نص كتاب: "هذا بيان لسكان هذه الصحراء"

خميس, 04/17/2025 - 23:58

المختــــار الســــــالم

 

هذا بيان لسكان هذه الصحراء

أيها الصحراويون أو "البيظان" لقد دقّتْ ساعة المصارحة

إليكم جميعاً في موريتانيا والمملكة والجزائر وتونس وليبيا والشتات أتحدّث

 

"ويل للعرب من شرّ قد اقترب"

حديث شريف

 

***

" ألا يا قومَنا ارتحلوا فسِيروا،

فلو تُرك القطا ليلاً لَنامَا"

حذام بنت الريان

***

"أرى تحت الرماد وميض جمرٍ

                   ويوشكُ أن يكون له ضرام

فإن النار بالعودين تُذكى

                   وإن الحرب مبدؤها كلام

 

فإن لم يطفها عقلاء قَوْمٍ

يكون وقودها جُثَثٌ وهام"

نصر بن سيّار

***

"الصحراء أرض الأفاعي الفاتكة ولكنها أيضا أرض النبوءات الكبرى، الصحراء أرض كبار قطاع الطرق وشذاذ الآفاق ولكنها أيضاً أرض النبلاء والأنفس الكريمة النقية، أرض الأبطال وقادة الملاحم التاريخية".

هذه الكلمات كتبها شاعرٌ أو مجنون أو هما معاً،
ولكنَّ الحكمة قد تُؤخذ من غير حكيم كما تؤخذ من أفواه المجانين، فالرائد أيا يكن لا يكذب أهله.

 

الشاعر المختار السالم-1-

لدى الناطقين بالعربية الحسانية أو الصحراويين كما يسمون جغرافياً أو "البيظان" كما يسمون اجتماعيا بوصلتهم، لديهم في هذه الصحراء المترامية الأطراف إبرتهم المغناطيسية التي لا تخطئ أبداً. وعُمْر هذه البوصلة هو عمر خبرتهم بهذه الرمال والتلال. هذه المفازة، الأدغال، القفار المهيبة؛ بكرًا كانت أو ثَــيّباً، فهي ولودة بالتّيهِ والضّياع، لكن ليس على ذلك الملثّم الجسور الذي طالما افترش روحَهَ جسراً لتستمرّ الحياة بالعبور في هذه الأرضِ!

تلك البوصلة لم تكن إلا شجرة الطّلح، إذ لا ينبت الطلّح في هذه الصحراء إلا مائلاً إلى جهة الجنوب، ومن تحديد جهة يمكن بسهولة تحديد باقي الجهات. هكذا كانوا في هذه البلاد حين تهبّ العاصفة مثلا أو ينتشر الغمام والضباب فهم لا يفزعون من الضياع، لأنّ أول شجرة طلح يصادفونها سوف تدلّهم على معرفة جهتهم، ومن طريقة انحنائها تحديداً.

لكن ذلك في التعامل مع القفر بغيلانهِ وغوائلهِ وغدره ومصاعبهِ. فماذا عن تعاملهم مع السياسة؟

إنّ دور الكُتَّاب ليس مجاملة الجمهور ولا مجاملة السلطة، ولا مجاملة الشعب ولا مجاملة الدولة، ولا مجاملة الرأي الرسمي ولا مجاملة الرأي الشعبي، دور الكاتب هو فضح كل عتمة وتوجيه النظر إليها كي تضاء. ثم إنّ منْ تحترق داره فمن الجنون أن يبقى مستلقيا مسترخيا على الأريكةِ يحلم أن الحرائق الملتهبة لن تقضي على كل غرف الدار أو يُطمئن نفسه بأن المشاكل مهما تكن ليست "أكبر من قدرها".

 

إن الحروف التالية ليست استبصاراً، فالصحراء برغم أنها مُنجبة الأنبياء، فهي بارعة في اقتلاع كلّ عين زرقاء.

إنني أرى أهل الصحراء أو "البيظان" في موريتانيا وفي المغرب والجزائر وفي الشتات الآن بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى التحديق في "الطلح" ولو لم يكن نضيدًا. فالمفازةُ تزدادُ خطرا، والخياراتُ تقتربُ من تجسير النّهاياتِ نحو ما لا تحمد عقباه.

بداية، دعونا نتساءل مع الذين تساءلوا خلال السنوات الأخيرة: "هل الكتابة عن "البيظان" تمييزية؟"

إن الكتابة عن الصحراويين أو "البيظان" مثل الكتابة عن المكونات الثقافية أو الاجتماعية الأخرى، تكون واجبة ما استهدفت الخير، ما سعت إلى ما يجمع وما ينمي وما يحفظ الجسم كلّه، وما كانت في صالح الإقليم وحضارته، ثمّ ما كانت في خدمة الأهداف العليا التي تناقض كليّا المشروع الاستعماري بمشارطه وحدودهِ.

 

-2-

منذ القرون الخمسة الماضية تم استهداف الصحراويين أو "البيظان" من طرف القوى الاستعمارية الكبرى (البرتغال، إسبانيا، هولاندا، بريطانيا، فرنسا). ولم يكن الصحراويون وحدهم المستهدف بخرائط الاستعمار، التي "فصَلَتْ وفصّلَت كل شيء.

وكان أن حزّ مشرط التفتيت في مكوّن "البيظان" كما حزّ في مكونات أخرى عربية وإفريقية في المنطقة المستباحة، فمثلاً وزعت قومية الفلان وقوميات إفريقية أخرى نحو "سياسة الشتات" لتعاني الأمرين بين الحدود والمصالح والأمزجة.

لقد أصرتْ فرنسا الديكولية إصرارا شرسا غريبا على إنشاء كيان في الصحراء سمّــتْه وما تزال تسميه موريتانيا.

إبان عهد "الاستقلالات"، وجد الرئيس الأسبق المختار ولد داداه (رحمة الله عليه)، نفسه مدعوا كغيره من الشخصيات العربية والإفريقية إلى تسلم وثيقة الاستقلال الصوري التي فَرضتْ عليه، الاستقلال الذي لم يكن لديه من مقوّماتهِ غير تلك الوثيقة الصورية المكتوبة بلغة أجنبية والمعلن عنها في حفل "استقلال" في نواكشوط كل حضوره تقريبا أجانب جاءت بهم السلطات الاستعمارية التي جعلتْ كل شيء في ذلك الحفل السوريالي الغريب بلغة المستعمرين وكرّست كل الخُطب لشكر المستعمرين والاحتفاء بهم، لتمجيد المستعمرين ومدعويهم الحاضرين وتجاهل "المستقلين" الغائبين. وخلال سنوات قليلة على هذا "الاستقلال" الهزلي، كشّر الاستعمار الفرنسي عن أنيابه، فصبّ الزيت على النار، وحرّك الملف العرقي لتدمير هويّة البلد، وكان ذلك صدمة كبيرة للرجل، الذي وجد بعض مواطنيهِ فرنسيي الولاء قد أخذ مطية التأجيج العرقي واللساني سبيلا للحفاظ على المستعمرة مستعمرةً.

وقد واجه الرجل بحنكة مقدَّرة دخول الطوابير الخامسة في المنطقة على خط الترهيب، فتجاوز الخُطُوط الحمراء، وأسّس عملته الخاصة وحاول التّخفيف من هيمنة لغة المستعمر، وتحرّك نحو المغرب والجزائر بوصفهما العمقين الإستراتيجيين للبلد ومُـجتمعهِ، فبدأ السّعي علنا لنوع من الاندماج أو الوحدة معهما، وقد اتضح من خلال تتبّع التقارير أنّ الرجل كان يطمح لكونفدرالية مغاربية تشكّل نوعًا من إعادة الإرث للورثة، وحماية للإقليم.

لكن للأسف جاءت هذه المحاولات في وقتٍ كان فيه الغرب مُصمّما على منع انبثاق قوة إقليمية من المغرب والجزائر، الجزائر التي تحولت إلى أيقونة للنضال العالمي بوسم مليون ونصف المليون شهيد.

وسريعًا وجد المختار ولد داداه نفسه مرغما على الاختيار بين المغرب والجزائر، بين عينيه ويديه وقدميهِ وقلبيهِ. وكان الخيار صعبا وثمنه "حرب الصحراء"، التي كانت مشروعا مبكّرا لوأدِ "الحلم المغربي" كلّه وليس فقط "دولة البيظان".

 

-3-

قبل ميلاد الدّولة الموريتانية من "مرقّعة جغرافية" أو "مبتّــرة جغرافية"، ثار جدل صحراوي صحراوي كبير وصل بـأصحابه حدّ حمل السلاح، ضد انفصال موريتانيا عن عمقها المغربي، وانقسم مجتمع "البيظان" إلى مجموعتين:

مجموعة التحقت بالمملكة وعملت في ذات الوقت من الداخل من أجل الوحدة، أو عودة الشقيق إلى شقيقه، ومجموعة قادت "الاستقلال" الوهمي وعملتْ في إطار المشروع الفرنسي لـ"استلام" إدارة مدنية إدارية لتأسيس الدولة، وكانت باريس بطبيعة الحال قد اتخذت قرارها من خلال وقفة تجسّس جبلية قام بها الجنرال شارل ديكول في أعالي جبل كدية الجلّ... حيث كرّر حديثه الوريدي عن "دولة الصحراويين"، عن موريتانيا التي "لا يمكنها البقاء طويلا ولكن من مصلحتنا كفرنسيين أن تبقى لفترة ما قبل أن تنهار". تأمّلوا تلك العبارة جيّدا!

