إعلان

مقدمة ديوان "هذا هو النهد الذي اعترفت له"

خميس, 08/18/2022 - 01:09

هذه هي الرسالة النثرية التي شكلت مقدمة  ديوان "هذا هو النهد الذي اعترفتُ له" للشاعر المختار السالم، وهو أول ديوان عربي من نوعه، حيث أن جميع قصائده فصحى ومغناة، وقد صدر 13 إبريل 2016 في باريس عن داري النشر الفرنسيين: "منشورات دفاتر مالارمي و"دار لسكريب ارماتان".

___

.. هذا هو النهدُ الذي اعترفتُ له / المختار السالم

(رسالة إلى محمد بدي ابنو
 
إليك عزيزي بدي الإجابة المتسائلة عن زمن البدايات، أخفيتُ فيها كتاب الأغاني لغير الأصفهاني وأناشيدي للجميلات المتمرّدات ـ بعض النساء عن النساء يختلف ـ  وأشياء أخرى أعتذر لكَ ولهم مسبقا عن البوح بها)

الإهداء:
إلى رفيق الدرب والحرف الدكتور محمد بدي أبنو،
عن الأنشودة الساهرة وحمرة الشاي وحروف الصباح،
معا زرع الخطوات ريثما يقررُ الفجرُ أن يصحو في الوطن الذي ينتظر فوق الصهوات.
م س

عزيزي بدي،
في ليلة ماضية، وبينما كان الهواءُ يرتشف الحرارة من جفنيّ الجمريّين، تغيرت بوصلة تفكيري بشكل مفاجئ، لقد عاودني سحر الوتر والمطر.. بشكل انقلابي تخيلتُ معهُ أن فلسطين تحررتْ، وأنها تفاوض للانضمام إلى "الاتحاد العربي" بشروط ميسرة.
لقد كنت أمام حالة انبعاث غريبة ومدهشة، وإذا كنا قد تغنينا بجمال الوحدة العربية، فإنها أجمل بكثير من كل أغانينا، وأبهى من كل تصوراتنا.
أصبحتُ على قناعة بأن التصوف هو فنّ العزف على الروح.. لقد كنت صوفيا بالفطرة.. وذات مساء بينما كنتُ أعدد خطوط النمش في حلمة نهد توقعت أن صوفيتي جسدية.. لكن جلدي اقشعر لهذه الفكرة، وتطلب ذلك قطع ملايين السنوات الضوئية في رحلة عودة وإياب بين نهدين.
العفو، لم أخبرك بسبب هذه الرسالة.. بعض ذلك أنّ أحد أصدقائك سألني "لماذا بدأتُ مبكرا بكتابة كلمات الأغاني؟".
هذا السؤال، وأمثاله، من صيغ "التاء المحررة" أعتبره دائما ضمن "جدليات" غير قابلة للتأويل ما بعد الحداثي، ولذلك كنت سباقا في صياغة "تعابيرها العقيمة".. مثل ظاهرة "قلق" الأمين العام للأمم المتحدة السيد "بان كيمون" وأسلافه وأخلافه، ومثل جدلية "القصيدة والعصيدة"، وجغرافية الشفاه الغرثى، وتاريخ العبث بين الذكر والأنثى.
لقد أخبرني صديقك، وهو ليس معصوم بالضرورة، أنك سألتهُ عن ماذا يعرف حول أغنية "لئن جنيت على نفسي"..!
إنها الأغنية الأشهر في الغرب الصحراوي منذ ثلاثة عقود من الزمن.. وحين تشيب النغمة ُ يصبحُ الخوف من المسلمات أنها ستذهب إلى المتحف، فالمتاحف ما هي إلا دور رعاية لما هو مسنّ من أحلامنا وأفكارنا ومشاعرنا.
يا للمشاعر المسنة، ويا للأحلامِ التي تشخي في الجفونِ.
في الحقيقة.. لقد وجدتُ تفسيرا معقولا إلى حد ما لكل مشاكل الوطن العربي، منذ "خمرية وأمرية" خالي امرؤ القيس "العاقلي" الكندي، وإلى الساعة التي قرر فيها جدي أبو الطيب المتنبي "الكندي"، طيب الله ثراه، أن لا يوقف خيوله لالتقاط "دنانير الغابة".. ثم إلى الوضع الراهن، الوضع الذي يأكل فيه العربيّ السمن والعسل، ويموتُ على المعابر والملاجئ والمنافي، ويشربُ دم أخيه، الوضع الذي يذبحُ فيه الحسينُ الحسينَ، ويكلفُ الحجاج بحضانات الأطفال ورعاية الجواري.

