إعلان

حديث عن ملهمتي... الذكرى العشرون  لرحيل الشاعرة والاديبة خديجة منت عبد الحي

أحد, 12/25/2022 - 15:17

نزيهة بنت الحسن

 

تنظر  الفتيات  إلى الملهمة  بأنها صاحبة  ذلك التأثير الغامض الخفي الذي تمثله بأفعالها وأقوالها ومواقفها النيرة والموفقة والمقبولة اجتماعيا    ، مما يثير في نفوسهن    الإعجاب والمحبة ، ويولَّد لديهن حوافز قوية تحفزهن  لأن يعملن مثلها، وقد يكون ذلك بتوجيه مباشر او غير مباشر . ومن أمثلة ذلك التوجيه غير المباشر ذلك اللقاء عن بعد الذي جمعني   بخالدة الذكر الشاعرة والأديبة والكاتبة  الراحلة خديجة منت عبد الحي رحمها الله  في العطلة الصيفية  لعام 1989 وأنا على أعتاب دخول المرحلة الإعدادية . كان الوقت الثامنة والنصف مساء على ما أتذكر’ حين تابعت مع الأسرة برنامج المجلة الثقافية الذي استضاف  الأستاذة  خديجة منت عبد الحي  رحمها الله  . حيث عرفتني عليها الوالدة  وقالت لي انظري إلى هذا الزى المحتشم الذي ترتديه زميلتي خديجة ’ انه لباس محترم ينبغي علي كل فتاة ستدلف إلى الإعدادية أن تتخذها قدوة فيه  وترتديه . تابعت باهتمام تلك المقابلة التاريخية لأنها بدأت بالحديث عن طفولتها وسنواتها الأولى في الإعدادية ’ من بين الأجوبة التي لم  استوقفتني ولم انسها حتي اليوم’  تلك المتعلقة ببداياتها مع المطالعة ونوعية الكتب التي استهوتها قبل أن تدلف إلى المدرسة ’

ذكرت ملهمة الأجيال  خديجة أنها بدأت محاولة الكتابة في سن مبكرة اعتقد أنها قالت " في سن السابعة " وإنها قبل أن تبلغ العاشرة من عمرها كانت قد اطلعت على نفائس الكتب التي كانت تزخر بها مكتبة والدها العلامة عبد الحي ول انتاب ’ من تلك الكتب  التي استعرضت في اللقاء التلفزيوني  أتذكر: معجم لسان العرب ’   الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة ’ويتيمة الدهر ’ الأغاني ’ والمستطرف في كل فن مستظرف ’

ثم أضافت أن ميولها للكتابة  وخاصة تلك  التي تحتوي  التي على خيال أدبي مجمح جعلتها  تطالع باستمرار للأدباء والكتاب من القدامى والمعاصرين حيث أكملت   وهي  في مرحلة الإعدادية  كتب مقامات الحريري وكليلة ودمنة لابن المقفع والحيوان للجاحظ ورسالة الغفران  للجاحظ والأيام وعصا الحكيم  وكتب أخرى لم تسعني ذاكرتي الصغيرة آنذاك في ضبطها. ثم تحدثت عن عاداتها في الكتابة ولكن لقصر الفهم وحداثة السن لم أتمكن من الإحاطة بجوانب إجابتها عن خطها التحريري ومنهجها في الكتابة. كل ما تمكنت منه في تلك الليلة  هو أن لديها كناش يرافقها دائما في الحل والترحال تسجل فيه دائما الأحداث وتكتب فيها خواطرها وقصائدها . وفي كلمتها  التوجيهية الأخيرة قبل نهاية اللقاء اذكر أنها نصحت الناشئة بمطالعة الكتب المفيدة والاهتمام بزيادة الرصيد اللغوي والاستعانة  بالمعاجم في فهم اللغة العربية   . ولان اكتساب السلوك من خلال القدوة من أكثر طرق التعلم تأثيراً وسهولة،حيث أن  النفس بطبيعتها ميالة  للتقليد، ويزيد هذا الميل في مرحلة المراهقة،  نظرا لتأثير القدوة في هذه المرحلة. فقد قررت من هذه المقابلة الانتقال من مطالعة كتب الأطفال " الغاز المغامرون الخمسة ورجل المستحيل وأميرة الثلج البيضاء وغيرها " إلى هذه الكتب التي ذكرت ملهمة الأجيال خديجة منت عبد الحي في مقابلتها التلفزيونية وقررت من ذلك اللقاء التطفل على الكتابة  . ولم أكن الوحيدة فهناك العشرات من بنات جيلي   فلم يكن يخلو أي فصل من إعدادية وثانوية البنات حيث أكملت تعليمي الثانوي من متأثرات بخالدة الذكر خديجة’  تحمل كل منهن دفتر صغيرا على شكل مذكرات  نكتب  فيها الخواطر ونحاول تقليد ملهماتنا من أمثال خديجة منت عبد الحي رحمها الله  التي كان لها عمود اسبوعي في بعض المجلات والجرائد " الشعب والمراقب  والموكب الثقافي و الزمان والمحيط وغيرها" وكنا نقوم بتبادل تلك المجلات والجرائد وكأننا نقوم بعملة صرف بين العملة الصعبة والأوقية لما لذلك  من أهمية عندنا في ذلك الوقت .

