بعيدا عن السياسة ! / باتة بنت البراء

جمعة, 07/20/2018 - 02:58

مربديات:

الساعة تشير إلى الثامنة والنصف وقافلة الأوتوبيسات تنطلق بنا من أمام فندق الشيراتون، أخذت مقعدي في العجلة رقم 2 ، السائق: ناهض عبد الحميد و المرافق العسكري الملازم هاني الحديثي.

كل مربدي يرتدي الزي العسكري، ويتحسس منطقته في اعتزاز وكأنه مقدم على أمر ما، ارتديت الزي فوق ملحفتي ووضعت القبعة العسكرية.

امتدت المدينة أمامنا عملاقة يشقها نهر دجلة العريق، من هنا من هذا النهر استمد صاحب (إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس) حكاياته عن الرشيد ووزيره جعفر البرمكي، ومسرور السياف، وصورت شهرزاد حراقات التجار الميسورين تزينها الشموع، وتصدح منها أصوات المغنين ، وتتعالى روائح البخور والمسك الأذفر، والرشيد يأمرالنوتي بمتابعتها فيتلكأ متذرعا بأن ذلك موكب الرشيد.

على امتداد الشارع نوافير مائية تحيط بها التماثيل، واحات النخيل تكاد تحجب الشمس، وأشعة شتوية ريَّا تداعبك من وراء السجف الخضراء في الأوتوبيس، فتتكسر بغنج على صفحة النهر.
كان إلى جواري أعضاء الوفد الباكستاني؛ سألوني عن هويتي، وتعذر الخطاب بيننا فهم يتحدثون الأوردية والإنجليزية، وأنا أتحدث العربية والفرنسية، وأخيرا قيض الله لنا أحدهم وكان يتكلم عربية مكسرة تشوبها لكنة أوردية واضحة، فقام بدور الترجمان. ظهر شيخا أليفا بوجهه العريض وأنفه الأفطس ولحيته المخضبة بالحناء.

في المقاعد الأمامية انشغل المرافق العسكري الصارم الملامح والأشيب العوارض هاني الحديثي، بنقاش طويل مع بعض المُوفَدين، كان الحديث ذا شجون فمن حضارة بابل، إلى قانون حامورابي، إلى آثار السومريين، وصولا إلى أسطورة جلجامش.

امتد بنا الطريق شمالا، وظهرت عبره مدن وقرى كثيرة، وأبنية شامخة كلها حديثة عهد بالبناء وبدون طلاء، وقد لا يكون طلاء، فأغلب المباني البغدادية تبرز لك اللبنة الصغيرة وكيف عانقت أختها بدون تزويق ولا طلاء، لكن تشدك الجسور الملتوية المرتفعة، والنوافير المرحة تُعابث الماء، والساحات الفسيحة، والحدائق الغناء.

بين الفينة والأخرى ومن بين الأبنية المستحدثة، ترى منازل طينية عتيقة ترقد بحياء خلف الجدران الإسمنتية السميكة. 
بدأت تظهر بعض الشعارات على جنبات الطريق مثل:
-السيف الذي يحارب بالعلم لن يلتوي.
-اشمخ يا وطننا فصدورنا دروع!

ودخلنا الوحدات العسكرية؛ مدافع ثقيلة، ودبابات منصوبة فوق مراقب عالية، ومضادات للطائرات، وصواريخ بعيدة المدى؛ وتجمعات معززة بالعتاد الضخم الكثير.

ليس من الجنود من يأبه لحركة المرور، ولا لقافلة الباصات التي تدخل الوحدة، كل جندي منكب على شأن يملك عليه ذاته وتفكيره، لاحظت ذلك وأنا أنظر إلى المدافع والدبابات متخوفة، وشاعرة في ذات الوقت بالاطمئنان.