عزيزي،
شيء واحد لم أجد له تفسيرا، هو سؤالك عن أغنية "لئن جنيت على نفسي"..!
ثمة احتمالات عديدة لهذا "السؤال الإرتوازي"..
فإما أن خبرا ما وصلك بأنّ انتحاريا جهاديا كان يستمع إلى كلمات هذه الأغنية قبلَ أن تبتسم قنبلتهُ.. ومعنى ذلك أنه كان يشكّ في كونها "حديثا موضوعا"، أو كتابا مقدسا لديانة أخرى.
وإما أنّ بلدا ما قرر، في هذه الظروف، أن يتذكر الغناء والموسيقى.. بعد أن صارت الكلمة العليا لطعنة الخنجر وصليل السكاكين، ولعلعة الرصاص، ودوي الانفجارات، وثغاء الخوف المنبعث من النساء الحوامل في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والمناطق المجاورة لبحر الظلمات، وأدغال الجمر الإفريقية، والبحر الأبيض المتوسط، الذي أصبح كالكهل يخضب لحيته بدماء اللاجئين المهاجرين على قوارب الموت.
وإما أن اسمي ورد مقرونا بهذه الأغنية في تقرير اتهام ضمن ما أنتجته عبقرية مفكري "صراع الحضارات".. أولئك "الفلاسفة الجدد" الذين قرروا "التفريق بين الأمم"، ولم يسجل لهم التاريخ أنهم اغتسلوا من الزنا ببنات الفكر الشيطاني...!
وإما أن "حالة عطاردية"، أو "مريخية" انتابتك، أيها المثقف والشاعر الكبير، فذكرتكم غزلانُ باريس وأبروكسيل والبلقان والبلطيق والهند والسند والروس، بالجلسات العاطفية على الشاي والفستق في العتبات التائهة، حيث تتلعثم البنات الطاهرات في تهجئة أسماء الشعراء الصعاليك...
هه... والله، مع كلّ ألمي، يمكنني أن أبتسم.. وأنا أتذكرُ قصة كبيرة جدا وقعت لي في تلك الأيام.. "أيام التسفير، والتهجير، والأزمة العرقية، والمسفرين اللاجئين في المعرض الوطني بنواكشوط"، وبواكير الحركة المسرحية، والأماسي الشعرية في المراكز الثقافية... لاحظ بالمناسبة دون ذكر أسماء أن دولا غير أجنبية صارت في "خبر كان"، بفضل الأكاذيب المجملة بجدة الأكفان.
وبالمناسبة هل تذكر حينَ أقام لنا السوريون أمسية شعرية، وكان محمد الحافظ أحمدو هو الناقد، فوصف شعرك بـ"الصوفية الفنية"، ووصف شعري "بالصوفية الغزلية".. رضيت بنصيبي، وناقشت أنتَ، وعلى كل حال كانت ليلة جميلة على أنغام الملحن عماد الدين دبش.

عزيزي،
في العام 1987، كما تعلم وصلت العاصمة نواكشوط، وكنت بلا حذاء ولا قميص.. كنت ألبسُ سروالا من "ملكان" ودراعة من "الشقة"، وكان صاحب سيارة الأجرة يطالبني بثمن التذكرة بين المذرذرة ونواكشوط.
في اليوم التالي وصلت بأعجوبة إلى مبنى صحيفة "الشعب" (الحكومية)، اليتيمة في البلاد وقتها، لقد دخلت قاعة الأرشيف لأجد الشيخ ولد أوداعه، أحمد مصطفى، إبراهيم ولد عبد الله، حمود، وسكرتير التحرير محمد الأمين ولد أحمد... وآخرين.. رحم الله الراحلين وحفظ الأحياء.
كان الوقت صباحا، فأعطوني كؤوسا من الشاي وبعض الخبز والزبدة و"الزريق"... وسألوني من أكون ؟ فأخبرتهم أني "شاعر" قادم من الضفة، من الجنوب.. وأسعى للقاء رئيس التحرير الشيخ بكاي لنشر قصيدة، أخبرتهم أني سأهاجر إلى ساحل العاج بحثا عن عمل.. ومن ضمن ما أخبروني به أن توفيق الحكيم انتقل إلى جوار ربه (ذات اليوم).. لقد تحركت يدي فورا إلى كومة ورق أمامي على الطاولة وطلبتُ قلما وخلال ربع ساعة أنهيت مقالي "مكالمة هاتفية مع العالم الآخر"..
أعطيت المقال للأساتذة، وخرجت غير مصدق أنه يستحق القراءة أحرى النشر..
في اليوم التالي ستصدرُ رئاسة الجمهورية أمرا بإلقاء القبض علي "حيا أو ميتا"، وسيلقي أئمة مساجد نواكشوط خطبا عصماء تطالب الشعب بمساعدة الدولة في إلقاء القبض على "المجرم المختار السالم أحمد سالم".
لقد صليت الجمعة في مسجد المغرب بنواكشوط، ولم أصدق أن من ينادون باسمه هو أنا.. وهكذا انصرفتُ بعد الصلاة إلى أسرة من أقاربي لتدارك الغداء.
وبعد يومين.. تأكدت أني المطلوب بعد أن عرض علي الشيخ ولد أوداعه الهرب، ووعظني بما تعرض له البعثيون في سجون العسكر.
 لقد سلمتُ نفسي للعدالة، جئت من تلقاء نفسي.. وأعرفُ الآن لماذا يبكي الشعراء على صباهم.. لقد أنقذني عامل العمر من المحاكمة والسجن... "أنت قاصر كيف تكتب مثل هذا الكلام، ومن أين لك هذا الخيال الخطير ؟!".. ومع ذلك أطلق وكيل النيابة سراحي بشروط كثيرة، وصياغات سأعرفُ فيما بعد أنها تشبهُ صياغة اتفاقية أسلو.
وسيسجل التاريخ للشيخ بكاي أنه أصرَّ على أن أنضم فورا لطاقم تحرير الجريدة.. ومن هنا لم تبدأ "الرحلة الإفريقية" التي خططت للقيام بها.
في الأيام التالية، تسببت مقالاتي بزوبعة في نواكشوط... لقد أغضبتُ الفنانين فتظاهروا أمام رئاسة الجمهورية..
كما أغضبتُ النساء.. وبالمناسبة يجب أن تذكر أسماء النساء وفق طقوس صوتية خاصة، وبقداسة كما تذكر أسماء الأشهر الحرم.