يمكن القول بدون جرأة إن المختار ولد داداه انحاز، في ظرف سنوات قليلة، إلى "مشروع الأصل"، إلى توحيد الأصل مع الأصل حتى لا نقول الفرع مع الأصل. وهذا خيار معروف أخذت خطوات الرجل وكلماته ومساعيه وخططه مساره دون تَهيّب، وهو ما يبدو أنّ بعض الأدبياتِ تريد القفز عليهِ، فالمختار ولد داداه بعد الاستقلال سار في مسار الوحدة العربية والوحدة المغاربيةِ، لكنه اصطدم بإرادات الدول العظمى تجاه مصير المنطقة المغاربية، وهو مصير سعى إليه الاتحاد السوفياتي بنفس القدر الذي سعى إليه أصحاب الحنين شمال جبال البرانس، الذين لا يريدون نسيان "التهديد" المغربي، وتحديدًا "أرض الصحراويين"، عبر جيشي بن زياد وبن تاشفين.

قبل أن يحاول المختار ولد داداه الخروج من الزنزانة الفرنسية، علينا أن نذكّر بأنّ الدولة في هذه المنطقة كانت "مغربية أو مغاربية" بامتياز، إذ أسّس "البيظان" أول دولة مركزية مغاربية في التاريخ، أو حتى في الغرب الإسلامي، ولم يؤسّسوا العاصمة شمالاً، أي "مراكش" من العدم، فحسب، وإنما تركوا أثرا عمرانيا وتنظيميا واجتماعيا جذوره أعمق من أي أثر آخر.

ولاحقا ظلّت الدولة بمفهوم السلطان والمرجعية العليا في الشمال، وهو ما لا يتناقض بل يتأكد عبر السلطات التي امتلكتها الإمارات العربية الحسانية في بسط نفوذها في فضاء وادي درعة ثم من وادي نون إلى سين لوي إلى أزواد، وقد كانت تلك الوضعية في القرون المتأخرة مجال أخذ وردّ بين الفقهاء "البيظان" ذوي الخلفية الصنهاجية غالباً، إلى أن دعتْ الضرورة الملحّة لضبط الكيان، فكان مشروع الشيخ ماء العينين من خلال عناوين كثيرة أبرزها "غزي لركاب"، الذي جمع الشيخ من خلاله نخبة "البيظان" في سبيل مشروعية محدّدة، أنهيت بتصميم الدول الاستعمارية على منع أي وحدة للإقليم المغربي أو أجزاء مؤثرة منه، وخاصة "الشاطئ الأطلسي المغاربي"، إلى أن فرضت فرنسا "استقلال" هذا الإقليم كغيره من "الدول" التي خرجت من رحم المشرط، موزعة الوطن الواحد فواصل حائلة بين المرء وقلبهِ ناهيك عن أخيه.

-4-

"إن موريتانيا هي الصحراء والصحراء هي موريتانيا" هذا ما كانت إذاعةُ نواكشوط أو "نواكشوط والداخلة" تُكرّر خلال سنوات حرب الصحراء، خلال سنوات اقتتال الأشقاء التي كانت تفتَــتِح فيها نشراتها بعبارة "هنا نواكشوط والداخلة". والحقيقة أن حرب الصحراء جاءت لتُغلق الحدود الشمالية، ولتمنع على الصحراء أن يعبرها غير الرصاص والدم السائل! ثمّ ليخرج الصحراويون "البيظان" من تلك الحرب، ليس بخسارة معركة، وإنما بخسارة روحهم وجسدهم، إذ تكرّستْ القطيعة، وضاع الصحراويون، الموريتانيون منهم والجبهويون على حدّ سواء، بين الرمال، انقسم "البيظان" بين من مات ومن تاه ومن ينتظر من سين لوي إلى تندوف، من أحياء القصدير إلى مخيمات الأسئلة الوجودية المعلّقة أو المسكوت عنها. وبدأتْ "الدولة" الوليدة تفقد رصيدها المحدود بسرعة عداد لا يرحم، فعجزتْ عن تثبيت حتى لغتها الرسمية لغة إدارة، وغرقتْ في مشاكل الفقر والتخلف، في ظل تحجر عجلة التنمية.

وكان حتميا أن يقود هذا الوضع، وليد العاصفة، إلى التلاشي على مدى معين برغم "الحدود الإسمية" للدولةِ، وقد بدأ ذلك بالسعي لتفكيك نواة مجتمع الأغلبية، الذي صحا فجأة على تقسيم شرائحي وانتمائي على أساس اللون والشريحة والجهة.. إلخ.

بقيتْ مخيمات تندوف تنتظر إلى ما لا نهاية أما موريتانيا ففي حصيلة عمرها الوجيز فقد تبوّأتْ صفة البلد الأكثر انقلابات عسكرية في المنطقة، البلد الأكثر فقرا رغم كلّ ما لديه من إمكانات هائلة طبيعية وبشرية، صار يكنى تهكماً بـ"الحلقة الأضعف"، وكل ذلك يدور في فلك التسميات السابقة؛ بلاد السّيبة وبلاد البرزخ، وبالفعلِ لا شيء اليوم يمنع اختراق الخطوط الحمراء في موريتانيا، حتى أصبح عاديا و"أخويا" أن يخرج زعيم طغمة عسكرية في بلد جار ليلقي على موريتانيا دروسا في "احترام كرامة المهاجرين"، وهو الذي تقطر يداه ورجلاه من دماء شعبه ومن دماء الفلان و"البيظان" تحديداً، وفي الوقت الذي تحتضن فيه ولاية موريتانية واحدة ربع مليون من مواطني بلده فروا من المذابح التي ترتكبها عصابته.

وليس هذا فحسب، فقد تجاوز خطفُ الأمور السيادية لدينا حدّا يجعلنا نتساءل إن كانت موريتانيا وجدتْ لتخترق فيها كل الخطوط الحمراء، بما فيها وحدتنا!؟

 

-5-

برزتْ خلال العشرية الماضية، ولأول مرّة، أسئلة الحرب الأهلية في موريتانيا، ولعلّ الكثيرين لا يعلمون أن تنظيم "القاعدة" هو الوحيد الذي له فضل في استمرار وحدة موريتانيا ومنع الحرب الأهلية فيها حتى الآن، إذْ تسبب اجتياح السلفية القتالية لحدود موريتانيا، ووصولها حدّ القتال في حيّ "سانتر أمتير"، وتنظيم حفلات الزّفاف لأعضائها في "الحيّ الرئاسي"، بتدخل الغرب لفرملة "الملف العرقي" في موريتانيا لصالح إعادة تكوين وتدريب الجيش والأمن، لأن الغرب لا يمكن أن يسمح بدولة "تورا بورا" على حدود أمريكا وأوروبا البحرية، وقد أصبحت موريتانيا على مرمى حجر من كتائب الجيش الروسي في مالي واتشاد وليبيا ووسط إفريقيا.

الغرب يدرك معنى أن تتاح الفرصة لقيام "رباط جهاد" في مكان هو برمزية مهد المرابطين. حيث أسّس "البيظان" إمبراطورية منطلقين من مكان فارغ تمامًا لم يكن إلا "تيدرة"، التي أصبحت اليوم وكرًا للطُّيور المهاجرةِ.

ومع ذلك، وبرعاية مباشرة، ركّز الغرب عبر منظماته وتنظيماته، على تهيئة المجتمع الموريتاني للتفكيك والتناحر، وقد وصل في ذلك حدّ تعريف هويّة الشخص بلونه، مع تركيز شديد على اختراع فكرة وجود "لابارتايد عربي" يسعى لفرض العربية وقيم الإسلام.

من خلال نتف من الآراء والمقالات والخواطر تجلّت "آليات الصالونات في نواكشوط" بين حين وآخر، ومن خلال رصد تلك الآليات إليكم ما يُطرح منذ العشر سنوات الأخيرة في مجالس "البيظان".

فريق مستمر في "نعاميّته" برع في تأبير الرمل ليزداد وأدا لكل معقولية.

هذا الفريق يرى أن موريتانيا دولة مستقلة ذات سيادة وأنها بلد آمن، وكل ما تتطلبه هو محاربة الفساد، وإن كانت تعاني من مشاكل ككل دول العالم.

هذا الفريق يرى أنّ إثارة أسئلة المستقبل ما هي إلا صيد في المياه العكرة، وعمل "معارضة" غير وطنية، بل عميلة أجيرة. ويورد في ردوده أن "البيظان" هم كل شيء في البلد، فالثروة بيدهم، والثقافة، والسلاح، فهم من يتصرف في البلد ولا يمكن أن يحدث أي تغيير لا يقودونه.

فريق يرى أن الصحراويين ليس لهم إلا التيه في صحاراهم البعيدة، أن يغرقوا في بحر رمالهم، وأن موريتانيا انتهت كـ"دولة بيظان" وأنها مهدّدة، وأن مجتمع "البيظان" نفسه يعاني خللا كبيرا، وقد تضافرت عليه مسلكيات اجتماعية كنبذ العمل، وإدمان الاستهلاك، والتناحر القبلي مع تراجع الخصوبة، ليتحول إلى أقلية في بحر هائج منسوبه لا يعرف التراجع، وهو ما آذن باقتراب "الأغلبية الصحراوية" الوحيدة في المنطقة من صفة الأقلية، لتلتحق بأقليات صحراوية بالغة الفشل في البلدان المجاورة، في المغارب والساحل.

