصدرية و وضعا روحيهما في كفيهما لا يباليان على أي جنب كان في الله مقتل أحدهما!!"

يروي محمد كريشان بأسلوب شيق و بتواضع كبير تجربته الشخصية في الإعلام التونسي من الصحافة المكتوبة إلى الإذاعة التونسية، و عمله مراسلا لبعض الإذاعات العربية في هولندا و مونتي كارلو، وكالة الانباء الفرنسية، وجريدة "عكاظ "السعودية، ثم تجربته القصيرة في التلفزيون العربي بلندن الذي كان التوطئة لتأسيس الجزيرة كما يروي الاحباط الذي أصيب به، بعد ذلك و هو يشد الرحال من عاصمة الضباب إلى الدوحة بطقسها الذي لا يطاق و شبه انعدام بناها التحتية، و جوها الموحش. وقد حولت إرادة قطرية جادة، فيما بعد كل ذلك، إلى ما عليه الدوحة اليوم و قطر كلها من تطور مشهود و نهضة عصرية.

وفي هذا المضمار يروي لنا محمد كريشان شكوك؛ بل ربما قناعة بعض صحفي الجزيرة المؤسسين باستحالة نجاح التجربة؛ بل لقد كان بعض المتفائلين يحسبون الجزيرة مجرد ذراع من أذرع المشروع الامريكي في المنطقة! وتلك حكاية أخرى لعمري "تفتح لها الكتب" كما نقول في موريتانيا!

يروي لنا محمد كريشان في مفصله الشيق معاناة الصحافة المكتوبة المكبوتة في تونس من أيام المجاهد الأكبر إلى " الانقلاب الطبي" الذي قاده زين العابدين بن علي، وكيف أن جل رواد الصحافة المؤسسين كانوا من المغاضبين أيام بورقيبه الذين كان بعضهم وزراء في حكومته وعلى رأسهم السيد حسيب بن عمار الذي كان شريكا في النضال لـ بورقيبه والذي كان يقول للصحفيين الشباب حينما يحس منهم محاولة النيل أو التطاول على أحد الوزراء:" أنتم لا تدركون ما لهذا الكرسي من تأثير وسطوة"!

ولا يفوت محمد كريشان أن يتحفنا بتوصيفات لطيفة نذكر منها ما رواه على لسان الباجي قائد السبسي، الرئيس التونسي السابق، رحمه الله تعالى في شان الدخول " المتعجرف" للإسلاميين في المشهد التونسي: " صبعين وتلحق العسل"!

ويروي لنا محمد كريشان بطرافة مهمته الصحفية الأولى في الجماهيرية وقصته مع مرافقه الليبي الذي اكتشف ذات يوم بعد أن استغل نزوله من السيارة لقضاء بعض شأنه فتصفح مجلة " الوطن العربي" الملقاة على المقعد الخلفي ليجد بداخلها قصاصة كتب عليها مرافقه: " محمد كريشان صحفي بلا جهاز تصوير و لا جهاز تسجيل"!

و لم تكن تلك الملاحظة إلا تعبيرا عن واقع الحال؛ فلم يكن لدى كريشان سوى قلمه و لسانه و عينيه و سامعيه لتدوين تلك الرحلة!

كما يحدثنا في مكان آخر عن تندر زملائه عليه أيام تجربته الصحفية الأولى فأطلقوا عليه اسم "شرارة" لأنه ما كان ينزل بصحيفة أو محطة إلا وأغلقت، ولا يقدم برنامجا إلا وأوقف، وكانت النهاية إغلاق التلفزيون العربي في لندن بعد فترة وجيزة من بدأ نشاطه ليس بسبب كريشان، طبعا، ولكن بسبب برنامج لم يرق للمول!

لكن تجربة كريشان في الجزيرة أثبتت أنه لم يكن شرارة ولا نحسا، فها هي الجزيرة تحتفل بربع قرن من إقامة محمد كريشان فيها!

و يذكر محمد كريشان لنا في ثنايا كتابه علاقته بالسياسي العراقي الشهير محمد فاضل الجمالي المقيم في تونس، الذي كان أحد موقعي ميثاق الأمم المتحدة والذي حكم عليه بالإعدام في العراق أيام عبد الكريم قاسم، وكيف أن قادة عربا ثلاثة هم: جمال عبد الناصر ومحمد الخامس، والحبيب بورقيبه، قد استطاعوا إنقاذه من حبل المشنقة حين ضغطوا على العراقيين لإطلاق سراحه رغم أن واحدا منهم وهو جمال عبد الناصر لم يكن يستلطفه.

ولا يتستر محمد كريشان على بعض النقص في بداية تجربته الصحفية،حيث كان يراجع برنامجا إذاعيا يقدمه في الإذاعة مع مدير المحطة قبل تقديمه لتلافي بعض الأخطاء اللغوية، لكنه في إحدى المرات لم يلتزم بذلك، فلما أذيعت الحلقة اشتكى له مدير الإذاعة من حجم "الكوارث" اللغوية التي وقعت في تلك الحلقة!

ولا يفوت كريشان أن يورد لنا حجم الضغوط التي كانت تعاني منها إدارة قناة الجزيرة خاصة من دول الخليج حتى إن أحد مسؤولي الخليج الكبار عرض على أمير قطر شيكا على بياض مقابل إنهاء هذا " الوجع"!