عزيزي،
كما تعلم، سوف نلتقي في الأماسي الشعرية.. سوف تصحبني إلى منزلي العائلتين: آل أبنو، وآل عبد الحي، في المنزل الأخير تعرفتُ إلى خالتك الفاضلة الشاعرة الراحلة خديجة عبد الحي، أول شاعرة موريتانية معاصرة.. وأجمل منظومة أخلاقية تعرفتُ إليها.
وفي المنزل الثاني سأتعرفُ أكثر إليك يا صديقي،  وسنبدأ قراءاتنا الشعرية في ساعات اللانهاية... وستلتحق السياسة بالشعر ويحملهما الليل والكتابة والشاي الأخضر.
المدهش أن منزلكم كان قريبا جدا من منزل الفنانة المعلومة بنت الميداح.. المطربة الوحيدة التي احتفت (سرا) بمقالي عن الفنانين "كذب الفنانون ولو صفق الجمهور"... وكان بيتها أول بيت أسكنهُ في نواكشوط.. وذلك بعد أسابيع قليلة من وصولي إلى العاصمة..
لقد جاءت إلى مباني "الشعب"، مستطلعة من كتب عن الفنانين. وحاول مدير الجريدة الشيخ بكاي منع الصدام. وفي الحقيقة كانت المعلومة مرتاحة للمقال الذي يحث على التجديد. حين دخلت قاعة التحرير وقيل لها "هذا هو المختار السالم".. لم تصدق بداية أن هذا "الصغير" هو من أثار الزوبعة.. ثم اصطحبتني إلى بيتها في سيارتها "البيجو"، وحين وصلنا استقبلتنا العائلة بحفاوة بالغة.. دخلت البيت كما لو كنت عريسا من الحفاوة..
في ذلك اليوم ارتجلت كلمات أغنيتين. "فتى الحب":
يا فتى الحب رجاءْ
             حجب الحبّ الحياءْ
وسطا صوت الفيافي
             في شعور الغرباءْ..
أما الثانية فأغنية "مر عام بعد عام"..
ذات اليوم.. أول مرة أسمع أحدا يغني بشعري.. كان شعورا لا يوصفُ.
ترنمتْ المعلومة رفقة أختها الفنانة منينة بنت الميداح (رحمها الله)، كثيرا ب"فتى الحب" وبدأت تلحينها، لكنْ سيحدثُ تلك الليلة أن سارقا تسور المنزل وأخذ حقيبة يد المعلومة وفيها كلمات أغنية "فتى الحب"، وقليل من المال، وبعض العناوين التي أظنها لا تهمّ.
سنضحك من أعماق قلوبنا، وستبدأ المعلومة وإخوتها في الغد التدريب على أغنية "مر عام بعد عام// وبقينا في الغرام".
كانت المعلومة وقتها تدشن ثورة فنية.. وفي الليالي التالية، كان زوار العائلة الفنية يحملقون في هذا "الضيف" المجهول بالنسبة لأغلبهم، وسيغمزني الشيخ بكاي بعينه، غمزة تختصر مرافعة.. وسأتجاهل مغزى كل ذلك.. في ذلك البيت أدركتُ آخر عمالقة الموسيقى والبلاغة في هذه البلاد.. إنه المرحوم المختار ولد الميداح، فارس التيدنيت، ورجل الضاد الذي كان علماء الدين يتعلمون عليه العروض.

عزيزي،
سأبالغ قليلا، وأقول: كما تعلم كان الجميع ساخطا مني في تلك الظرفية.. العلماء الذين ألبتْهم ضدي رئاسة الجمهورية واللجنة العسكرية للخلاص الوطني.. النساء اللواتي طالبتُ في حقهن ب"لكن"، والفنانين الذين اتهموني بالسعي لتدمير التراث الوطني وبدعم المطربين المجانين وتشجيع "الهرطقة الفنية"، والشعراء الذين زاحمتهم أو أزحتهم عن المنبر، وكانوا ملوكا متوجين. ثم الحركات السياسية التي تعاورتني بالاتهامات.. 
ومع ذلك عشت في بيوت كبار العلماء والشعراء والمثقفين والفنانين، وحظيتُ بعناية السفراء العرب، وبقدر يحاذي الاهتمام الذي أحظى به من طرف فتيات المخابرات الوطنية.. ظلل المجدُ أردافهن.
بالنسبة لي كفتى... لقد كانت أياما "للتشرد الباذخ" بين بيوت ذوي الذوات.. فمن دروس علم التفسير في بيت العلامة حمدان ولد التاه، ومجلس حكايات "المحصر"، إلى طرائف أحمد ولد عبد القادر وحداثة ناجي محمد الإمام، وببهاء بديوه، ومحمد ولد عبدي، وجداريات الصوت في روائع صناجة شنقيط محمد الحافظ أحمدو، ثم مصارعة حسني ولد شاش للتجديد في الشعر الحساني، وأجزم أنه جدد في الزوجات أكثر من القصائد، ثم جلسات الشاي والعزف والغناء على شرفي في بيت المعلومة بنت الميداح..
في ذلك الزمن.. كانت الرفاهية كلها يمكن أن تُختزل في ارتشاف الشاي بينما تعزف لك المعلومة بيد وترسمُ النغمة في الهواء باليد الأخرى.. بينما تطلّ وجوه المتفرجات من النافذة وهن يبتسمنّ طربا... إن ابتسامة البظانياتِ تختزلُ تاريخ الأنوثة.
ومع ذلك هناك مساءات تحتاجُ الرسم بالمزن كي نكتبُ عنها شيئا يمكث في الأرض.
 لقد تمكنت "عيشة" المصابة بالسل الرئوي، من إغوائي في كوخ خالتها، في الساعة الثالثة فجرا، لقد سهرت الفتاة المريضة كثيرا، وصبت الكثير من الشاي، وتحدثتْ أكثر رغم السعال، وكانت دائما تلجأ إلى ابتسامتها العذبة لتجاوز المواقف المحرجة.. وكانت تغني لي، وبصوت ملائكي أغنية "عند أحلام المغيب// إسمع الناي حبيبي// وتعلم من جموحي// وتطيبْ من طيوبي".. لقد أغوتني حتى شاطرتها رقصة العواصف الثملة بالاحتباس الحراري.
ولقد كنتُ سعيدا جدا حينَ شفيتْ "عيشة" بعد ذلك، واستعادت أنوثتها الخلابة، وتسلمت منصبها في تربية الأجيال.. وحين أصرت أن نكررُ أكل التفاح من دون سعال.