توقفت القافلة فجأة بأوامر من أحد الجنود؛ وبدأنا النزول من الباصات إلى ساحة فسيحة، وأخذنا نسلم على الضباط الممتلئين قامة وعزما، وهو يصطفون على حافتي الممر.
في القاعة الكبرى لقيادة قـوات اليرموك، تصافح بصرك وأنت تدخل لافتة بارزة كتب عليها باللونين الأزرق والبني:
(أبطال الفيلق الثاني يرحبون بشعراء وأدباء المربد الثامن)
وفي لافتة أصغر من الأولى: (من قصائد الشعراء نستمد العزم)
وعلى ثالثة بنفس الحجم: (للقلم والبندقية فوهة واحدة)

استرحنا على المقاعد المثبتة في القاعة، ووزعت المشروبات بسخاء مربدي، ثم افتتحَ الحديثَ بكلمةٍ ترحيبيةٍ نقيبٌ في الثلاثين من العمر، ليفسح المجال بعده لقائد الفيلق الثاني الجنرال الجبوري، كان رجلا أربعينيا، أسمر اللون مديد القامة، رحب بضيوف العراق من أصحاب الكلمة الخالدة، ومجد الشعر والشعراء.

ثم جاء دور المربديين ليلقوا تحاياهم ويعبروا عن مشاعرهم؛ فتحدثت الدكتورة رشا الصباح من الكويت باسم الوفود العربية حديثا موجزا، كله تعاطف وتشجيع وتمجيد لبطولات الجيش العراقي.
وارتجل المستشرق الفرنسي والعالم الاجتماعي جاك بيرك كلمة متواضعة -على حد قوله- باسم وفده المربدي من الأوروبيين وباسم جمعية الصداقة الفرنسية؛ عبر فيها عن موقفهم تجاه العراق، وأثنى على الفارس العربي المجيد ممثلا في الجيش الباسل المرابط في الثغور، وكانت كلمته موجزة لبقة عميقة، وبعدها اختتمت الزيارة، وانفض الجمع وكل يبحث عن رقم حافلته.

كانت الباصات مكيفة ومريحة، والمياه المعدنية توزع على مدار الساعة، وتمايلت رؤوس الركاب على أنغام الموسيقى الناعمة لفيروز وهي تغني: (عودك رنان ياب عودك رنان)، وانتشى الموفدون بالصوت الشجي، وما عتموا أن تحولوا إلى فرقة من المغنين والراقصين.
وقطع أنغام الموسيقى والرقص المصاحب لها صوت المرافق العسكري وهو يعلن عبر مكبر الصوت: "الآن سنتوجه إلى الخطوط الأمامية للفيلق الثاني".

الساعة تشير إلى الثانية عشرة والنصف، أراض داكنة السمرة ممتدة مدى البصر، وعرفتُ لماذا أطلقوا على العراق أرض السواد.
وظهرت بحيرة حمرين الصناعية المرفدة لنهر دجلة، تتكسر أمواجها ببطء على أراض سمراء خصبة، يقول لنا وكيل وزارة الثقافة والإعلام: 
" لم تكن هذه البحيرة موجودة العام الماضي"!
نعم إنه نبض حي يتحدى في هذا البلد كل العقبات، ويهزأ بالتحديات، يتراءى لك ذلك في كل خطوة تخطوها بأرض العراق.

قطعان من الأغنام بنية اللون تظهر منغرسة في الأرض وكأنها نبت أثيث ٌأشيب، أعشاب قصيرة تغطي مساحات واسعة على طول البحيرة، وتظهر بين الفينة والأخرى أبقار تجترمتلذذة بتغميض أعينها وهي تأخذ لها حماما شمسيا.

والنخلة! لا تنسى النخلة أبدا، وأنت تطأ أرض العراق، تنغرس ببهاء كما الرجل العراقي؛ فكلاهما سامق الطول، متجذر في التربة.

بين الحين والآخر تظهر قرى ريفية متواضعة البناء، شُيدت من الطين الأحمر المسقوف بالأعواد والزنك،. الأطفال عيونهم مشرعة يتابعون قافلة الباصات والبسمات على وجوههم، وأمام المحلات التجارية المنتشرة ومحطات البنزين ترى أعدادا كثيرة من البراميل الحمراء تتخذ شكلا هرميا في ترتيبها.