ومع ذلك لا يملك هذا الفريق رؤية واضحة نحو المستقبل، ويتم في أوساطه تداول "مقترحات" تأمينية، كالسعي لوصول عربي أسمر للرئاسة، كنوع من ضمان وحدة الأغلبية العربية، مع الإصرار على تحسين التجربة الديمقراطية، والعمل على ملف التعايش العرقي بين مكونات المجتمع الموريتاني التي يجمعها الدين والنسب والتاريخ إلى غير ذلك من مقاطع الأغنية الرومانسية المعروفة.

فريق آخر، يرى أن نهاية موريتانيا كدولة مسألة حتمية، وأنها أصبحت عامل وقت فحسب، ولا يرى في الأفق غير الحرب الأهلية والتقسيم، وهو في سبيل ذلك أخذ في تجهيز عدّته للهجرة، أو الحرب.

يركز هؤلاء على كمّ هائل من المعطيات، ففضلا عن الملف الاجتماعي ومنعطفاته الحادّة، يستحضر بعضهم جيّدا كيف تـَجَوّل نشطاء عالميون ضد العولمة في بيوت شخصيات نواكشوطية عام 2005، محذرين من التقسيم المبيّت لموريتانيا إلى خمس دول.

كان هنالك منذ زمن من يتحدّث عن انفصال الجنوب. في الفترة الأخيرة بدأت أصوات تتحدث عن "انفصال الشمال النافع" الذي يضم أهم ثروات البلاد (المناجم والسّمك)، وهذه الأصوات من الجنوب ومن الشمالِ، لا يعلو دخانها دون نار، ودون "ملف الصحراء" الذي لا يمكن طيّه من دون فتح ملف تيندوف، التي قد يلجأ لاجئوها إلى أرضهم التاريخية في موريتانيا كما في الساقية والوادي لأنهم أولى بها من مهاجرين آخرين، ومهما يكن لا يستبعد أن يكون حل مشكل الصحراء على حساب الأرض الموريتانية "أرض البيظان التاريخية"، ولا يُعرف بالضبط ما هو ضروري من ذلك لتعويض خفّي حنين الذي أنجبته حرب الصحراء العبثية غير الولود إلا للكوارث وللأسئلة المسكوت عنها.

 

-6-

إن زمن الدول المجهرية في العالم انتهى، والقيم الإنسانية والديمقراطية لم تعد للأسف مطلبا في هذه الأيام، فالبشرية على وشك أن تعود للاستعمار المسلح المباشر، مع ابتلاع بوتين لأوكرانيا، ونيّة أميركا ضمّ كندا، وغيرها!

لا تشكّل موريتانيا "أولوية" كبيرة للغرب إن تطلبتْ مصلحتُه إلغاءها، كما هي ليست أولوية أكبر من أن يعاد منها تدوير كيان آخر، فيخرج منها حيّا أو ميّتا حسب هواه.

هل هناك نيّة لاستباق الإرادات بما فيها من تخمينات ومخطّطات؟

إنّ عيون الببغاوات قد تسبق صوتَها! وإنّ من يستبعدون تضاعف حضور أمريكا في المنطقة، وهي التي تكثّف حضورها حتى في كواكب خارج الأرض، لا يحسنون قراءةَ الجغرافية المتحولة. هل نتوهم أن هذا العالم الذي لا يعترف إلا بالقوي سيتسامح معنا أكثر بعد أن نصبح بالنسبة للأوربيين والغربيين نقطة تفتيش ونقطة تموين بالغاز.

إن موريتانيا التي عرفنا ونعرف وطن يتحجم إلى مستوى عود ثقاب، وإنّ صليل الفؤوس ونعيب الغربان آخذٌ في العلوّ أكبر من وظيفة الأذن، لقد ارتفع صوت التمزيق أعلى من المستوى الذي يسمعه الإنسان هنا، فهل نخطّط برفاهية وإبداعية لحلّ تاريخي حضاري جوهري، أم نجلس في انتظار العاصفةِ، بما فيها من أعاصير وصواعق؟!

إنّ موريتانيا صارت بحجم عود ثقاب، قابل للاشتعال من أيّ مكان تموضع فيهِ الكبريت، والكبريت يحوّل أي طرف في العودِ إلى رأس للاشتعال.

إنّ الصحراويين في موريتانيا أو في المملكة أو في الجزائر أو في الشتات أعني كل الناطقين بالعربية الحسّانية يمكن أن يلعبوا، إن أرادوا بعزيمتهم المعقلية الحسّانية والصنهاجية المرابطية والمصمودية الموحدية، دورًا محوريّا لتحقيق الوحدة بدل أن يكونوا أداة تفكيك، يمكن أن يجمعوا المغرب الأقصى والأوسط بدل أن يظلوا فحم نار صراعهما العبثيّ. يمكن أن ينتقلوا من انكماش وانقباض المنهزم أمام التاريخ والمرتمي في هوامش الجغرافيا إلى انفتاح المنتصر الذي لا يقبل إلا أن يستعيد مشعلَ أكثر مراحل أسلافهِ ضياء وملحميّةً. يمكن أن يقطعوا مع عقلية الهزيمةِ والاستسلام للهامشيةِ ويستعيدوا زمام المبادرة التاريخية، أن يستعيدوا مشعل الفعلِ والانتصار. إما أن يصبحوا أبطال الوحدة أو أن يبقوا أداة التفرقة ذريعة لتأبيد الصراع المغربي الجزائري، وسيلةً لتعطيل عجلة الوحدة المغاربية، هراوة لكبح طموح الشعوب المغاربية، ظهيرا لتأجيل العمل الوحدويّ إلى ما لا نهاية.

إنّ الصحراويين هم المكوّنة المغاربية الوحيدة التي إن أصرت على الوحدة المغاربية تمتلك الأدوات الأكثر نجاعة من أجلها إقليميا وجيواستراتيجيا.

 

-7-

أول نجاح حقّقه الاستعمار هو جعلُ الدعوة للوحدة المغربية أو المغاربية أو العربية "جريمة وطنية"، القبول بحدود الوطن الحالي هو قبول بحدود الاستعمار، التي فصّلها لمصلحته، هكذا صار كل صحراوي أو "بيظاني" بل كل مغربي أو مغاربي أو عربي يتغنى بحدود الاستعمار، وأصبح الجزء أقدس من الكل، فأصبح الجزائري يرى الجزائر أكثر أهمية من المغرب الكبير، والمغربي يَعتبر المملكة المغربية أكبرَ من المغرب الأقصى ومن المغرب الأشمل. الحصاة أهم من الجبل، والقطرة أندى من البحر.

نعم، المغرب الذي صنّفه المؤلفون العرب القدماء إجرائيا كـ"أدنى" و"أوسط" و"أقصى"، مغربٌ واحد منذ العهود القديمةِ، منذ ما قبل الحقبةِ الفينيقيةِ، وطبعا خلال الحقبة الرومانيةِ، ثمّ كانت حقبة الاندماج الأكبرِ مع الإمبراطوريات المرابطية والموحديةِ والفاطمية إلخ مع العهد الإسلامي.

عوامل الاختلاط والامتزاج والاندماج في بلدان المغرب أشدّ بداهة من أن تحتاج إلى بسط.

فالتاريخ والجغرافيا واللسان أو الألسن واللهجات كلها واحدة، والمجتمعات المغربية أو المغاربية متداخلة إلى حدّ الإفراط. ولكن كيف نستثمر هذا التاريخ ليكون عامل قوة في الحاضر والمستقبل؟

هل نفكّكه عبر سرديات عبثيّة يصوغها كلّ قطر على حدة، أيّ كل قطعة رسم حدودها الاستعمارُ؟ هل نستثمره سلبيًّا لتجذير خلافات عقارية عبثية خلقها منذ عقودٍ قليلةٍ ضابط فرنسي مغرور قليل التعليم أو ضابط إسباني أشدّ غرورا وأقلّ تعلّما لأجل ما يظنّه هذا الضابط الأجنبيّ أو ذلك مصالح بلده هو حينها؟

ليس في بلدان المغرب شبرٌ إلا وينتمي لكلّ بلدان المغرب، وليس في بلدان المغرب شبرٌ إلا ويمكن إثبات انتمائه تاريخيّا للبلد المغربي أو المغاربي المجاور وعكسيًّا إثبات انتماء البلد المجاور له.

ليس فيها شبرٌ إلا وحَكمتْهُ دولة أو إمارة عاصمتها أو جذورها القبلية تنتمي إلى بلد مغربيٍّ آخر من البلدان الخمسةِ. هل هي إذن كما صورها شاعر موريتاني ذات يوم يدٌ واحدة بأصابع متضافرة أم أصابع مقطوعة كلّ منها بدل أن تشير إلى الاتجاه الواحدِ تمتدّ تهديدا إلى الأصابع الأخرى!

