منذ أن قرأت في صحيفة "لوموند" الفرنسية خبر ترشيح رواية "صمت الآفاق" لصديقي وزميلي الكتاب المبدع أمبارك ولد بيروك الملقب "شَيْخُ"، لنيل جائزة Orange المخصصة لتكريم الكتاب الإفريقي.. وأنا أتابع باهتمام هذا المسار وأتضامن مع صاحبه، آملا أن يتككل بالنجاح لصالح بيروك أو "شَيْخُ" سرديات الصحراء الكبرى.
في الحقيقة إن ما يقوم به الروائي الكبير "شَيْخُ" هو بجدارة صياغة أدبية راقية "لأشياء صغيرة غارقة في تراث المجال الموريتاني-الصحراوي" بأسلوب فرنسي رفيع وجميل ليقوم بإعادة إنتاجها، ويقدمها للعالم قطعا أدبية تقطُر إبداعاً ومتعة وإفادة. ولعل "شيخُ" يتقن أكثر من غيره هذه الصنعة الأدبية الراقية، حيث نجده يحرص دائما على تعريف نفسه على أنه كاتب بالفرنسية francoscribe وليس مجرد ناطق بالفرنسية francophone.
تعجبني كثيرا روايات "شَيْخُ" ويؤسفني بحق بأن إنتاج هذا الأديب الموريتاني الكبير ما يزال غير معروف تقريبا في الأوساط الثقافية في بلاده خاصة لدى القراء باللغة العربية. ولم ينل بعدُ حقه من الإهتمام والتكريم في المشهد الثقافي الوطني، رغم ما حققه صاحبه من نجاح على المستوى الدولي. ولعل مردّ ذلك هو فارق اللغة، حيث دأب كاتبنا الكبير على التأليف باللغة الفرنسية التي يجيد الكتابة بها بشكل نادر. أتذكر في لقاء ماض معه بأني داعبته قائلا: "متى ستصدر هذه الرواية الجميلة بالعربية؟" وكنت أعني "صمت الآفاق".. فرد علي بعفويته المعهودة والصادمة أحيانا: "أح أص.. ما عندي ش ظرك لذاك من طول أخبار أهل العربية"..
ولعل من أبرز ما يميز أديبنا الكبير "شَيْخُ" هو غزارة الإنتاج، فهو يظل الكاتب الموريتاني الوحيد حسب علمي، الذي نشر روايتين جديديتن في سنة 2021 هما: "صمت الآفاق" silence des horizons» «Le الصادرة في شهر مارس من السنة الماضية عن دار elyzad في تونس؛ وقبلها بقليل، صدرت له رواية "المنبوذون "Parias" في فبراير 2021 عن دار Sabine Wespieser في باريس.
في الحقيقة، تقدم هاتان الروايتان كتلة سردية واحدة من الأدب الرفيع والإبداع الخلّاق. وقد صيغتا –كالعادة- بأسلوب الكاتب الجذاب والأنيق. إنه نوع من السهل الممتنع الذي دأب عليه الروائي "شَيْخُ" في دميع سردياته؛ حيث نجده يمزج بشكل ساحر -تعبيره عن تداخل الأفكار وتشابك الأحداث في كلا الروايتين- بين عفوية السرد وجزالة اللغة وسلاسة السبك ودقة الوصف. يكتب الروائي "شَيْخُ" بتمكن هائل من ناصية اللغة الفرنسية. ويغلب على طريقته البارعة في الكتابة، استخدام مرهف وموفق للمفردات الرصينة التي لا تخلو من غريب اللغة الفرنسية وقديمها المعتق الذي لم يعد مستعملا إلا في المعاجم والقواميس.
وكما في جميع رواياته السابقة ابتداء من (ونسيّت السماء أن تُمطر، 2006)، و (إيگيوْ الأمير، 2013)، و (طبل الدموع، 2015)، ووصولا إلى رواية (أنا.. وحدي، 2018)، ظلّت روايات "شَيْخُ" تشكل حكاية سرمدية عن عوالم المجال الصحراوي وعن ثقافة موريتانيا المعاصرة وتحولاتها العسيرة. وإذا كان من المُسلّم به أن هذه الروايات تسلط الضوء على الكثير من الظواهر في الحياة الإجتماعية والثقافية، وتوثق الإتجاهات الرئيسية للتحولات المجتمعية والثقافية الكبرى في بلادنا، فإن لأعمال "شَيْخُ" الأدبية أيضًا نطاقا أوسع يتجاوز حدود القطر نحو تخليد عوالم الصحراء الكبرى وسردياتها المتميزة.. وبذلك، فإن روايات "شَيْخُ" إنما تجسد تدويلًا أدبيا لقيم وتقاليد موريتانية معينة، تنتمي في العمق الثقافي إلى سجل الصحراء الكبرى وتقاليدها السردية الأسطورية المُبهرة .
في رأيي، تشكل روايتا "شَيْخُ" "Le silence des horizons" و"المنبوذون "Parias كتلة سردية واحدة. وهما تكملان بعضهما البعض بطريقة تجعل من كل منهما استمرارًا للأخرى.