كما يعود الفضل إلى خالدة الذكر خديجة منت عبد الحي في حصولي  على اعلي درجة في مادة الفزياء والكيمياء في تاريخي مع هذه المادة ’ كان ذلك في دجمبر 1995  حين قررت إدارة ثانوية البنين  إجراء اختبار تجريبي لطلبة باكلوريا العلوم الطبيعية لتحديد مستواهم في هذه المادة وقررت من الناحية المنهجية أن يكون أصعب من امتحان الباكلوريا النهائي لتدريبنا على التعاطي مع مادة الفيزياء وخصوصا كيفية العثور على  " معامل لامدا " سيئ الصيت  فلما تم توزيع الأوراق علينا تعالت أصوات الاستياء من طلبة اشتهروا بإتقان هذه المادة  وقمت بقراءة الموضوع عدة مرات وفهمت بأنني  أمام أمرين أحلاهما مر إما إرجاع الورقة فارغة او الاختلاس  الذي أفتى بعض متفيهقة الطلبة بجوازه هنا للضرورة القصوى . وكان من العادات التي عودتنا عليها الوالدة أن ليلة الامتحان لا نراجع فيها المواد فخصصت تلك الليلة لقراءة مقابلة مع ملهمة الأجيال  خديجة عبد  الحي  في  احدي الجرائد لا يحضرني اسمها الآن فأمسكت القلم وكتبت  :

المادة الفيزياء والكيمياء

الموضوع : جنون قلم

أستاذنا الجليل

لقد قرر غير السيد المتعب لغيره "لامدا" أن  يتجاوز كل حدود الثقل و يحطم كل قواعد الأخلاق والمرونة والمروءة  وان يتحصن في قمم الجبال الشاهقة ذات الطرق الوعرة والخطيرة  على العقول والأذهان والتي لا يمكن لغير "نيوتن وتاليس وبيتاغوروامثالهم"  أن يسلكها ويتمكن من حساب معامله  و قد تهيب فرسان الفيزياء والرياضيات خوض  غمار معركة البحث عن معامل لامدا  و قرروا الانسحاب  و أعلنوا أن من ليس باستطاعته الوصول إلى " النجوم " فلن يعثر علىه, ثم  تعالت الصيحات من أرجاء الفصل " رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ" ’ " وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ" ولم تجد  فتوي فقيه الفصل بجواز الاختلاس نفعا وصار  كل طالب  يقول "نفسي نفسي " و" إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب" وتوالي انسحاب الطلبة والطالبات ’

ولما رأيت لامدا جندل جعفر   ونادي معامل لامدا يا يحي

التفت إلي قلمي قائلا ما رأيك لو أتممنا معا ما كنا نقوم به  ليلة البارحة من كتابة خاطرة حول مقابلة خديجة منت عبد الحي الأخيرة  فهو والله أروح للنفس وأجلا للكدر واسلم للعقل  فانطلقت خلفه لنركب الحافلة التي ستهب بنا إلى "موقف الحافلة " ذائع الصيت حيث حروف أديبتنا التي كانت تطلق عليها "حروف شاحبة" تواضعا  فركبنا معا الحافلة ووجدنا ركابها من قصائدها  أنشودة الصحراء  وحواء وأنشودة الفتاة  وقصيدة أمي وقصيدة العيد وغيرها من القصائد  التي كانت تنشر دائما في الركن الأدبي من المجلات .

ابتسم القلم قائلا على الأقل يمكننا التفاهم مع قصائد  ملهمتنا خديجة وتحليلها فنحن في بلد المليون شاعر وشاعرة  ولدينا المنهل وطفق يمر على كل  قصيدة في مقعدها ويأخذ منها ويضع  في سلته  حتى جمع لنا ما يكفي لملئ  صفحتين من ورقات الإجابة  الخ  . انتهي الاستشهاد من ورقة الإجابة  فالخاطرة طويلة .

قمت بتسليم ورقتين من أوراق الإجابة للأستاذ الذي قال لي  متعجبا ما هذا فقلت له هذا  جنون القلم .

 عند توزيع النتائج فوجئت بأنني قد حصلت عل خمسة عشر من عشرين وهو أمر مستغرب على مثلى في مادة الفيزياء فقال الأستاذ لا تستغربي لقد استشرت صديقا لي من أساتذة الأدب  واللغة وعرضت عليه جنون قلمك فقال انك تستحقين العلامة كاملة  احتراما للرائدة خديجة منت الحي وتشجيعا لعدم الاختلاس وللفكرة الجنونية ’  ولأنه  كان لابد لي من معاقبتك على هذا الخروج عن الموضوع فقد وجدت في رداءة خطك سبيلا لخصم خمس نقاط من الدرجة الكاملة .

فإذن  هذه الدرجة  قد حصلت عليها من بركة الأستاذة خديجة منت عبد الحي ولا تعودي لمثلها أبدا .

 رحم الله ملهمة الأجيال وصانعة المحتوي بحق خديجة منت الحي.