مرّة أخرى السؤال المركزيّ إذن هو: كيف نستثمر إيجابيا هذا التاريخ الطويل المشترك فعلاً؟

هل نستثمره لتأبيدِ ثارات داحس وغبراء بدائية صنعها الاستشراق العسكري الفرنسي أو الإسباني ليضمن بقاء المنطقة خارج التاريخ؟

هل نستثمر هذا التاريخ المشترك من أجل العودةِ إلى التاريخ أم من أجل البقاء خارجه؟

 هل نريد أن نواصل ثارات داحس وغبراء لا نهائية لا هدف لها سوى إبقائنا خارج كلّ حساب وإبقاء المظلات الأجنبية المهيمنة فوق كل حساب؟

هل نريد أن نستمرّ في تغذية هذه الثارات الصغيرة وفاءً للجنرال أفيدرب والجنرال غورو والجنرال ليوتيه وانسجاما مع أنانية الالتصاق بالكراسي التي ترى كل تكامل أو وحدة تهديدا لامتيازاتها وحماها الذي كلّفتها هذه المظلة الأجنبية أو تلك بحراستهِ؟

كيف صارت الوحدة المغربية أو المغاربية أو العربية عيبا! كيف صارت كل مطالبة بتوحيد المفكك تعدٍّ على "السيادة الوطنية"؟

 

-8-

لقد نجحتْ الدعاية الأجنبية ومعها أنصار الكراسي الموروثة عنها في تكريس أدبيات شيطنة الشقيق الجار ولم يعد الشقيق شريكا وإنما عدوّا. أكثر من ذلك أصبحت النخب النافذة في العقود الأخيرة بعد أن كانت مناهضة لعنتريات "النحن والهم" الموروثة عن الاستعمار منخرطة في الدعاية الرسمية المشيطنة للجار. وأمام انهيار أغلب الحواضن المؤسسية الغير مستتبعة من طرف الأنظمة، لم تعد النخب قادرة على مناهضة غوغائية الشارع والشارع الرقميّ بشكل خاص، الموجه سلطويا وأمنيا. حتى النخب الثقافية والأكاديمية أصبحت مخيّرة بين الاستقالة من المجال العمومي أو مجاملة الشارع الموجه أمنيّا، أي بشكل صريح أو مضمر مجاملة ذاك الخطاب الرسميّ المحلي أو الرسمي الخارجي مجاملة تقوم مقام تبنيهِ.. حتى حين تحاول هذه النخب انتقاد نقاط من هذا الخطاب فهي مضطرة أن تمهد لذلك وأن توازنه بمجاملة الشارع الموجَّه، أي أن تدفع مقابل ذلك مجاملة لأبرز مفردات الخطاب السائد، خطاب الزنازين القطْرية المحكمة الإغلاق التي كرّست لها مدونات مدرسية وإعلام و"مؤرخون" ومنظرون... إلخ.

من بين مثقفي اليوم لا يبرز أي صوت لزهير بن أبي سلمى، وهو الرّمز الشهير لدور مثقفي هذه الأمّة حتّى قبل الإسلام، فما بالك بالمحجة البيضاء التي تفرض الوحدة فرضًا جازماً قاطعاً!

لا أحد في العالم ينظر إلينا جديا كدول وإنما كمحطات وظيفية أمنيّة وعقاريّة. نحن كوانتنموهات موسّعة الأدوار.

ما الذي حققتْه الدول القطْرية الموروثة عن الاستعمار حتى نعتبرها المشروع الواقعي الوحيد القابل للتحقيق؟ كلنا دول موروثة عن الاستعمار، موروثة عن تقطيعه الإداري والعقاريّ، موروثة عن مقاساته الحدودية وحتى عن زلاته اللفظية والنفسية.

قد تختلف تعابير عنتريات الذين يتراشقون في الإعلام البديل الموجّه ولكنهم جميعا يقولون الشيء نفسه حتى ولو توهموا أن مقولاتهم متضاربة، فهم جميعاً ونحن جميعًا مهما اختلفت الكلمات نكرر "أنا الحدود" وبالتالي البلدان المغاربية في بنيتها الجغرافية والديمغرافية الحالية نتاج تقطيع عقاري استعماريّ ونتاج المفاهيم والتصورات التي تقف خلف هذا التقطيع. نحن لسنا سوى محميات أجنبية، محميات لا تحمي سكانها ولكن تحمي كراسي حكامها ومصالح وحدود الذين منحوهم مؤقّتا هذه الكراسي.

حتى اسمنا موريتانيا ليس منّا، مفردة وُسِمنا بها دون استشارة لنا كي تنضم للمفردات الأخرى ك"الدولة" و"السيادة" و"الحدود" و"جواز السفر"... إلخ. سمونا موريتانيا ومطلوب منا أن نقبل، وأن نقبل الميسم أو القيد كما قبلنا المفردات والمفاهيم الأخرى كقيود وكمامات... لم نحتفظ بأي اسم من أسمائنا التاريخية لا شنقيط ولا المغرب الأقصى، ولا أقصى المغرب الأقصى كما كان يقول الشيخ ماء العينين ولا حتى الصحراء وبلاد الملثمين، بالنسبة لهم لا نستحق من الأسماء إلا الاسم الذي وضعوه لنا، الاسم الذي أرادوا من خلاله أن يحمل في مبناه ومعناه كلما ذُكرَ نطقاً أو كتابةً غربتنا عن أنفسنا، غربتنا عن أرضنا وعن تاريخنا، غربتنا عن لساننا وعن وعينا.

 

-9-

إن موريتانيا معنى ومبنى هي بصمة ووصمة كزافييه كبلاني والجنرال غورو وجاك فوكار ومن تبعهم بغير إحسان، وما زلنا نحن أوفياء لهذا العار، ما زلنا أوفياء لتأتأة التاريخ.

لقد كان أحد الذين نظروا لابتعادنا عن عمقنا المغربي والمغاربي هو الجنرال أفيدرب الذي قال عن نهر السنغال إن الأوربيين سموه على صنهاجة لأنها، كما قال، لعبتْ دورا كبيرا في التاريخ، يقصد حركة المرابطين ولكنه عاد ليقول إن صنهاجة ابتعدتْ عن التاريخ وإن الصحراء هي الفاصل الحقيق لا البحر. الجنرال أفيدرب تاجر العبيد وأحد أكبر النخاسين الذين حكموا المنطقة يريد لنا أن نظلّ بعيدين عن التاريخ والجغرافيا وأن تظل الصحراء فاصلا لا واصلا.

على العكس كانت هذه الصحراء دائما، كما لاحظ ذلك عن جدارة ابن خلدون، هي المهد المتجدد للدول المغربية أو المغاربية. في هذه الصحراء الكبرى تأسست دولة بني مدرار ومن هذه الصحراء خرج المرابطون، ومنها خرج الموحدون والوطاسيون والمرينيون والسعديون والزيانيون والعلويون إلخ.

هل نترك كل هذا التاريخ العظيم ونكتفي بقطعة عقارية رسمها ضابط فرنسي شبه أميّ في تاريخنا ونحن آخر همّه؟

هل نتنازل عن كل تاريخنا العظيم لنبقى أوفياء لدفاتر الجنرال غورو وبرقيات جاك فوكار؟ هل نقف مع تركة فوكار وميشيل دبري وقبلهما أفيدرب وكبلاني واليوتي وغورو أو مع تركة أبي بكر بن عامر وعبد الله بن ياسين ويوسف بن تاشفين والشيخ ماء العينين وسيدي بن مولاي الزين وسيد أحمد ابن أحمد عيده وبكار بن اسويد أحمد ومحمد بن سيد أحمد، وسيدي محمد بن الشيخ سيديا والشيخ بن عبدوكه وأحمد بن الديد ومحمود بن اعميره والشريف حماه الله إلى آخر رموز القائمة الملحمية المجيدة.

هل نضحي بكل هذا التاريخ العظيم ونقبل أن نكون نقطة تفتيش حدودية للأوروبيين، أن نكون بوابا أو شرطيّا بيد الأوربيين يطاردون بهِ أشقاءنا من أفارقة جنوب الصّحراء؟ ماذا ارتكب أشقاؤنا من جنوب الصّحراء حتى يستحقوا علينا أن نقبل بهذا الدور: دور الشرطيّ والحارس؟ أنقبل أن نكون معسكرا أو سجن انتظار يمنعهم من العبور إلى أوروبا؟

 

-10-

إنّ الصحراويين أو "البيظان" عليهم أن يدركوا أنّ مسلسل التفكك لانهاية له، وأن قبولهم بالانفكاك عن فضائهم وحرصهم على الوفاء لحدود الاستعمار التي تريد أن تسجنهم في ركن قصيّ من فضائهم الطبيعي منفصلين عن فضائهم المغربي أو المغاربيّ قد أدخلهم في مسلسل تفكّك كانت إحدى مراحله الخطيرة لحظة انقسام الصحراويين بين من يريدون موريتانيا كبيرة كما قال يوما الولي مصطفى السيد، موريتانيا من سينلوي إلى غاو إلى وادي نون إلى بشار وتوات، بل ونُقل عنه أن انتقاده للمختار ولد داداه ليس ي كون الأخير "يريد للبيظان دولة ولكن لكونه يرضى لهم دولة صغيرة لا تضمّ كلّ أراضيهم التاريخية"، وفي رواية أخر بأنه، أي مصطفى السيد، يريد "جمهورية صحراوية تضمّ كل العالم العربي" وبين الذين يريدون صحراويين أو بيظانا في موريتانيا في حدودها الفرنسية وبيظانا في الساقية الحمراء ووادي الذهب في حدودها الإسبانية وبيظانا في جنوب الجزائر في حدودها الفرنسية وهكذا، والنتيجة أنّ الفضاء الصحراويّ نفسه تفّكك وتقطعت أوصال أهله وبقيت مئات آلاف العوائل منفصلة عن بعضها منذ بداية السبعينات، بعضها في جنوب الجزائر وفي المخيمات الجبهوية بتيندوف وبعضها في جنوب المغرب وبعضها في موريتانيا والبعض الآخر في أزواد وفي الشتات، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.

دخلنا في عبثية لا حدود لها، أفراد نفس العائلة لا يحملون نفس الأوراق، كلٌّ حسب الصدفة والمصادفة ومسار المأساة، من يحمل أوراق هذا البلد ومن يحمل أوراق البلد الذي أصبح "آخر". والمسكينة التي لا تستطيع أن تزور أحيانا شقيقتها لأنها لا تمتلك ثمن تذكرة الطائرة أو عمولات المهربين، أو الأوراق الثبوتية المطلوبة، أو الأذون والتراخيص المختلفة.