وفي حين أن رواية "صمت الآفاق"، فضلا عن الدراما النفسية والعائلية التي يعاني منها بطلها الرئيسي، تأخذنا إلى أعماق الصحراء، ذلك المكان المهيب الذي تحتفي الرواية بتصوير جماله الطبيعي الفريد الذي يتعرض بشكل متزايد لمختلف أنواع التهديدات بدء من التصحر وليس انتهاء بالعنف والتطرف؛ في حين أن رواية "المنبوذون" تشكل استعارة معبِّرة تحكي المصاعب والإضطرابات الخطيرة التي تعصف بنمط الحياة البدوية عند مواجهته للتداعيات غير المحسوبة لمسلسل التحضر القسري والعشوائي في عصر العولمة.
وفي كلا الروايتين، تظهر طريقة الحياة البدوية، على الرغم من بعض التحفظات لدى الكاتب، كعامل مُطمْئِن ومألوف في مواجهة العدائية الصارخة التي مافتئت تفرزها البيئة الحضرية التي اجتاحتها- دون مقدمات- حضارة بدوية تتميز حياتها بالمشقة لكنها تبقى حياة تغمرها البساطة والبهجة.
في الأساس، تشترك روايتا "شَيْخُ" في تشابه أرضية البناء الروائي حيث تركز كل منهما- وإن بطريقة مختلفة- على إعادة بناء مفردات الحياة وتداعياتها المأساوية المختلفة لثنائي الشخصيتين الرئيسيتين في كلا الروايتين وهما: الإبن وأبوه في "صمت الآفاق" ثم الأب وأبنه في "المنبوذون".. ورغم بعض التشابه فيما بين هذين الثنائي، فإن مسارات الأب والإبن تتناقض تماما في الشكل كما في الجوهر.
وبينما نجد في رواية "صمت الآفاق" مونولوج الشاب المعذب بعقدة الذنب بسبب جريمة قتل "الشيخ" التي تم إلصاقها بوالده وبقيت تطارد الإبن، يشبه إلى حد كبير مرثية طويلة لرجل يحاول إسكات العفاريت التي تفجر كيانه الداخلي، فإن قصص الأب والإبن في رواية "المنبوذون" تشترك في إظهار كل العنف الذي يغلي في مجتمع يمر بمرحلة انتقالية، حيث يجري جزء كبير من وقائع الرواية في حي فقير هو "PK7". وهي تسمية نكرة تجرد المكان أكثر من إنسانيته، في تلك الحياة الحضرية الهشة والعابرة، بما تعج به من عنف جسدي ورمزي مجنون، أصبح اليوم –بكل أسف- أكثر دراماتيكية، وكأنه يصرخ بوجوهنا في حياتنا اليومية.
في تلك الرواية يحيل مفهوم "المنبوذون" إلى البدو الرحل وإلى النازحين من الأرياف وكل المهمشين في المدن. هؤلاء السكان هم على وشك الإنقراض، وهم يحاولون بأي ثمن الحفاظ على بقايا هويتهم. يصف "شَيْخُ" مجتمعًا منقسمًا بين سكانه البدو وأهل الريف، وأولئك الذين يعيشون لعدة أجيال في المناطق الحضرية.
كما نجد أيضًا في كلا الروايتين ذلك العالم الخيالي لحكايات الجن، تلك المخلوقات الخارقة للطبيعة التي تميز الأساطير العربية والإسلامية؛ بينما يحاول الروائي أن يوظف ذلك التمييز الأسطوري القديم بين "الجن الطيب" و"الجن الشرير"، في خلق مسارات للسرد ذكية وواعدة تنضح بثراء قصصي ماتع، من خلال حكاية الشاب الجني الطيب "أوموم" في رحلته الإستكشافية بين الكواكب والمجرات الكونية التي كان بطل رواية "صمت الآفاق" يرتجلها من أجل إمتاع أطفال السياح الأوروبيين أثناء رحلتهم لعبور الصحراء، ولكي يخفف أيضا من حمى معاناته الداخلية الصامتة..
يقول "شَيْخُ" في رواية "صمت الآفاق": "لا تريد ولاته أن ترى أحداً، فمئات الكيلومترات تفصلها عن الآخرين.. إنها تحب أن تكون بمفردها، وهي تزهو بصورتها وتعجب بنفسها في مرآتها الرملية، في الرسومات الجميلة على جدرانها، وفي زخارف كتبها القديمة. ثم أن ولاته ليست في الحقيقة من ذات طبيعة مدننا، فقد استلهمت الكثير من ثقافة وقيم الجميع لدرجة أنها لم تعد هي نفسها تعرف من هي.. لطالما كانت مدينة عالمة ومدينة مغناج للغاية.. وقد ظلت كذاك بالتأكيد بالنسبة لنا - نحن الآخرين ، أجلاف البدو الرحل..