يا صديقي العزيز،
قبل أشهر فقط من التسعينات، كنت أنت تعدُّ لمغادرتنا إلى أوروبا، أما أنا فكنتُ ما أزال مندهشا بالقوام الأسطوري لأكثر من مسؤولة حكومية.. دائما تكثرُ النساء الجميلات في الإدارات الفقيرة.. كما تكثر الورود في على ضفاف الحقول الطينية.
لقد كان للمرأة (واقعيا) وزارتان في حكومة ولد الطايع وقتها.. وكان في إحداهما أكثر من أربعين امرأة ذات جمال خلاب وقوام رشيق وشهيّ.. إنك تعرفهنّ... تلك الـ.... رشيقة القوام، عذبة العينين، حتى وإن غطت أجفانها بلون أخضر، فبدوا وكأنهما طحلبان يحفان عين ماء.
لن أتنكر لذلك التاريخ... لقد كنتُ أحد الرجال القلائل الذين يعملونَ هناك.. فعلا لقد كنت أحد سكان المجرة..
وكانتْ لحظات العمل تتطلب قدرا ضئيلا من الجهد.. والكثير من النقاش..
كان "الشغل" هناك بدقة العمل في مصنع القنبلة النووية.. حيث يكفي الاستماع لوقع الخطوات في الممرات لتميز بين جميلة وأخرى مغادرة أو قادمة، أو الاستماع لأوبريت الحناجر الرخيمة حين تضحك بشكل جماعي.. أو النظر إلى مراوح الجفون وهي تحلق كأجنحة الكواسر.
هنا بالضبط في هذه البيئة الملائمة جدا، إذا كنت شهريار. سيجعلك العيش في تلك الأجواء تحصلُ على قناعات نهائية عن الحرب والسلام، حتى وإن من ليلة واحدة.
فمثلا أنا على قناعة شبه تامة أنّ الحروب لن تقع إذا أسندت المفاوضات إلى النساء، لأنّ حواراتهن لن تنتهي قبل يوم الحساب، على قناعة أن "المرأة سلاح دمار شامل غير مصنف".. السلاح الذي لا مفر من الركون له.. السلاح الذي يلملمُ جراحنا بصدق.

عزيزي،
دعني أحكي لك قصة أغنية "لئن جنيت على نفسي" من دون رتوش.
لقد كنتُ مفلسا حد الإدهاش... كانت المهمة الأولى لكل رئيس تحرير جديد لجريدة "الشعب" هي طردي من العمل في الصحيفة.. لقد كان ذلك إنجازا يضاهي أسطورة "الحزام الأخضر" لمدينة نواكشوط..
على كل حال... قررتُ في ذلك المساء أن أعيد التعاون مع "الشعب"، وحين زرتُ مقرها الجديدة في "لكصر" استقبلتني وجوه كثيرة بتلك الابتسامات اللئيمة.. وذلك الاحتراس من عودة "الشعلة"، كما يسمونني.. كان الزميل عبد الله السيد الوحيد الذي طلب مني إجراء مقابلات للصفحة الأخيرة، واقترح أي فنان.
وكما وصلتُ مقر الصحيفة سيرا على الأقدام، لانعدام البديل، سرت على الأقدام نحو "الحي الرئاسي" حيث تسكن أسرة من أقاربي في حراسة منزل قيد التشييد.. ما إن قطعت شارعين غرب مبنى الصحيفة حتى تذكرت أن الفنانة لبابة بنت الميداح تسكن الحي، على بعد مائة متر تقريبا من مبنى "إطفائية نواكشوط".. دخلت الباب دون استئذان، أخبرني عامل أنها في منزل آخر قريب أجرته في انتظار إصلاح منزلها.. سرت إلى المنزل حيث أشار، دخلتٌ من الباب دون استئذان أيضا، رغم أن عاملة المنزل حاولت اعتراضي مستفسرة، ثم أخبرتني أن لبابة نائمة في الصالون.
عندما فتحت باب الصالون هبت على أنفي رائحة الحناء، كانت تلبس زيّ العروس: ملحفة سوداء من النيلة، والحناء تخضبُ يديها وقدميها..
رغم آثار النوم، استقبلتني بحرارة لا توصف.. سبق وأن تقابلنا مرات محدودة في منزل ابنة عمها المعلومة.. جاء الشراب والشاي.. وأخبرتها فورا عن رغبتي بإجراء المقابلة.. سألتني عن آلة التسجيل أو الأوراق؟ قلت لها "تكلمي لن أنس شيئا.. أي معتوه هذا الذي يمنّ عليه القدر بالاستماع للنساء ثم ينسى كلامهن ؟!".
ابتسمت وهي تنظرُ إليّ وكأن جوابي فاجأها.. لا يمكن "الاعتراف"
 بأي منا أكبرُ سنا من الآخر، ذلك سرُّ خطير لا يذاع.. وقد يزعزع الاستقرار في منطقة الساحل الصحراوي برمته.
قالت: "غريب أمرك، أنت أول من أقابله منذ عودتي البارحة من المغرب حيث كنت ضيفة على العرش العلوي".. فهمت أن كل هذه الزينة هي زينة طبيعية لفنانة عائدة من دعوة ملكية.
قبل أن تبدأ المقابلة قالت لي بشكل مفاجئ "لدي طلب شخصي لك". قلت و"هو؟". ردت "تعرف أني فنانة مشهورة بالغناء التقليدي، أريد الآن أن أحدث نقلة نوعية في الأغنية الموريتانية، أريد أن أكون رائدة للفن الحديث هنا".. واصلت "أريدُ كلمات تصلح للغناء، أريد أن أحقق انطلاقة قوية.. سيكون الأمر صعبا.. لكن البداية منك أنت.. من الكلمات الملهمة التي ستتردد على ألسنة الموريتانيين".
أعطيتها التزامي.. وأنا رجل لا يخلفُ وعده للنساء.
في الصباح وزع العدد الجديد من "الشعب" وعلى صفحته الأخيرة كاملة مقابلة مع الفنانة لبابة بنت الميداح.