ثم دارت عجلة التفكّك فأصبح البيظان أو الصحراوين شريحتين: بيضا وحراطين، ثم أصبحوا شرائح بيضان وحراطين وامعلمين وإيكاون وزوايا وحسان وأزناكه وحمر وبيض وسود وخضر وألوان الطيف الأخرى، وحبل التفكك على الغارب، وأصبح هناك بيظان موريتانيا وبيظان المغرب وبيظان الجزائر وبيظان المخيّمات وبيظان الصحراء والساحل وبيظان إسبانيا وأمريكا وبيظان أو شناقيط الخليج والمشرق وربما بيظان الهند والسند، أصبحت التقسيمات الوظيفية العتيقة بين الزوايا وحسان والحراطين ومعلمين إلخ تُستعاد في القرن الواحد والعشرين لتشكيل هويات جديدة.

ولكن السؤال الوجوديّ واحدٌ يطرحه الجميع على نفسه بطريقة أو بأخرى، يطرحه الصحراويون علنا على أنفسهم في نواكشوط وفي النعمة وفي أطار وفي الداخلة وفي عيون السّاقية وفي كلميم وفي مراكش وفي تيندوف وفي بشار وفي الأغواط، إلخ، يطرحون على أنفسهم نفس الأسئلة الوجودية: إلى أيّ هاوية نسقط وفي أي قاع نتدحرج وهل هناك أمل في أن نتدارك أنفسنا وأن نقطع مع سياسة النعامة، أن نمسك مصيرنا بأنفسنا ولو في هذا الوقت بدل الضّائع؟

 

-11-

إن الصحراويين أهل هذه الصحراء المترامية الأطراف برافديهم الرئيسيين، بني حسان المعقليين وصنهاجة الملثمين، هم من بنوا الأساس الصلب للمغرب الأقصى وللمغرب الكبير وكانت الدول التي أسّسوا كالمرابطين والموحدين هي أكثر الدول المغاربية بل الإسلامية اتساعاً جغرافيا بل من أكبر الدول مساحة عبر التاريخ.

إن أهل الصحراء منذ المدراريين والمرابطين والموحدين هم من أسّس الدولة المغاربية الكبرى التي لم تمتدّ بعدهم على أوسع مما أسّسوه.

وكان جدي يوسف بن تاشفين أول من نشر المدارس في المغرب إلى جانب المساجد ولعب المرابطون دورًا كبيرا في دمج المجتمعات المغاربية وصهرها كمجتمع واحد، ولعله في هذا المقام يكفينا أن نذكر فقط المثال البالغ الرمزية الذي جسّدهما قام به يوسف بن تاشفين في مدينة فاس وحدها حين دمر الأسوار التي تفصل فاس القديمة عن العالية وجمع العدوتين عدوة القرويين وعدوة الأندلس المتنافرتين وجعلهما مدينة واحدة لها سور واحد وقصبة واحدة وحامية واحدة وأعطى لجامع القرويين مكانته المركزية، أقول علَّ ذلك المثال من بين آلاف الأمثلة المشابهة يكفي لتفعيل ذاكرتنا النائمة، وقد امتدّ التأثير التأسيسي للمرابطين عميقا في المخيلة الجماعية للمجتمع والأمة و ما يزال.

إن العالم اليوم على أبواب منعطفات طفروية، على أبواب زلازل جيواستراتيجية، والمشاريع التي تُغيّر مجرى التاريخ تحتاج إلى من يمتلكون حسّا تاريخيا بمستوى اللحظة التاريخية، تحتاج إلى أياد غير مرتعشة. يحتاج ذلك صنّاعَ قرار قادرين على مراجعة فشل المشاريع التنموية في المنطقة وفشل المشاريع القطْرية والوحدوية معا، ليس من منطلق أصحاب الانكماش ودعاة البقاء خارج التاريخ، الذين يشعرون اليوم بغبطة انتصار الظلام، بغبطة مفردات الزمن الحالكِ، ولكن من منطلق إعادة صياغة مشروع الوحدة وتشييده على مرتكزات أكثر جديّة وأكثر وعيًا للممكن سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، أكثر وعيا بموازين القوى المؤيدة والمعيقةِ.

نعم نحتاج إلى العمل جديّا على الخروج بشكل حاسم تاريخي من فخّ القفص القطْريّ الاستعماريّ، فإما الخروج من زنازين القطْرية المنافية لمنطق التاريخ أو الخروج تاريخيا من كلّ التاريخ، أي الانحدار أكثر نحو هامش الهامش.

الدويلات القطْرية التي ورثناها عن الاستعمار كانت معسكرات جماعية وأصبحت معسكرات جماعية ولكن هذه المرّة بشكل زنازين محكمة الإغلاق في عالم وعلاقات دولية لم يعد فيها مكانٌ إلا للدول التي تضمّ مئات الملايين وتتمتع بفضاء جغرافيّ يناسب حجمها الديمغرافيّ.

إنّ الدول القطرية هي التي ورثت جينيا الحدود الموروثة عن التقسيم الإداري الاستعماري وعمّقته بدرجة أنّ ما كان ممكنا خلال الحقبة الاستعمارية من تنقل للأفراد والأموال داخل مستعمرات نفس الإمبراطورية، أي داخل ولايات المستعمرات، لم يعد ممكنًا، فقد أصبحت الدوائر والولايات الاستعمارية تسمّى دولا ذات سيادة وحرس حدود وبطاقات هويّة لا تمنح هويّة وجوازات سفر لا تسمح بالسفر.

في جميع الأحوال، وبعيدًا عن أوهام القوّة والاستقلال والسيادةِ، وكل المفردات الفارغة أو المفرغّة، التي تسيطر على العقول المستقيلة لبعض آديولوجيي الدول القطْرية، فإنّ كل معطيات التحولات الجيواستراتيجية الحالية تضطرنا إلى أن نقول إنه إذا أراد المغرب الأوسط، أي الجزائر والمغرب الأقصى أي موريتانيا والمملكة، أن يخرجا من هامش التاريخ، وأن يتفاديا عوامل التفكّك الجهوي والعرقيّ واللسانيّ، التي تهددها جديا، فليس أمامها سوى أن تتكتّل سياسيا فدراليا أو كونفدراليا... إلخ. وليس ذلك بمستحيل إذا وُجِّهتْ أو اتجهتْ إليه إرادة الشعوب، وإذا أخذ الكلمة العمومية من يمتلكون حسّا تاريخيا بمستوى اللحظة. وأول شرط لذلك هو وجود رأي عام يستطيع أن يقف في وجه المفردات المريضة، التي ما زال يكرّرها بمناسبة وبدون مناسبة من ما زالوا يعيشون عصر داحس والغبراء... عصر "دابراء".

 

-12-

نحن كشعوب أصبحنا خدما لأهداف الاستعمار في مقسماته ومجزءاته ومفتتاتهِ.. يا له من عار!

كل زعيم مغاربي يقْسم على المصحف بحفظ حدود الاستعمار. أيّ غرابة هذه!!

الفضاءات المجزأة لا يمكن أن تتحوّل إلى أمة مطلقا. لن تصبح هناك أمة في قطْر معين حتى لو امتلكت قنبلة نووية ستبقى ضعيفة وبلا حماية حضارية، وبلا سوق وبلا إمكانات علمية، ذلك أنّ "السعة البشرية" لا غنى عنها لصفة الأمة ولقوتها، فدولة لا تتجاوز في أقل تقدير مائتي مليون نسمة لا تملك مقومات الدولة في عصرنا هذا.

لذلك حرص الاستعمار على فرض الدولة القطْرية وعلى تقديسها عجلاً بخوارهِ الذي أصبحت النخب تسجد له، ويا للغرابة، باسم السيادة والكرامة والوطنية.

ويعرف المغاربي في قرارة نفسهِ أيا تكن الأوراق "غير" الثّبوتية التي يحمل أن مشكلته ليست أشقاءه الذين قرّرت يوما إدارة أجنبية أنهم ينتمون لقطر آخر واخترعت لهم أوراقا "غير" ثبوتية أخرى. يعرف أن مشكلته أن الأوراق التي يحمل ليست إلا حملا يثقل كاهله، يعرف أن بطاقة الهويّة التي يحمل هي في الحقيقة بطاقة إلغاء هويّة وأن جواز سفره لا يسمح له بالسفر، يعرف أن لا دولة له ولا جواز ولا سفر وأن تعريف دولته بالحدودِ ليس أكثر من تعريف الزّنزانة بجدرانها التي لا تحمي ساكنها بل "تحمي" منه، لا تمنحه بل تمنعه حتّى من هواء كاف للتنفسِ، وتصادر حقّه في الشّمس، بل في الحياةِ.

إنّ الدول القطرية هي فخّ التحرير وفخ التنمية وفخّ الدولة، إنها زنزانات لا أكثر. وما لم يُعد التفكير فيها جديّا لتجاوزها فإن انسدادات عظمى تنتظرنا في عالمٍ لم يعد يعترف إلا بالدّول التي كل واحدة منها بحجم قارّة أو بحجم حضارةِ كالصين والهند وروسيا والولايات المتحدة، أما دول الأقفاص التي تستجدي التأشيرات لأعضاء حكومتها ولأبنائهم فصراعها بينها وتفاخرها واعتدادها وتراشقها البينيّ وتعيير فقيرها المسكين للأكثر منه فقرا ومسكنة مثير للشفقة.