كانت الأحاديث مفتوحة على طول الخط؛ يمتزج فيها التاريخي بالسياسي بالأدبي والفكاهي، وبدأت دوريات عسكرية تظهر إيذانا بدخول الثكنات، وانتشرت من حولنا الحواجز والمتاريس ومجمعات الرادار الكبيرة، والمدرعات، وإشارات ملونة تمتد أمامنا في خطوط طولية مستقيمة، و(كاسكتات) الجنود اللامعة تخطف الأبصار تحت أشعة الشمس، والطريق يمتد ويمتد على الأرض الصلبة، وتتفرع عدة طرق جانبية من الخط السريع الذي نحن عليه.

مساحات عديدة لم أدر كنهها تقطعها حجارة صفراء على شكل لعبة شطرنج، تقدمتنا سيارات عسكرية، وواكبتنا دراجات نارية وقد بدأ الطريق يتعثر حفرا وأخاديد تشق وجه الأرض، وتعدينا (قوات عباس) كما تنبئ الإشارة على الطريق، ولا زلنا نتوغل شمالا.

تراءت سحب كثيفة من الدخان تغطي الجو أمامنا، وبعد نصف ساعة من السير ظهر قسم ثان من قوات (عباس)، وتلألأ مجرى مائي في حميا الهجير، فإذا بنا على أعتاب مدينة خانقين، تبدو رائعة في معمارها ذي المسحة القديمة، ولاحظت أن أغلب المباني هي في سبيلها إلى الترميم، فالمدينة معرضة دوما للقصف، والآثار شاهدة على ذلك، إنها مدينة مُجَابِهةٌ.
السيارات الحمراء الكبيرة، وحاملات المدافع والصواريخ تكاد الأنفاق تُخفيها وسط المدينة، وكلها موجهةٌ صوب الغرب في انتظار اللحظة الحاسمة.

وتتداخل القرى الزراعية والأرياف بأبقارها وأغنامها البيضاء كنباتات فطرية بالثكنات العسكرية، والأراضي المستصلحة للزراعة، إنه ركب متكامل من المشاريع يسير في خط واحد منه الدفاعي والزراعي والتنموي والثقافي!

ولنتذكر دوما أننا ضيوف المربد الثامن؛ تلك التظاهرة الثقافية التي تضم مختلف الجنسيات، ويربو عدد ضيوفها على الألفين، والكل ينزلون في فنادق الدرجة الأولى: الرشيد - الشيراتون – ماريوت، والغرف مؤثثة بأرقى اللوازم والكماليات، والموفدون تلبى طلباتهم في أي وقت وبدون تأخير، سواء كان طعاما أو شرابا أو غسيلا، أوخدمات طبية، كل هذا على حساب المهرجان، ولأنك ضيف مربدي فتذاكرك على حساب المضيف كذلك. 
الاستثناء الوحيد في الرسالة التي تستلم من إدارة الفندق هو المكالمات الخارجية، والمشروبات الروحية.

أكوام التراب المكدس نسيت أمرها، إنها تسور كل شيء: ثكنات، ومحطات هجوم، وصواريخ عملاقة، لا تراها إلا عندما تتطلع وتدقق النظر.
توزعت قافلة الأوتوبيسات إلى قوافل صغيرة دخلت على شكل دفعات متخذة وجهات مختلفة ونحن على مشارف قاعدة الفيلق الثاني..
توقفت قافلتنا المكونة من خمسة أوتوبيسات أمام مرصد اليرموك، وجنديان فارعان يؤديان لنا التحية العسكرية. وبدأ الطريق ينحدر شديدا في طريق غير معبد، بعد كل عشرة أمتار سيارة وجندي، وشاهدت المرافق العسكري وجنديين معه يشقان الصفوف إلى المقدمة، فهل سننزل؟ لا أدري! لا يمكنك التنبؤ بما سيصير في الخطوط الأمامية وداخل قاعدة عسكرية.

