إعلان

الكسكس بلحم الكبكب

اثنين, 09/18/2023 - 00:05

عبد الله محمدن امون 

 

 

كان انتقالنا إلى حي المنزه السابع الراقي أشبه بسفر عبر الزمن بعد سنوات من التدحرج في الأحياء الشعبية بدء من باردو مرورا بابن خلدون ثم الإنطلاقة وانتهاء بضاحية لمنيهلة التي تحتل في تونس العاصمة مكانة مقاطعة الميناء بالنسبة لمدينة نواكشوط.

بعد أن رصت الصحون في المطبخ ورتبت الأسرة في الغرف وعرف كل منا مكانه، حان وقت الإصغاء إلى قرقرة الأمعاء التي بدأت تخرج عن السيطرة.

توجهت إلى المجزرة القريبة من عمارتنا، القيت التحية على الجزار وتعارفنا بشكل سريع.

ما أزال أتذكر أن اسمه محمد أعلى.

كان شابا في العشرين، بشوشا يظهر من جسمه الممتلئ ووجهه الوردي أن اللحم الأحمر لا يغيب عن مائدة ذويه.

كانت اللحوم الحمراء في تونس تحتل منزلة وسطا من حيث السعر بين الدجاج والسمك.

قلت للجزار : أريد دينارين من اللحم، سن الشاب سكينه واقتطع هبْرةً من كتلة اللحم المعلقة، لفها في ورقة ودفعها إلى.

لفت انتباهي أنه باعني جزافا ولم يستخدم الميزان،

أخذت اللفافة غير مصدق وغادرت.

لم يكن حجم الهبْرة يتناسب مطلقا مع الثمن المدفوع، تلك الكمية من اللحم الخالص لا يقل سعرها عن ستة دنانير.

ولأن الرجل كان يبدو واعيا لتصرفاته، ولأني أستبعد فرضية الكرم الزائد أو "تعزريت الخطار" فقد ترجح لدي أن للأمر علاقة بكرامات الصالحين وخوارق العادات.

عدت إلى المنزل مزهوا بجلب تلك الكمية من اللحم التي تعدل وقتها نحر جزور.

في اليوم الموالي أعدت الكرة فتكرر مشهد الأمس، فكبر الزملاء واتفقوا على أن تلك كرامة ولي لا غبار عليها، كما اتفقوا على أن أنفرد بالذهاب إلى الجزار حتى لا ينكشف السر المكتوم فالكرامة تزول إن انكشف عنها غطاء الحجْب وهو أمر لم نكن لنرغب فيه.

استمر الحال أكثر من اسبوع ونحن نرتمي باللحم والشحم كصويحبات امرئ القيس لما عقر لهم ناقته.

هجرنا الدجاج وأعددنا الأرز باللحم وأصناف المنتجات القمحية باللحم وكم كانت نكهة الكسكس بالذات شهية بذلك اللحم.

ولما أفقنا من سكرة تناول اللحم الأحمر لأيام وليالي متتاليات بدأ بعضنا يستشعر طعما خاصا، بل إن بعضنا خيل إليه أن تغيرا حصل في سلوكه، تساءل أحد "المكثرين" عن جنس الحيوان الذي ننهش لحمه لأكثر من اسبوع، مؤكدا أنه قطعا ليس من جنس الغنم، فرد آخر قائلا هذا بالتأكيد لحم بقر، نعم، طعمه يدل على ذلك. علق ثالث بأن الأمر ليس ذا بال بالنسبة له، وما دام اللحم سمينا وطيب المذاق فاليكن لحم وحيد القرن إن شاء.

تدخل متحاذق رابع قائلا: أنتم لا تميزون بين لحوم الزواحف ولحوم ذوات الأربع، هذا يا سادتي لحم بعير تغذى زمنا على الثُّمام والعوسج.

ولأن نفسي وقع فيها من أمر اللحم ما وقع في نفوس الآخرين، ولأن المجزرة كانت على مرمى عصا من البيت، وحتى أقطع الشك باليقين، انسحبت في هدوء قاصدا صديقي محمد اعْلي.

اصْباحْ الخير خويا،

بربي سامَحْني، اللحم الِّي نشْرِيوْ منِّك كُلْ يوم، هذاكَ الْحمْ امْتاعْ اشْنُوَّ ؟

اصْباحْ الخير خويا لَعْزيزْ، هذاكَ الْحمْ امْتاعْ خَيلْ،

نعم!!!؟ امْتاعْ اشْنُوَّ؟

فأعاد مؤكدا جوابه، هذا لحم حصان.

أحسست للحظة بتقلص في الأمعاء ورغبة في التقيؤ، لكني تماسكت وقلت للجزار، لمَ لمْ تقل لي منذ أول يوم أنك تبيعني لحم حصان. فقال، أنت لم تسألني، ثم إن لحم الحصان خلال، والكل يأكله. قلت له أنا لا أناقش حكمه الشرعي، ولو كنت مستفتيا عن الحكم لكانت لي مندوحة عن استفتاء جزار، أنا من مجتمع نصفه يعاف أكل السمك، فكيف يستسيغ أكل لحوم الخيل.

ترددت وأنا في الطريق إلى البيت هل أخبر الزملاء بما علمت.

لم أكن حينها أعلم أن رأي الجمهور على إباحة أكل لحم الخيل، ولا أن حديث خالد في النهي عن أكلها ضعفه الألباني ووصف البيهقي اسناده بالمضطرب، وحكم أبو داوود بنسخه.

كل ما خطر ببالي حينها هو أن الخيول شقائق البغال والحمير، وأن الآية جمعت ثلاثتهم في نطاق المستخدم للركوب والزينة دون ذكر للأكل، ولم أعلم أن العلماء أجابوا عن ذلك بـ " أن ذكر الركوب والزينة لا يدل على أن منافع الخيل مقصورة على ذلك، وإنما خُصا بالذكر لأنهما معظم المقصود من الخيل، وقاسوه على عدم ذكر الآية للخيل حين تحدثت عن حمل الأثقال على الأنعام في قوله تعالى : ( وتحمل أثقالكم ) ولم يلزم من ذلك تحريم حمل الأثقال على الخيل.

عدت إلى المنزل وقد هدأت حدة النقاش فقلت دون مقدمات أيها الزملاء: إنكم تأكلون لحم الخيل منذ أن حللنا في هذا المنزل.

تفاوتت الردود بين مشمئز ومستنكر، وغير مبالٍ، لكن أطرف التعليقات كانت حين قال أحدهم: أهييييه، لخبار ذيكي، واتبع قائلا: أنا ألاحظ منذ مدة رغبة جامحة في الرفس والركْل، وتكون أقوى ما تكون أثناء و بعيد الانتهاء من الأكل، الآن عرفت السبب.