نعم المغرب الأقصى حتى لو قسمه الفرنسيون والإسبان ألفَ دولة فهو دولة واحدة والمغرب الأقصى والأوسط والأدنى مغرب واحد. والدولة الكبلانية والدولة اليوتية والدولة البجوية لا تلزم إلا كبلاني واليوتيهِ وبيجو وتابعيهم وتابعي تابعيهم.

وإذا كانت الوطنية هي الوفاء للجنرال أفيدرب والجنرال غاليني والجنرال غورو والجنرال اليوتي وخرائطهم وحدودهم وتقسيماتهم الإدارية ومسمياتهم فهي وطنية حَرية بأن نتبرأ منها تحديدا باسم الوطن، حرية بأن نتبرأ منها دينيا وأخلاقيا وتاريخيا وكبريائيا. حرية بأن نتبرأ منها إن كنّا ما زلنا نحتفظ ببقية كرامة.

 

-13-

حتى في خضمّ أزمات محلية مشتعلة تمزقهم وتهدّد وجودهم، أشعل "البيظان" حرب هجوم وشتائم ردّا على رأي شخص مغربي قال إن موريتانيا مغربية!

فجأة لم تزكم حرائق الكراهية والبغض المشتعلة من "باريس" أنف الصحراويين، الذينَ حرصوا على إشعال كل مودّة مع امتداهم المغربي رفضًا لتصريح شخص ليست له أي صفة رسمية أو إدارية. لقد كان مجرد مسؤول حزبي هو حميد شباط.

وتبع ذلك الحملة على العالم الجليل أحمد الريسوني لأن الرجل يرفض تقسيم أرض المغرب الأقصى والأوسط والأدنى وغيرها وفق هذا "اللعان الجغرافي" المريض.

الصحراويون كما قال يوما باهي محمد هم من بنوا الأساس الصلب للمغرب الكبير، وذات مرّة قال أحد الوزراء الموريتانيين ردّا على مسؤول حزب الاستقلال المغربي: "نحن بناة مراكش والمنتصرون في الزلاقة". وفي الحقيقة ردّ الوزير على نفسه لا على المغربي مؤكدا عن غير وعي الصيغةَ التي تلفظ بها المغربي عن موريتانية المغرب أو مغربية موريتانيا لا فرق.

قال علال الفاسي إنّ شنقيط أو موريتانيا جزء من الفضاء التاريخي لما أصبح المملكة المغربية. رد المختار ولد داداه بل المملكة المغربية هي التي تمثل جزء من موريتانيا حيث مثلتْ جزءً من امبراطورية المرابطين التي نشأتْ في جنوب غرب ما أصبح يعرف بموريتانيا. في الحقيقة ما قاله الفاسي وولد داداه ليس إلا شيئا واحدا واختلافهما هو فقط في العبارات. كلاهما يدافع عن الوحدة بمنطق قطري بدل أن يدافع عن الوحدة بمنقط وحدويّ. كلاهما ينظر إلى التّاريخ بمنطق إسقاط ال "بعد" على ال "قبل"، ولكن كليهما يقولانِ بأن موريتانيا والمملكة جزءان من كلّ واحد هو المغرب الأقصى ومن كلّ أشمل هو المغرب، المغرب الذي يضمّ المغرب الأقصى والأوسط والأدنى، كلاهما يعرف أنّهُ يتحدث عن جزء من كلّ ظهرتْ فيهِ نفس الدول ونفس الإمبراطوريات ونفس القبائل، ونفس الدين، ونفس المذهب، ونفس المتون التعليمية العتيقة، ونفس المحاظر والزوايا، ونفس الطرق الصوفية، ويأكل نفس الكسكس ويشرب نفس الشاي الأخضر و"يُـعمّر" نفس "البراد" ويستعمل نفس الكؤوس إلخ إلخ.

كيف صارت الوحدة المغربية أو المغاربية عيبا؟ كيف صارت كل مطالبة بالوحدة هي تعدّ على "السيادة الوطنية"؟ وأي سيادة وطنية لأخماس وأسداس دويلات، تتسوّل حماية الغرب وتدفع له الجزية صاغرة تحت مسميات الحماية الأمنية، أو العلاقات الثنائية، التي هي تحريفٌ إسميٌّ لعلاقات التبعية، وللخضوع الذليل الأرعن، الذي يتساوقُ مع ساقِ الشيطانِ وخطوهِ وأشجاره المأكولة وغير المأكولة على ما تُهينُ من عورات مكشوفة وغير مكشوفة؟!

هل كل طموحنا هو أن نظل ملفّا أو ملفات تستخدمها بعض الأنظمة المغاربية لتصفية حساباتها الضيقة مع أنظمة مغاربية أخرى أو لتبرير فشلها سياساتها التنموية أو نجاح خططها اللاتنموية؟

هل كل طموحنا أن نظل الشماعة التي تعلق عليها الأنظمة المغاربية فشل الوحدة والتكامل فشل التعليم والصحة والعدالة والإقلاع الاقتصادي، تبرر بها إجراءاتها الأمنية وصراعاتها البينية واحتقارها لأمل الشعوب المغاربية المؤجل دائما في حد أدنى من الوحدة، في حد أدنى من الحرية، في حد أدنى من الحياة الكريمة؟

هل نريد أن نبقى مجرد ملف ضغط في بعض الأروقة يستخدمه هذا النظام أو ذاك حسب مزاجه وصراعاته الديكية مع شقيقه؟

 

-14-

كل يوم نمضيه في بناء دولة قطْرية أو إنشائها خارج إطار الوحدة الشاملة حتى لو انطلقنا من أحسن النيات وحققنا أحسن الانجازات ــ مع أننا في الواقع لم نحقّق بعد أي إنجاز جدّي ــ فهو يوم ضائع لأنه يتجه عكس مسار التاريخ. إننا كمن يضع قطعة أرض تحت حراسة كبار قطاع الطرق ثم في أحسن الأحوال يكرّس جهده لبنائها وتحسينها لأجلهم. كل البلدان المغاربية هي حاليا محميات أجنبية بنسبة أو أخرى تخنقها نخبٌ أو مجموعات متنفذة أولُ مهماتها تأبيد التفكك حماية لمصالح محركيها الخارجيين وتوظّف بشكل مباشر أو غير مباشر جيوشاً من الذباب الألكتروني وغير الأكتروني مهمته التراشق وتبرير التفكّك وشغل الناس عن أولياتهم. ولا يمكننا الخروج من هذه الوضعية دون تكريس جهودنا ليل نهار لتحقيق التكامل والوحدة.

مقاس منطق الدولة القطرية فخّ استعماريّ ليس فقط لأنه لا يتماهى مع منطق التحرير والاستقلال والتنمية والسيادة الفعلية بل لأنه أكثر من ذلك مناقض له. الدولة القطرية الموروثة عن الاستعمار، كما انتبه لذلك كثير من قادة التحرير في إفريقيا وآسيا أواخر الخمسينات عشيّة وغداة ما سميّ بالاستقلالات، هي دولةٌ فخٌّ، "دولةٌ نكتةٌ"، وُجدتْ لتوهم بوجودها ولكن لتبقى في إطار دولة الإمبراطورية الاستعمارية وعلى مقاس مصالحها.

ماذا سيعني موقف جيلنا أخلاقيا وسياسيا للأجيال القادمة إذا لم نورثهم غير التفكّك والصراعات الصغيرةَ واقتتال قابيل وهابيل وإعادة أشواط السباق بين داحس والغبراء.

ردًّا على تيار "الدّولة" و"السّيادة"، ماذا حققت موريتانيا بعد أكثر من ستين سنة من الاستقلال؟ إذْ هي لا تعرف حتى بين مواطنيها وغيرهم، وما تزالُ تعيش على القطّارة تسوّلا وصدقاتٍ دون بنية تحتية ودون مؤسسية قابلة للصمودِ أمام زحف مسلح أو غير مسلح؟!

دولة لا تصلح مستشفياتها ولا مدارسها مربطًا للحمير، وتتوهم نخبتها كل دجاجة مدجنة.

ردا على تيار "الدولة" و"السيادة"، ماذا حقّقت موريتانيا بعد أكثر من ستين سنة مما ندعي أنه الاستقلال؟

ردًّا على تيار "الدّولة" و"السّيادة"، ومقولة مثلث "الثروة والثقافة والسلاح"، نتذكر ما قاله أحد المفكرين من أنَّه يمكنك أن تسيطر على القمة لكن لا يمكنك أن تتحكم في الزلازلِ من تحت قدميك أبدًا.

ثم، ماذا عن هذه الدولة غدا، ووفقَ المؤشرات الحالية، التي وصلتْ حدّ الفوضى والإنهاك المعنوي، ولدرجة يبذل فيها السلك الديبلوماسي أقصى جهده للسيطرة على ابتسامته الساخرة أمام مشهد دولة تنتقل بكل قياداتها المدنية والعسكرية لتشهد تدشين جسر صغير كسيح التصميم، وكأنه تدشين محطة فضائية على كوكب آخر؟!

من المؤلم أن ترى أمة عظيمة تقبل أن تكون أداة طيعة بل متحمّسة لتنفيذ مخططات تفكيكها وطمرها.

 

-15-

بالنسبة للأوربيين دورنا الوحيد على هذه الأرض هو تأمينهم وتموينهم. احتفظ الإسبان لفترة طويلة بالساقية الحمراء ووادي الذهب لأسباب أمنية وخرجوا منهما لأسباب أمنية، وصنع الفرنسيون موريتانيا كمستعمرة لأسباب أمنية وأعادوا تصنيعها كدولة جبل حديد لأسباب أمنية وتموينية وهاهم اليوم ومعهم الأوربيون يعيدون تشكيلها لتكون نقطة حراسة ومحطّة تموين غاز بكل ما تحمل هذه الكلمات من معنى.