بعدها بأيام قليلة زرتُ إحدى الوزارات.. أخذتني موظفة على جانب، وهذا شيء محبب، لكن ليس وأنت تسمع التهم.
لقد كان وقتها في نواكشوط تحالفان للجميلات. لا أخفيك أنّ حلفي "الناتو" و"وارسو" بلا أظافرِ.. ولا أحزمة ولا كاسحات.. لا أعتقد أن ريغان استوحى فكرة "حرب النجوم" مما دار بين "حلفي نواكشوط".. رغم أن تاريخ البلدة (المنسية) يشفع له في "أشياء غير متوقعة"... فبالقرب منها، في جزيرة "تيدرة" بـ"حوض آرغين"، قامت دولة "المرابطون"، التي ستهزم "أوروبا" في "معركة الزلاقة".. ومن " حوض آرغين" أيضا.. ذكرتنا أنت قبل سنوات في مقالك "طوف رئة البحر".. بأن الرومانسية انطلقت من شواطئ نواكشوط جراء شهيدة البحار عائمة "المديز".. 
لذلك يمتد كل من تحالفي الجميلات بشكل أفقي وعمودي من الوظائف الحكومية إلى المحلات التجارية.. تهمتي اليوم أني "غادرت التحالف الذي كنتُ أعيث فيه غزلا، وبدلتُ ولائي نحو التحالف الآخر"... ليس هذا فحسب.. فحين دخلت أحد المكاتب في الغد، الساعة الثانية ظهرا، جلستْ إحدى أجمل النساء أمامي وهي تتلو آيات العتب، وتقول لي إنها جد آسفة على أنها خسرتني.. وليس هذا فقط "لقد بعثتُ أسرار الإدارة للمعسكر الآخر.. "هنيئا لك.. فعلا "فلانة" جميلة جميلة جدا، ولا يمكنك مقاومة إغرائها".
لم أصدق أني أسمعُ تلك الكلمات..
لقد خرجتُ وأنا أرميها بنظرة صقرية.. ثم قلت "سأراضيك شعرا".. حملقت مرتابة.. كانت عيناها تروض أعذبَ الأنهار، وسمحتْ فتحة المئزر برؤية الالتحام الأسطوري لمجرتي فخذها وساقها.. كان مشهدا بصريا مدمرا، وكأني أحد الوعول في مواجهة انهيار ثلجي بأحد جبال القطب الشمالي.
خرجت دون أن أودعها... وعلى قارعة الطريق، تلمست جيبي فوجدت العشرين أوقية اليتيمة، صعدتُ الباص الذي تتكدس فيه عشرات الأجساد المنهكة السائلة عرقا وروائح.. وبعد أقل من كيلومترين نزلت في "لكصر" ودلفت إلى بيت آل الميداح..
كان الجو ساخنا في الخارج، وفي البيت أصبحت داخل جنة باردة... استقبلتُ استقبال الأبطال، وأدخلتُ إلى الصالون التاريخي في بيت آل الميداح، جلست على الفراش الوثير.. وجلست قبالتي لبابة مصرة على عمالها أن يتركوها تتولى صنع الشاي بنفسها.. لبابة فنانة كريمة جدا، وبارة جدا، ومحافظة على الصلاة... أومأت للعمال أن يحضروا الغداء... كان خروفا مشويا.. وكنت جائعا في زمن الندرة.. فمنذ أربعَ وعشرينَ ساعة لم آكل شيئا يذكر.. أخذت المطربة لبابة تلاعب مواعينَ الشاي الذي أزبدَ وتبخر بروائح النعناع وشاي "8147".
ثمّ وضع العامل صينية كبيرة أمامي تحمل الخروف المشوي الذي يصدر طنينا من آثار الشواء.
دون مقدمات، بدأتُ ألتهمُ الخروف بسلوك مفترس شرس.. وخيل إلي أني سمعت لبابة تقول لي "الشاعر.. هل تعلم أن وجودك الآن بالنسبة لي يمثل وجود عباد الله الصالحين.. قيل لي إن أسرتكم أسرة صالحة".
كانت تبتسمُ وهي تصبّ الشاي. سألتها:
- أيمكن أن أحصل على ورقة وقلم.
أحضروا ورقة من دفتر مدرسي قديم وقلما.. أخذت القلم بيدي اليمنى السائلة من دسم ومرق المشوي، ونظرتُ إليها فيما كنتُ ألتهمُ مستعينا بيدي اليسرى.. سألتها:
- هل لديك أي لحن... هل يعجبك أي عزف..؟
طلبت "آردين" على الفور، وقالت، أذكرُ أننا كنا في الطائرة في طريقنا إلى بغداد للمشاركة في "مهرجان بابل"، وأن أخي محمدا عزف لحنا قريبا من هذا... اسمع..".
بدأت تعزفُ، فيما أخذتْ يدي تنساب بكتابة الأبيات تلقائيا.. كانت يدي تكتبُ، وفمي يتحرك بموسيقى أخرى... خلال خمس دقائق... قلت لها: اسمعي:
لئن جنيتُ على نفسي سأعترفُ... 
                    قد يغفرُ الله للعشاق ما اقترفوا... 
 ذوبي على لغتي الخضراء راضية 
               فالحزنُ يحلوا إذا ما أهمل الأسفُ... 
وغررتْ بي تجاربُ الهوى زمنا 
            بعض النساء عن النساء يختلفُ..!
....