و لم يتوقف الأمر، كما يقول كريشان، عند شكوى المسؤولين الخليجيين و العرب فقد قال السفير الأمريكي في الدوحة سنة 1998، أي بعد عامين من انطلاق الجزير:" إن صدق القطريون في وعودهم فإننا مقبلون على صداع كبير"! و قد كان!

ومن الوقائع المثيرة في كتاب كريشان تلك المحنة الكبرى التي تعرض لها الشاعر العراقي الكبير عبد الرزاق عبد الواحد وهو يلقي إحدى قصائده في مهرجان كان من المفترض أن يكرم فيه وينال جائزة فإذا بأحد كبار المسؤولين يوقفه وهو في قمة انفعاله بإحدى " بغدادياته" قائلا:" أضجرتنا يا رجل ببغداد...بغداد...بغداد شو هي مكة؟!" فما كان من عبد الرزاق إلا أن ارتجل بيتين لاذعين ثم غادر الحفل توا بناء على نصيحة صديق واستقل الطائرة متناسيا التكريم والجائزة!

يحدثنا كريشان فيما يرويه عن تجربته في بغداد قبل الاحتلال وبعد أن كان ما كان من غزو وتدمير وقتل ومآس ورعب، وكيف صبر العراقيون وصابروا على الحصار وحافظوا على كرمهم ونخوتهم وشجاعتهم التي تفوق الوصف، وكيف نهب الاحتلال أو ترك كل شيء عرضة للنهب ولم يكن يهتم بغير تأمين وزارة النفط!

ثم يحدثنا عن تلك السيدة التونسية التي جاءت لمقابلته في إحدى المرات في إقامة فريق الجزيرة ببغداد والتي عرف منها فيما بعد أنها زوجة الفريق الركن حازم عبد الرزاق الذي أشرف على إطلاق الصواريخ على إسرائيل خلال حرب الكويت والتي روت له حجم المعاناة الذي تعرضت له وزوجها و كيف نهبت مدخراتهم وتم العبث بمحتويات بيتهم و أن طائرة أمريكية نزلت على سطحه! وقد أطلق سراح لفريق الركن حازم فيما بعد وأقام بتونس.

ويحدثنا كريشان عن تجربته في مصر إبان انسحاب إسرائيل من سيناء وعن تلك المفارقة أو المفاجأة التي رصدها وهو يقرأ لافتة كتب عليها: " قبيلة كريشان تهنئ رئيس الجمهورية على تحرير سيناء" أو هكذا كُتب!!

ولا تقل تجربة كريشان في فلسطين المحتلة إثارة، خاصة معاناة صحفي ملتزم ومدافع شرس عن قضية فلسطين وهو يدخل إليها بتأشيرة إسرائيلية، بل ويجد نفسه بعد ذلك مضطرا لإجراء حوار من رئيس حكومتها، و أي رئيس حكومة: الجرافة ارييل شارون! ويدافع كريشان هنا عن نفسه قائلا:" الالتقاء صحفيا بأي شخصية لا يعني...تزكية لأفعاله أو أقواله وإلا لخلصنا في نهاية الأمر إلى أن الصحفي لا يجتمع إلا مع من يحب، أولا يجتمع إلا بالشرفاء والأخيار...".

ويحدثنا محمد كريشان في مروياته عن لقاءاته بعميد الصحافة العربية محمد حسنين هيكل ويصف لنا جوانب كنا نجهلها من شخصيته، ومن أهم ما توقفت عنده فيما أورده على لسان هيكل أنه كان غير موافق على استقرار ياسر عرفات في الداخل الفلسطيني قبل تسوية نهائية وأنه كان عليه أن يبقى في الخارج كرمز جامع للفلسطينيين في الداخل وفي الشتات.

وقد صدقت الأحداث هذا الراي حينما استهترت إسرائيل بكل المواثيق المبرمة مع السلطة وبالمجتمع الدولي فحاصرت عرفات وقطَّعت أوصال السلطة في رام الله ولم تترك عرفات يخرج إلا و هو في حالة موت سريري!

سأقفز من قراءتي لتفاصيل كريشان إلى الفصل الأخير الذي عقده لبعض المفارقات والطرائف، وقد أورد فيه لقاءين جمعاه مع رئيسين موريتانيين سابقين؛ أولهما سيدي محمد بن الشيخ عبد الله رحمه الله تعالى وقد التقاه في مدريد و قد استغرب كريشان تدخل السيدة الأولى في المقابلة محاولة تصويب بعض أجوبة الرئيس رغم محاولة أحد معاوني الرئيس منعها من ذلك!

أما اللقاء الآخر فكان مع رئيس الجمهورية السابق محمد بن عبد العزيز الذي أجاب على سؤال كريشان عن أسباب انقلابه على سيدي محمد بن الشيخ عبد الله قائلا إنه كان بسبب إقالته لقادة الجيش ليلا!

ربما أعود لفصول مهمة من كتاب الصحفي البارز محمد كريشان ففيها الكثير مما يستحق التوقف عنده.

(عنوان الكتاب: محمد كريشان يروي..و إليكم التفاصيل، و هو صادر عن دار جسور للترجمة و النشر، بيروت، 2021 و يقع في 431 صفحة موزعة على سبعة فصول و ملحق للصور).