يريدون منّا أن نكون الأيدي التي بها يبطشون ضد الأفارقة، والأيدي التي بها يطردون الأفارقة، ونكون معسكر اعتقال جماعيّ لأشقائنا القادمين من جنوب الصحراء، يريد منا الأوروبيون أن نحمل عنهم العار والمعرّة. يريدون لأيدينا أن تتلطخ بدل أيديهم الملطخة أصلاً، يريدون أن نكون لهم البواب الذي يضرب بهراوته كي يمنع الأفارقة من الهجرة إلى أوروبا لاستعادة جزء مما سلبته الدول الأوروبية منهم ومن آبائهم وأجدادهم وما زالت تسلبه. يريدون منّا نحن البلد الفقير، أن نتحمل عنهم دفع فاتورة الهجرة ماديا ومعنويا وأخلاقيا وأن نكون العصا التي بها يضربون أشقائنا، يريدون أن نحمل عنهم "الوجه المكشر" تجاه إخوتنا وأشقائنا الأفارقة.

ونحن يلزم أن نكون عونا لإخوتنا لا عونا عليهم. والذين يهاجرون من الأفارقة ويريدون العبور إلى أوربا، فأي وقت يمضونه في بلدنا يرونه ضائعا في رحلتهم إلى القارّة الأخرى، ولكننا تحالفنا مع الأوربيين كي نرغمهم على البقاء هنا بدل تسهيل هجرتهم. أقنعنا الأوروبيون بعشرات الإجراءات التي ليس لها هدف سوى تحويلنا إلى معسكر استقرار إن لم نقل سجنا جماعيا لمئات الآلاف من المهاجرين الذين قضتْ الدول النافذة على آمالهم في البقاء في بلدانهم الأصلية وتريد أن تقضي على آمالهم بالهجرة إليها عبر إقناع بعض الدول الوسيطة في شمال إفريقيا التي أرادتها أن تكون بوابة لها تحمل الهراوة من أجلها، والكل رفض إلا نحنُ.

يريدون منا أن نقبل أن نتحمل عنهم عار طرد أشقائنا المهاجرين اللاجئين المساكين أو أن نقبل أن نصبح وطنا بديلا ومعسكرا جماعيا يطردون إليه كل هؤلاء المهاجرين أو من نجا منهم بعد رحلة الموت والفناء إلى الشواطئ الأوروبية. يريدون منا أن لا يبقى لنا من خيار سوى أن نتولى عنهم عار طرد ومطاردة المهاجرين المساكين أو أن نصبح نحن أقلية منفية في بلدنا أو خارجه بعد أن يجعلوا منه غوانتانامو يرحلون إليه مئات آلاف المهاجرين الذين يرفض الأوروبيون غطرسة واستكبارا ونكرانا للجميل والسابقة استقبالهم.

نحن البلد الفقير الذي لديه صعوبات كبيرة في حراسة حدوده وتأمين مواطنيه رغم قلتهم وتوفير الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة لهم، علينا أن نتحول إلى سجن بديل ومعسكر جماعي كي نحمي الأوربيين ونحمل عنهم العار، يا للعار.

والثغرات الإحصائية المليونية مفتوحة في بلد تزوير الوثائق التي تمهد للوثائق التي لا تزوّر. فوثائق الحالة المدنية ربما لا تزور، لكن الوثائق التي تمنح عليها سهلة التزوير. وما الفضيحة الأخيرة إلا رأس جبل جليد.

إنّ كل حديث عن مستقبل موريتانيا يجب أن ينطلق من حقيقة أن الأحياء الريفية لا تصلح لبناء الدول في هذا الزمن، وأنَّ الحد البشري لبناء الدولة لا يمكن القفز عليهِ مهما كانت الدولة ثرية ومُنَظَّمة، فدول الخليج مثلا تحولت إلى حكم صوري أسري عربي لشعوب هندية، ولم تستطع بودائعها التي تتجاوز عشرين ألف مليار دولار أن تقيم مشروعا تنمويا واحدا ناجحا بالمفهوم الحديث، ولا يزال بعضها يدار بميزانيات أقل من ميزانية تطبيق إلكتروني بقدر ما هي أدنى تأثير من ذلك التطبيق الإلكتروني، بل إنها لا تملك أي قرار سيادي "خارج الصندوق" محكم الإغلاق.

وإذنْ، كيف بموريتانيا مجهرية الكم البشري، مع اتساع جغرافي على البرّ والبحر؟

نلاحظ الآن تباكي الدول الأوروبية على مظلة الحماية الأمريكية التي رفعت سعرها. إن دولا نووية مثل بريطانيا وفرنسا تطالب ببقاء الحماية الأمريكية، ناهيك عن ألمانيا وبقية البلدان الأوروبية، لأن الحماية لا تعني مجرد سلاح، بل هي منظومة علمية اقتصادية وتقنية أيضا.

فأين هي البلدان المشابهة لموريتانيا؟

إن الدولة التي يتحكم في قراراتها المصيرية صغار أعوان الأمن الأجانب في السفارات الغربية المعتمدة لديها، ويقودون بشكل شبه علني تظاهراتها الحقوقية والانتخابية، والتي أصبحتْ تُعرف في أوساط نخبتها بعبارة "هي ماهي دولة"، جدير بمن يعنيه شأنها مراجعة جدّية مع الذات.

 

 

-16-

على أهل هذه الصحراء الاختيار بين الدولة وبين الأمة، ويجب عليهم فورًا اختيار الأمة دون تردّد، وإلا خسروا الدولة وخانوا الأمة.

أما اختيار الأمة فهو سهل إذ عليهم أن يقرّروا الوحدة الكونفدرالية مع المغرب والجزائر، أو من وافق عليها من البلدين. فلتكن هذه أرض مغربية تنمية واستثمارا وحماية. وبذلك يرجع الأصل إلى الأصل، ونحن الأصل تأسيسًا ومشروعية.

يبرز دائما الردّ بأن المغرب أو الجزائر سيبتلعان موريتانيا في حالة الوحدة. حسنًا، ولماذا لا نكون نحن من يبتلع وقتها وقد صار على مائدتنا ما يبتلع فعلاً دون خوف من غصّة!؟

أعجب للبيظان وتطيّرهم من شمالهم المغربي.

لأول مرّة أرى من أقام بنيانا كاملاً وملائما أو ساهم في بنائه مساهمة تأسيسية مركزية يتخلّص منه ويرفض حيازته.

إذا رأيت والدا يتخلى عن أولاده فاعلم أنّه لم يعد إنسانًا طبيعيا.

وللتاريخ، كان عدد معتبر من النخبة الصحراوية الموريتانية في خمسينيات القرن الماضي، قد سعا لعدم الانفصال عن الشمال، ومنهم من أدار عدداً من مؤسسات المملكة المغربية، بل من بينهم من كان سباقا لطرح فكرة المغرب العربي، والاتحاد المغاربي، الذي تراكمت رمال الصحراء على نعشه.

وعند العودة إلى الأدبيات الموريتانية في تلك الفترة، كان خوف الصحراويين أو "البيظان" هو من الوقوع تحت النفوذ والهيمنة، في تجاهل مرعب لحقيقة من يهيمن على من ومن يتنفذ على من؟ لماذا لا يخاف الأشقاء من نفوذكم ومن هيمنتكم؟ ما هذه العقلية الانكماشية الانهزامية؟ ما هذا الاقصاء الذاتي؟

إنّ المرقّعات الاستعمارية قصيرة النظر لا يمكن أن يطول بها العمر، وهناك حلّ وحيد، علينا أن نتجرأ عليه، وإمّا أن نتجرأ عليهِ أو نتقبل الانتحار الحضاري، إما أن نقبل على الوحدة طوق نجاة وترياق تنمية وتقدّم، أو نتقبل الانكسار، فقد وصل مستوى الانحناء إلى المجهول حدّا مُخيفا.

والحق أن كثيرا من الذين عارضوا الوحدة مع المملكة المغربية في الخمسينات والستينات بما في ذلك بعض ممن سيؤسسون لاحقا البوليساريو لم يكونوا يعارضون الوحدة نفسها بل آلياتها. وأدبياتهم المعروفة بما فيها شعاراتهم المعلنة تكفي لإثبات أنهم كانوا متحمسين للوحدة المغربية والمغاربية والعربية، ولكن كان لديهم موقف سياسي من نظام المملكة حينها بل كان لدى عدد من أبرز قياداتهم لاسيما من ذوي الثقافة السياسية "اليسارية" حينها موقف من النظام الملكي أو السلطاني نفسه، ولم تزد سنوات الرصاص وسياقها ذلك الموقف إلا راديكالية. ولكن هم كانوا في سياق سياسي محلي وإقليمي وعالمي متفهم ومعروف ونحن في سياق آخر مختلف إلى حد كبير. ولربما لو عاشوا سياقنا لكان لهم موقف آخر. "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ".

أمام الصحراويين فرصة حقيقية لكتابة التاريخ مرّة أخرى. هي العودة المجيدة لما أسّسوه. وبذلك يكتبون التاريخ دون أن يتحوّل إلى سجل لنعيهم.

إن احتفاظنا بحدود الاستعمار هو احتفاظ بالخنجر المسموم الذي يفصل أعضاء جسمنا عن بعضها.

الصورة الخاطئة عن وهم الاستقلال كارثة ذهنية، وهي إرجاء مهين لمصالح "الدولة الأمّة".