هذا يا عزيزي بعض القصة وأنت تعرف البقية...
كان الأمر سريعا جدا... لم تصدق لبابة... لقد خرجت تكرر "بعض النساء عن النساء يختلفُ"، وتطلبُ حضور شقيقها المطرب والملحن محمد سالم ولد الميداح، المقيم بمنزله غير بعيد،. لقد انضم أفراد آخرون إلى الجلسة... لقد بدأت الآلات الموسيقية تأخذ مكانها في الصالون... أجريت أول أبروفة خلال وقت وجيز... تناغمت الآلات والحناجر ورقصات بعض الحضور...
حين كرروا البروفة... مرة ثانية وثالثة ورابعة... تنفس الجميع الصعداء... قال محمد سالم ولد الميداح "مبروك يا أختي العزيزة، هذا فن"... ثم أردف "ما رأي شاعرنا؟"... لقد جعل الشبع انتباهي يتحسن... قلتُ له "أنت أدرى مني".
خرج الجميع لتوديعي في حدود الخامسة والنصف مساء. عند الباب استوقفنا فريق الإذاعة الموريتانية بقيادة الزميل محمد ولد الخرشي، بادر قائلا: "لبابة لدي الليلة حلقة من "لقاء الجمهور" ولا بد من أغنية جديدة واستثنائية".
ردت قائلة "لقد جئت في الوقت المناسب... تفضلوا بالدخول... ريثما نودع ضيفنا الشاعر".
في العاشرة ليلا كانت الأغلبية الساحقة من النواقشوطيين - كالعادة كل ليلة جمعة - قد ضبطت مؤشر إذاعاتها على الإذاعة الموريتانية.. انتظارا للبرنامج الأشهر في البلاد "لقاء الجمهور"..
بدلا من المقدمات النثرية، افتتاح البرنامج مباشرة بأغنية "لئن جنيت على نفسي"..
حققت الأغنية انتشارا غير مسبوق... صارت أيقونة الغناء الموريتاني في الأيام التالية.. صدحت تسجيلاتها من كل البيوت ودكاكين الألحان.
تابعت البرنامج في الأحياء المنسية بين شلة مراهقين وبنات من مبتدئي العلاقات الغرامية.. كان زمنا ما تزال فيه الفتاة تسكرُ بعبارة، ما يزال فيه المدّ والجزر يخافان المفعول السحري للغزل.

يا صديقي أجزمُ لك أنني لم أخطط لأن أكون رائد كتابة الأغنية الموريتانية المعاصر، لقد كانَ الأمر قضاء وقدرا، وفق بيانات الإدارات البيروقراطية.
لقد كتبت لعدة فنانين... المعلومة، لبابة، ياسين ولد النانه، العالية، سدوم، سيد محمد ولد أحمد لوله، كمبان... إلخ.
الغناء يصلحُ لكل الحناجر، كما تنبتُ زهرة الحبّ في كل القلوب.. وأنا رجل لم يخطط مطلقا للغناء، ولا الكتابة، أو الشعر، وقليلا ما فعلت ذلك مع الحب، والمرة الوحيدة التي خططت فيها للحب أحضروا إلي مأذونا وشهودا وعقد القران.
لا تنس ملاحظة مهمة... كلُّ شيء أنشده يكونُ فيه من فلسطين نغمة إقلاع "أتصبر" بها... لا تنس أننا، نحن العرب، الأمة الوحيدة في العالم التي تبدأ مديح نبيها بالغزل على النساء.
ولا يكتملُ الغزلُ من دون غناء..

دعني أقولُ "سرا" لا يعلمه الكثيرون... قبل ذلك هل تعتقد أن دخول الملحن عماد الدين دبش إلى الموسيقى الموريتانية في حقبة "التجديد"، كان بمثابة دخول سدوم ولد أنجرتو إلى حقبة التأسيس الأولى ؟
أما "السر" فهو أنك أنت شخصيا من قدم عماد الدين دبش إلى الفنانين الموريتانيين.. أنت من أحضرته إلى بيت المعلومة لمقابلتها.. وأجريا أول "تمرين".. ثم بعد ذلك تعرفت إليه الساحة الغنائية، ثم أضاءت نجوميته في ربوع الأغنية الشنقيطية..
لقد أحضرته وذهبت.. ذهبت بعيدا إلى باريس وبقية عواصم "الروم".. إلى الجامعات وإلى الأنوار المنعكسة على نهر "السين" وهو نهر يمكن الزعم أنه تكون من جريان دمع "المتجردات" على مر السنين والأسرة.
هكذا قلت لصديقتي الفرنسية ذات احتلال عاطفي..
أما أنا، فقد بقيتُ هنا، وكنتُ "شاهد عيان" على ما فعل الرجلُ من اشتباك غنائي بين شنقيط والشام.
كان لي الشرفُ أنه لحن العديد من كلمات الأغاني التي كتبتها أو كتبتني.. وفي هذه الرسالة، غير الموجهة إليه، أوجه له التحية والتقدير.
إنني، كما تعلم، أحاول دائما أن "أشنقط" الشام أو "أبغدد" شنقيط.. والنتيجة واحدة.. فمن لا خيول له لا صهيل له.. ومن لا نخيل له لا ظلال له.