إنها ولاته التي احتضنت جمال إمبراطورية مالي عندما كانت عظيمة، و أخذت كل شيء من المرابطين عندما كان لديهم إيمان عميق، وخدعت المغاربة ، وعرب معقل، وغزاة الفوُلّان المتعصبين، وأولاد أمبارك، وقبيلة مشظوف، حيث اعتقدوا جميعًا -في وقت من الأوقات- بأنهم قد ظفروا بالمدينة الأسطورة.. لكن الأمر لم يكن كذلك.. لقد خدعتهم جميعًا، و انتزعت منهم النزر القليل لكنه الأساسي.. ثم عادت ولاته إلى ما كانت عليه دائمًا.. ولاتة المدينة ذات الدلال والغنج، التي تتعالى دوما على كل ما سواها".
في هاتين الروايتين - كما في سابقاتها- ينقلنا الروائي الكبير "شَيْخُ" بين عوالم مُبهرة ومُشوقة.. تذكرني سردياته بأساليب روائيين كبار من الشرق والغرب.. فكتاباته تشبه إلى حد كبير روايات شيخنا التشيكي ميلان كونديرا، خاصة عندما يتعمق في تحليل النفس البشرية، ويعيد تركيب آليات النوازع والدوافع والبواعث في السلوك البشري.. كما يشبه أسلوب الروائي "شَيْخُ" أيضا روايات الكاتب والفيلسوف الليبي إبراهيم الكوني في دهاليز فلسفته حول الصحراء كفضاء مكاني مخصوص..وسردياته حول الطبائع والنفسية والعقلية المتميزة للإنسان الصحراوي.. كما أن الروائي "شَيْخُ" يستحضر نَفَسَ الروائيين الأفارقة الكبار من أمثال السنغالي صامبين عُصمان، حيث لا يتبع السرد والتسلسل الزمني بالضرورة خطا مستقيما؛ بل نجد هناك تشابكًا في الأحداث وأقدار ومصائر الشخصيات وأفعالها، يتجلى من خلال تعدد المحاور الزمنية، والمساحات الجسدية والعقلية التي تفترق وتتقاطع ثم تتحد في بؤر سردية مركّزة.. نجد أيضا بأن أسلوب الكتابة لدى الروائي "شَيْخُ" يتثاقف مع الروائي الكبير اللبناني-الفرنسي أمين معلوف، حيث يتقاسمان التمكن الحقيقي من ناصية اللغة الفرنسية، واستعذاب غريب مفرداتها وتعابيرها، وكذلك القدرة على تثوير التاريخ أدبيّا وفلسفيّا.. وهي –بلا شك- مهمة إبداعية شاقة ومبهرة..
في النهاية، لن يُفاجئني أن تفوز رواية "صمت الآفاق" بجائزة تكريم الكتاب الإفريقي. إنها استمرار لأعمال "شَيْخُ" الأدبية السابقة.. وهي بجدارة رواية تغوص في أغوار النفس البشرية، مستبطنة دوافع السلوك الإجرامي لدى البطل/الراوي من خلال رسم ملامح تراجيدية لجنيالوجيا العنف والقتل في التاريخ المجتمعي الموريتاني، عبر ومضات وإشارات تستحضر ثنائية ذلك الصراع التاريخي بين العرب والزوايا.. خاصة عندما يهيم البطل "العربي" على وجهه هاربا بعد أن اعتقد بأنه قتل "بنت الشيخ/الزعيم" خنقا على شاطئ البحر في انواكشوط.. مترددا بين الرغبة في تسليم نفسه للعدالة وبين إغراء الإختفاء في الصحراء على آثار والده الذي عاش هو الآخر تطارده شبهة قتل "الشيخ/الزعيم" والد الفتاة الضحية، قبل عشرات السنين وضمن ظروف أخرى مغايرة تماما..
وتتجلى القدرات الإبداعية للكاتب "شَيْخُ" في هذه الرواية، ليس فقط في جزالة الأسلوب وقاموس المفردات الرفيع، ولكن أيضا في التمكن من نسج "أساطير موريتانية" معاصرة غاية في الروعة ودقة التعبير، تعيد إنتاج قصص أنسنة "أهل لخله" في الموروث الشعبي لكن ضمن ديكور العولمة وحرب النجوم..
باختصار، لقد فتحت رواية "صمت الآفاق" للزميل "شَيْخُ"، آفاقا رحبة وجديدة أمام السرديات الموريتانية ةوسرديات المجال الصحراوي عموما، ربما تمكنها قريبا من الإرتقاء بجدارة إلى مصاف الأدب العالمي ..
ولا شك بأن الروائي"شَيْخُ" هو صاحب مشروع فكري/سردي طموح.. وتستحق رواياته المطالعة والإحتفاء بها. فهي في النهاية تبقى أدبا إنسانيا رفيعا بقدر ما هي إنتاج أدبي موريتاني أثبت جدارته في المنافسة على المستوى الدولي، وقد آن له يأخذ مكانه اللائق في المشهدين الثقافيين الوطني والدولي.