بدأت أتوجس وأتلو من القرآن، لا شك أننا أصبحنا في خط المواجهة، وفجأة إذا بنا نتستأنف السير من جديد أزيد من خمسة عشر كيلومترا، ووصلنا الثكنة في حدود الثانية إلا سبعا وعشرين دقيقة.

استقبلنا المرابطون في الثغور بحفاوة بالغة، وتوزع الضيوف في قاعة كبيرة رصت فيها الكراسي الكثيرة، ووزعت المشروبات والفواكه، واستشعرت الطمأنينة والراحة.
ولكن الرحلة استؤنفت من جديد، فوضعت بقية برتقالتي على الطاولة، وتحسست بزتي العسكرية وواصلنا السفر ولكن هذه المرة إلى الجنوب الشرقي .

كان التجمع العسكري يقع في وهد منخفض، والجنود ببزاتهم وشاراتهم واقفون وكأن على رؤوسهم الطير. في المدخل ووسط حائط مستطيل تواجه خريطة أرضية ذات ألوان زاهية مختلفة، تُبين خطوط تواجد الجنود، وتضاريس الأرض، ومناطق التكاثف العسكري.
واجهتنا لافتة كبيرة ونحن نستعد للنزول كتب عليها: 
(إذا قال صدام قالت العراق).

كانت الساعة تشير إلى الثانية وعشرين دقيقة وكل المدافع الثقيلة مصوبة الفوهات إلى الأعلى، والجنود في سياراتهم مترقبون، وأسلاك طويلة محمولة على سيارات أخرى تملأ المكان، لم أحس رهبة وأنا أعاين المكان، وببرودة أعصاب وجدتني أقارن بين بزتي العسكرية وبزة أحد الجنود وهو يقف على مقربة مني.
وبدأت أقدم رجلا وأؤخر أخرى باعتداد وكأني في ساحة عرض عسكري.

وقفت جماعة من الضيوف على مرتفع، ووجهت إليهم العدسات، وفي الوقت ذاته انطلقت فوهات البنادق الثقيلة، ودوى صوت هائل وكأنما أطبقت السماء على الأرض!
أغمضت عيني وأسلمت أمري لله، وحين فتحتهما وأخذت نفسا عميقا، كان الجميع يضحكون ووجدتني أضحك لا إراديا، وفهمت بعد لأيٍ أن الوفد طلبوا أن يلتقطوا صورة على إطلاق المدافع الثقيلة. 
ثم أعادوا الكرة للتصوير الجهنمي، ولم تكن حالي بأحسن من المرة الأولى، وطلبت الله تبتلا أن تنتهي الرحلة بسلام.

وانطلقنا في خط العودة ، وكانت الباصات تنتظرنا عند المدخل المرصوف بحجارة طويلة، وعلى تمام الثالثة وصلنا الثكنة العسكرية.
الساحة فسيحة مغطاة بأعواد قصب السكر وسعف النخيل، وأمامها لوحة كبرى كتب عليها بالبنط الغليظ: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم).
تظهر الساحة على شكل صليب مقصوص الجناحين، في جنباتها رفوف حديدية عُرِضَتْ فيها كؤوس شرفية للنوادي الرياضية، وآلات نحاسية عتيقة، أخلدنا إلى الراحة.
كان مجرًى مائي داكنُ الزرقةِ يمر بجوارنا، وبساطة القاعة تجعلك تحس رهبة تعززها نظرات الجنود وهم يرتبون الضيافة.

أقاموا مأدبة غداء بالأرز ولحم الخراف، وأحضروا أنواع المرطبات والفواكه، وظل الجنود واقفين حريصين على خدمة الضيوف، وأياديهم الشَّـثْـنَـةُ تتسابق إلى وضع الأطايب في أطباق المدعوين.

في هذا الموقع المترقب المحموم كل شيء تطبعه البساطة والسماحة والهدوء والدأب.
صب الشاي العراقي أحمر صافيا في الكؤوس الزجاجية الصغيرة، وبدأ الجمع يستعد للعودة إلى بغداد وخرجنا من الخطوط الأمامية وكأننا انتصرنا في ساحة قتال.