عزيزي،

هل تذكر أول لقاء لنا..؟ كنت تواجه الأسلحة غير التقليدية بعد مقال لك في "الشعب" أعتقد أن عنوانه "الماكياج داء العصر".
 التقينا أولا في أمسية شعرية بدار الشباب... كنت غارقا في الكتابة والنشر وتنظيم ندوات جمعية غرناطة وكنتُ أنا أشرف على أماسي المركز الثقافي العراقي... الحرب العراقية الإيرانية البعيدة والقريبة في آن كانت في أوجها... لقاؤنا الثاني كان في قاعة الاجتماعات بجريدة "الشعب" أيام زاويتك اليومية "بداية الطريق"...
نفس اليوم ستصحبني للغداء في منزلكم بالمقاطعة الخامسة... كنتُ أنا الشاب القروي القادم من الداخل، وكنت أنتَ ابنَ العاصمة نواكشوط الذي ترعرع فيها.. كنت تعرف العاصمة بشريا وعمرانيا وقيميا.. من خفايا جدران "سينما الفتح" إلى رنات المآذن الأولى... "سـأتوكأ عليك" في "صدمة الحداثة" في هذه المدينة.. طال تناولنا للغداءِ والشاي، والفرفشة، وكتبنا نصين شعريين في نفس المقيل، وذهبت بي لأقابل أيقونة الشعر والخلاق خالتك خديجة عبد الحي في منزلكم القابل.
بعد الشاي والشعر أخبرتك أن لدي مشكلة وهي أني أقطن مع المطربة المعلومة بنت الميداح، وإني لا أعرفُ مكان منزلها من هذه المنطقة... ضحكتَ، وقلت لي "هل ترى ذلك المنزل إنه منزل المعلومة".. حسنا سنصبحُ جيرانا.. وستزورني كل ليلة تقريبا حين تكون المعلومة تعزفُ لي ليلا في الغرفة الشمالية الشرقية من المنزل.
لقد كنتُ دائما أوقع بك.. هل تذكرُ حين كنت أعد الصفحة الاجتماعية في جريدة "الشعب" وأجريت مقابلة مع الزميلة الناها بنت سيدي، أول صحفية موريتانية في التاريخ، وعندما كنتُ أحرر المقابلة، عرضت عليك أن ترد على أفكارها "الملكية الاستبدادية".. فكتبت الرد ونشر في نفس العدد مع المقابلة... وفي الغد جاءت الناها بنت سيدي غاضبة تشكو لرئيس التحرير.. لم يكن الأمر مهنيا بدليل الرد على مقابلة في نفس العدد الذي تنشر فيه... لقد أحرجتك.. ولكني دفعتك لأول حرب تخوضها ضد الاستبداد الثقافي.
من الجلسات الخالدة في هذه "الذاكرة المثقوبة".. في العام 1988، وصبيحة اليوم الثاني من الدورة الأولى من "مهرجان الشعر المغاربي" بنواكشوط (والدورة الأخيرة طبعا ككل شيء في هذا الاتحاد)، كان "تجمع المبدعين" غاضبا على منظمي المهرجان.. فالليلة الأولى كانت ليلة رسمية للضيوف ولشعراء المخزن.. في ذلك الصباح جلس الرباعي محمد الحافظ أحمدو، ومحمد ولد عبدي، وبدي أبنو، والعبد لله.
لقد أعلن محمد الحافظ أحمدو ابتهاجه بتغييبه عن مهرجان تقرأ فيه "شلحية" قصيدة من نوع "الأرض تدور على قرن ثور" (يقصد الشاعرة مليكة العاصمي).. وفي ذات الجلسة أراد الشاعر محمد ولد عبدي "التقرب مزاحا" من محمد الحافظ أحمدو، فلم يقرأ ولد عبدي قصائده الحديثة، التي تغضب ولد أحمدو، بل قرأ قصيدة عمودية، أذكر قوله فيها: "أنا.. أنا.. من أنا حتى أكون أنا".. وسأله هل تتوقع أن أكون شاعرا بحلو عام ألفين؟ فردّ عليه محمد الحافظ بقوله "أنت تكتب من لغة لا أعرفها في القاموس".. أنا نفسي لا أعرف إذا كنت سأكون شاعرا بحلول عام ألفين".
إذا كان أحمد ولد عبد القادر، عبر قصيدة "السفين" في الثمانينات، قد تسبب بفتح أول نقاش عن "حرية الشعر" في موريتانيا، فإن الفضل يعود لي في فتح أول نقاش عن "حرية المرأة" بفضل مقالي "نعم لحرية المرأة... ولكن!".. لقد كتب المثقفون والنساء آراءهم في الجبهة التي فتحت عليهم دون تخطيط مسبق... شخصيا كنت ريفيا قادما من مدينة "روصو"، القرية الحدودية، وكانت جرعة الحرية لدى نساء نواكشوط "صادمة ومفرحة" بالنسبة لي.
ستدخل أنت هذه المعركة بتعبئة زميلاتك وعشيقاتك في جمعية غرناطة.
سنتفرج لاحقا، أو نشارك، في معارك أخرى مثل سلسلة مقالات عن الشعر، هل تذكر ("مكتبة العيون المفتوحة")، و"شهادة البارادوني" في الشاعر إبراهيم ولد عبد الله، ومقالات "اللغة القاموسية"... ثم استخدامي للشعر من أجل إطفاء معارك سياسية واجتماعية.. تذكر "تدخلي" الشعري في محاولة للتغلب على الورطة بين بعض العلماء والنساء في "قضية تعدد الزوجات" الشهيرة.. رغم أنها كانت كمينا سياسيا وتحولت لأبعاد اجتماعية.
لقد أصبح الشاب الريفي صانع حداثة.. وزجّ بكل شيء في صلب النقاش.. حتى الجرأة التي أوصلتني للاتصال بهاتف رئاسة الجمهورية وطلب لقاء السيدة الأولى (زوجة ولد الطايع وقتها السيدة سادية كمال) من أجل إجراء مقابلة معها للصفحة الاجتماعية بجريدة "الشعب".. إن ذلك التصرف يشبه الآن محاولة مواطن من كوريا الشمالية الاتصال بزوجة كم جونغ أون دون أي مبرر.
تصور شعور العسكري الذي يدير "استندار الرئاسة".. لقد وعد بترتيب الأمور وتسهيل إجراء المقابلة.. وفي الغد طلب الأسئلة مكتوبة، ثم اكتشفت أنه لا حدود للباقته وموهبته في توليد الاعتذارات.

