إعلان

روسيا والغرب.. والأسئلة الراهنة

أحد, 07/30/2023 - 22:17

 

د. السيد ولد أباه

 

 

في قمة سانت بطرسبرغ الروسية الأفريقية المنعقدة هذه الأيام، كرر الرئيسُ فلاديمير بوتين تصريحاتِه السابقة حول ضرورة تحرر العالَم من «الهيمنة الغربية»، معتبِراً أن الصراعَ الذي تخوضه بلادُه في أوكرانيا يندرج في سياق مواجهة هذه الهيمنة «التي لم تعد مقبولة ولا ممكنة».

ليست هذه النغمة جديدةً في الخطاب السياسي الروسي، لكن الجديد هو طرحها على بقية بلدان العالَم خياراً استراتيجياً لضبط العلاقات الدولية في العالم الراهن. ومعلوم أن منزلة روسيا في الخريطة الغربية، ثقافياً واستراتيجياً، شكَّلت في السابق معضلةً معقدةً، باعتبارها تمثل امتداداً طبيعياً لأوروبا، جغرافياً وبشرياً وحضارياً، وتتداخل معها في السياقات التاريخية، لكن هويتَها تظل متميزةً ومستقلةً.

وعلى الرغم من أن ربع المساحة الجغرافية لروسيا فقط ينتمي للقارة الأوروبية، فإن قرابة ثمانين بالمائة من سكانها أوروبيون، وقد تشكلت تاريخياً الدولةُ الروسيةُ على أيدي السلافيين الشرقيين الأوروبيين، قبل أن يبرز عمقُها الآسيوي مع المغول في القرن الثالث عشر.

ليس مِن همنا هنا العودة إلى النقاش المتشعب حول الهوية والانتماء الذي قسم الساحة الثقافية الروسية ما بين التيار السلافي والتيار الغربي، في سياق المحاولات المهمة التي اضطلع بها القيصر بطرس الأكبر والإمبراطورة كاترين الثانية لفتح روسيا على أوروبا وتحديثها على الطريقة الغربية.

لقد اتفق أغلب المؤرخين على أن محاولات تغريب المجتمع الروسي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فشلت لأسباب عديدة، من بينها جذور التصادم الديني بين الكنيستين الأرثوذوكسية واللاتينية، وطبيعة التركيبة الإمبراطورية للدولة الروسية التي رفضت المحددات القومية المؤسِّسة لنمط الدولة الوطنية السيادية الحديثة.

وفي هذا السياق، كان الفيلسوف الألماني هردر يقول إن روسيا ليست أمة بل مجموعة شعوب وقوميات، ولذا لا يمكن أن تنجح فيها تجربة الدولة القومية التي ظهرت في غرب أوروبا، وذلك هو ذات الأمر الذي لاحظه هيغل وبنى عليه توقعه بتفوق وقوة روسيا.

وفي نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، برز اتجاه واسعٌ في الآداب الروسية للحديث عن ما سُميَّ «الروح الروسية» بما نلمسه في كتابات نيقولاي غوغول وديستوفسكي وتولستوي.. وقد ركزت هذه الكتابات والأعمال الأدبية على خصائص قيمية وثقافية مميزة من قبيل المعاناة والباطنية والسلوك الديني التقليدي والشخصية المحاربة.. في مقابل أفكار التنوير الأوروبي التي رأوا أنها لا تتناسب مع الحضارة الروسية العميقة. ثم واجه الماركسيون الروس الذين أسسوا أولَ دولة اشتراكية في العالم الحديث والمعاصر إشكالَ الانتقال من المجتمع الروسي الإقطاعي والمحافظ إلى النموذج الاشتراكي الذي هو المرحلة العليا من تطور المجتمعات الصناعية الأوروبية.

ويتعين هنا التذكير بأن لينين بلورَ الأطروحتين المركزيتين في الفكر الاشتراكي المعاصر رغم أنهما تتعارضان مع فلسفة ماركس نفسه، وهما: الدولة الحزبية المركزية المهيمنة، والقومية السوفييتية الجامعة بين مكونات المجتمع الاشتراكي.

وللفكرتين جذور روسية خاصة، تتمثل في تداخل الدولة الإمبراطورية القوية مع فكرة الأمة المتنوعة في التاريخ الروسي، على الرغم من طبيعة التجارب الاقتصادية والمرجعية الأيديولوجية المعلنة للدولة.

ولقد قيل الكثير عن خيوط الامتداد بين روسيا البوتينية والدولة السوفييتية التي كان انهيارُها «كارثة كبرى» حسب عبارة بوتين نفسه. لكن مما لا شك فيه أن بوتين ليس ماركسياً ولا يحن للعهد السوفييتي، لكنه يتبنى بوضوح خطابَ «الروح الروسية» التي يعتبرها متميزةً عن الغرب ومنفصلة عنه.

ونشير هنا إلى أن ميشال التشانيكوف، في كتابه حول مصادر فكر الرئيس بوتين، بيَّن أن مشروعه السياسي يتمحور حول أربعة مرتكزات أساسية: السوفييتية الجديدة المتحررة من الأيديولوجيا الماركسية، والنزعة السلافية التي يستند إليها في طموحه الاستراتيجي لاستعادة وحدة العالم الروسي الذي يضم بالإضافة إلى بلاده كلاً من أوكرانيا وروسيا البيضاء ومولدافيا، والنزعة الأوروآسيوية التي تحيل إلى أهمية المجال الحيوي لبلاده في القوقاز وآسيا الوسطى، والعقيدة المحافظة التي هي الإطار الفكري والأيديولوجي الذي تتبناه اليوم روسيا وتستقطب به تيارات قومية ويمينية عديدة موالية في أوروبا وبقية العالم.

بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، تزايدت وتيرة الخطاب الروسي المناوئ للغرب، والذي ينعته بالإفلاس الأخلاقي، مع اتهام العولمة الليبرالية بوصفها استراتيجيةً غربيةً للهيمنة والتحكم في العالَم، ومن ثم البحث عن أطر للشراكة الفاعلة مع قوى وتجمعات دولية أخرى من أجل إعادة بناء قواعد النظام الدولي على أسس متوازنة وعادلة. ولا شك في أن هذا الخطاب يغري النخبَ الأفريقية الجديدة، رغم الأسئلة الكثيرة المطروحة حول صدقيته ونجاعته العملية.

*أكاديمي موريتاني