عزيزي،

كم نصّ شعري كتبته في بيتكم، أو بحضرتكم.. وضاع مني!.. ما تزال أنت تحفظ بعض المقاطع من تلك الفترة، وكذلك "الشلة".. لن أزهدَ في صحبتك حتى بعد أن حفظتُ عن ظهر قلب خريطة نواكشوط وضواحيها.. ووضعت قوائم بأسماء حبيباتي في كل الأحياء.
لقد كان بيتُ المطربة كمبان بنت علي وركان محطة مهمة للتزود بالشاي والأكل والاستماع للموسيقى... لقد كان آخر بيت أطرقُ بابه في الثالثة فجرا وأنا في طريقي إلى المطار للسفر إلى بغداد لأكون أصغر مشارك في "مهرجان مربد" 1989.
عبر مجلة "الوطن العربي" (التي كنت أول مراسل لها من موريتانيا 1989-1990)، ورئاستي لتحرير مجلة "الشروق" وصحيفة "شنقيط".. سوف أحرصُ دائما على حضور الفنانين والموسيقى الصحراء الكبرى، والشعر حيث يكون الشعر.
حتى حين "أعجزوني" بالعمل في القسم الرياضي بجريدة "الشعب".. حولت، أو حولنا نحن الاثنين الصفحة الرياضية إلى حديث عن الشعر والغناء وما جاور مجرتهما وحذفنا أغلب أخبار الملاكمة.
كان كل ذلك جزء يسيرا مما تستحقه لغة بن متالي والمتنبي وولادة ورابعة العدوية ومحمد اليدالي وجبران على هذا المنكب البرزخي...
ستشتد المعركة لاحقا.. سواء حين كنتُ أول من أخرج صحيفة على الحاسوب في موريتانيا، أو حينَ اضطررت لتنفيذ تعليماتكم بشأن توزيع بيانات "فرسان التغيير" العسكري، محاولة بعد محاولة.
لقد كان دائما شيئا جميلا أن تحوز على اهتمام قاعات التحرير، وأماسي الشعر وغرف النوم وتربك "فقاعات السياسة"... حتى ولو عانيت الأمرين من الفقر والشعر والعشق والظلم والمؤامرات وتنكر الذين أحسنت إليهم..
جميل جدا أن يكرهك الجميع، ويخافك الجميع، ويتآمر عليك الجميع. ومع ذلك يبقى من عباد الله الصالحين من يوسعون لك جفونهم وقلوبهم... من أمثالك أنت يا صديق الحرف والدرب، ولن أنس أحمد عبد القادر، ناجي الإمام، محمد الحافظ، ببهاء، محمد عبد الله بليل، مريم أحمد عيشة، هند بنت عينينا، المعلومة، لبابة، كمبان، والرائعات من خامات الجمال في أحياء الصفيح التي باركها الرب، وما تزال في متناول اليد جراء الشعر وزحف الرمال.

يا صديقي بدي،
لم أنس أشياء كثيرة جعلتنا نملأ صفحات "الشعب" خصوصا تلك التي يخف عليها الرقيب الأحمر. هل تذكر أنك طلقت "بداية الطريق" وأنت في مفترق طريق يجمع الرياضة والرياضيات... تصر قبل الضرتين أن تنتصر للمرأة حتى تنتصر للشعر... منتح الصفحة ل"ملف الشباب" أو ل"موقف" في إطلالة الصفحة الأخيرة التي كانت أحيانا تنجو من كل رقيب خصوصا حين يغيب "الكبار".
مر عام بعد عام ... وانتهت الثمانيات فسرقتك عروس المتوسط الفاتنة "نيس" وساحلها اللازوردي. قد يغفر الله للعشاق...
 لماذا تسألُ عن أنشودة بلا تاريخ؟!.. إن الطيور لم تغنّ إلا عندما بدأ الريش ينبتُ على أجنحتها.. وإني، لأبلغك في هذه الرسالة، أني ما أزال أفكرُ في كتابة تاريخ النساء والكلمات، فقد أخطأ أسلافي الشعراء حين حاولوا الكتابة عنهن بالحبر، أما أنا فسأكتبُ عنهنّ بالعطر، وقد لا أجد الوتر القادر على الإبحارِ في هوس المعاطف، أحرى أنْ يكتم الناي عن الشاعر ولعه بزرعِ الأنغام فوق حقول الشفاه والملاحف.

الشاطئ الغربي لنواكشوط، الثلث الأخيرِ من التوقيت الشتويّ في قلبِ آخرِ أنثى..

المختار السالم