وإنّ هذه الدعوة للقيادات الصحراوية بتنظيم "غزي لركاب" جديد على خطى السابقينَ، وإلا ما هو البديل أمام ديمغرافيا تتغير، وهويّة تتراجع؟

ما من أحد اليوم يفتخر بأنهُ كان مسؤولا في "دولة زنجبار"، التي كانت عام 1963 دولة عربية مستقلة، والتي قضتْ عليها ظروف مشابهة، قضى عليها المسلسل الذي تُوّج بأبشع المجازر والمذابح ليفهم آخر سلاطينها "جمشيد بن عبد الله" أنّ بلده المعروف بمملكة عطر العود لن يشم منها بعد ذلك غير رائحة الدماء والجراح المتقيحة.

من سيفتخر غدا بكونه كان زعيما لهذا الحيّ الريفيّ المتخلف، والذي ستتقاسمه لا قدّر الله الميلشيات المجنونة وتجار المخدرات وحركات التدين الأجوف المدفوعة بشبق الدم؟

ليس للسيد "جمشيد" ذنب في تجاهل النخبة الزنجبارية لحتميات التاريخ والجغرافيا طيلة العقود التي سبقته، ليتحول لحن جوقة الشرف التي تعزف لتسلمه الحكم إلى لحن جنائزي على مأتم الدولة وإلى الأبد، إذْ تحولتْ إلى إقليم ملحق بتنزانيا، وملوثّ بدمِ شعبهِ. وهذا يذكرنا دائما بأنَّ وجود الشيطان سبق وجود آدم.

بدلا من فضاء يتقاسمه غداً أمراء الحرب ولصوصها، وذهاب البلد هباءً، لم لا تسجل القيادات نفسها ضمن أبطال الوحدة، فتحكم المغرب الكبير أو ما تيسر منه، فتختار الكلّ على الجزء، والأمّة على القبيلة، فيخلدها المجد إلى الأبد، وتصبح لازمة في أناشيد الأجيال، بدلا من قبْر تدوسه أقدام المهاجرين وتلعنه أدبياتهم!؟

اليوم إن أردتم امتلاك مبادرتكم التاريخية مازلتم تستطيعون أن تتوحدوا مع من شئتم، أما غدا فلن تستطيعوا، لن تكونوا سوى مجموعة من اللاجئين عند غيركم أو حتى لاجئين في بلدكم.

لماذا لا نستعيد قود المبادرة التي كانت للشيخ ماء العينين وابنه الهيبة التي جعلتْه ينتقم من فرنسا حين ضغطتْ على السلطان مولاي عبد الحفيظ لترغمه على التنازل عن العرش ليعلن الهيبة الشيخ ماء العينين نفسه سلطانا على كل المغرب الأقصى بما فيه موريتانيا؟ هل ادعى أحد أن هذه ليست أرض الهيبة الشيخ ماء العينين وأنه لا يحقّ له أن يكون سلطانا عليها، وهو القادم من الحوضِ؟ لقد اضطرتْ فرنسا أن تغير جزءاً من سياستها في المنطقة بناء على ذلك الموقف. ولاحِقاً في الستينات قال الجنرال ديغول وهو يحيل إلى مشروع الهيبة الشيخ ماء العينين إن الحسن الثاني يحنّ إلى ما قبل 1912.

ماذا سيبقى من الصحراويين أوْ لَـهُم في كل المغارب والصحارى والسواحل إذا ضاعت "خيمتهم" الكبيرة موريتانيا وأمسك المغامرون بركيزتيها وأوتادها وأطنابها؟

لقد فشل الصحراويون أو البيظان في تحقيق "الدولة"، لكن يمكنهم النجاح بسهولة، إن أرادوا، في تحقيق الأمة. يمكن لموريتانيا ومعها كل الصحراويين فرض كونفدرالية مع الجزائر والمغرب، ومن الصعب على البلدين رفض هذا المقترح التاريخي، الذي هو الحل السحري للبحث عن منفذ أطلسي أو "واد للرمل" نحو البرّ الإفريقي.

منذ الرئيس المختار ولد داداه ظلّ كبار مسؤولي الدولة يردون على صوت الوحدة القادم من الشمال بعبارة "نحن الأصل وأنتم الفرع". حسنا، لماذا تتخلون عن فرعكم، عمّا أسسّتموه، عن أرضكم وتاريخكم وتراثكم؟ ومدنكم وقراكم ودياركم وصوامع زرعكم ومناهل مائكم؟

 

-17-

إن الغربان لا تحلّق بأجنحة الملائكةِ؛ بيد أنّ هناك الآن ما يدعو للتأمّل فيما لم يُتَأَمَّلُ فيهِ من شأن الأخوةِ في هذا الوادي الرمليّ الذي لا يزمزم فيهِ المستقبل تحت أقدام الوليد.

حيثما كانت هناك جماجم ساكنة، تحوّلتْ إلى كهوف، والخروج من كهف الانتظار هو أوّل رهان على الفوز وعلى التوفيق أيضا.

إنّ الجغرافيا التي تحملُ فائضًا من التّاريخ؛ لا يليق بها أن تفصَّل على ملامح حجر قابيل، بل تحتاج إلى "حجر لقمان".

في أفق التحديات التي تطرح لموريتانيا ولكل الصحراويين، في أفق الزمن المعلّق حيث يعيش بعضنا منذ عقود في مخيمات تندوف ومخيمات أزواد والنعمة بل وفي مخيمات نواكشوط ونواذيبو أو ما يشبه المخيمات بلْ فيما هو أشدّ وطأة على الكرامة الإنسانية من مخيمات الضياع والانتظار الذي ملّ نفسه، هناك احتمالان لا ثالث لهما: إما الوحدة مع المغرب والجزائر أو مع أحدهما إن لم يكن مع الدول المغربية المغاربية مجتمعة وإما "الصوملة" ومشتقاتها.

الخيار من الآن وليسَ من الغد، بحكم الكم الهائل من عوامل الاضمحلال التي تتعاور البلد ومجتمعه. لم يعد من احتمال لكسب المعركة خارج السياق الزمنيّ الضيق، سياق "الوقت بدل الضائع"!

علينا الدعوة بشكل صريح للوحدة مع عمقنا المغربي، عودة الأصل هي الفعل الفصل. وليس هذا بتعبير حالم، وإنما نريد القول: إما أن نفتح أعيننا لتحقيق الحلم أو نغمض أعيننا ليتحقّق الكابوس.

لا تنتظروا معجزة تأتي لتنقذكم من التقسيم والتفكك. إما أن تفعلوا أو أن يُفعل بكم. إما أن تأخذوا زمام مبادرة التاريخ أو أن تخرجوا من التاريخ.

لنصارح أنفسنا إن موريتانيا التي خطّط لها كزافييه كبولاني ومنافسوه من مغامري سينلوي، إن موريتانيا التي خطط لها قبله الجنرال أفيدرب والجنرال أدغار دترانتيان، وخطّطَ لها بعده الجنرال غورو وبيير مسمير وجاك فوكار ليستْ فقط مشروعًا فاشلاً بل إن الذين خططوا لها كتبوا بصريح عباراتهم في رسائلهم ووثائقهم المتوفرة حاليا أنها مشروع دولة مؤقت مصيرها الفشل، وأنه مشروع انتقالي تحتاجه الإمبراطورية الفرنسية حينها بغض النظر عن مصالح ورغبة وطموح أهل البلد أنفسهم.

إن موريتانيا مشروع فرنسي فاشل ككثير من دول المنطقة، كانت فرنسا هي ضامنه وقد دقّت ساعة انهياره مع تقهقرها هي وانهيارها وتراجع دورها في العالم وفي منطقتنا بالخصوص.

نحن شعب عظيم صنع تاريخيا عظيماً ولا يمكنُ ولا يجوز ربط تاريخنا بمشروع فرنسيّ أو إسباني صغير مؤقت وفاشل، جوهره الفشل حتى من وجهة نظر الذين خطّطوا له.

إما أن نكون دولة بطموح المرابطين والموحدين أو لا نكون. إما أن نكون دولة المغرب الواحدة، دولة المغرب الكبير، أو دولة المغرب الأقصى والأوسط والأدنى المتحدة أو على الأقل دولة المغرب الأقصى بكامل فضاءاتها التاريخية أو لا نكون. إما أن نكون دولة المغرب الواحدة أو نكون مجموعة من اللاجئين يتشفى كلّ متشفٍّ فيمن بقي منّا على قيد الحياة. إما أن نكون أو لا نكون.

ولهذا، فإنَّ لي الشرف أن أعلن عن هذه الدعوة إلى الوحدة بدل الاندثار، وإلى كسر حالة الصمت التي باتت تسود بين المثقفين الذين تحول كثير منهم إلى مستسلم لتمجيد الدولة القطرية، وإلى ساجد لوثنها، وناثر لعطرها المشؤوم.

إن المغرب والجزائر بلدي وبلدكم وبلد أجدادي وجداتي وأجدادكم وجداتكم، ومن الظلم أن أقصّر طموحي اليوم عن ما كان يبلغه بالأمس القريب مرعى جمال أبي. كيف أتنازل عن وحدة أو عن أرض بلاد أجدادي وجداتي، بلاد أعمامي وأخوالي وعماتي وخالاتي، ليس فيهما موطئ ألم أو أمل إلا ولأجدادي وجداتي وآبائي وأمهاتي معه تاريخ ملحمي وذكريات وذاكرة ومستقبل وعهد لي ولإخوتي ولأخواتي ولأولادي وبناتي وأحفادي وحفيداتي. لهم ولهن علي دين ووصية، لهم ولهن مصير هو مصيري ومصيركم. أو بحروف مالك ابن الريب القانية:

"فمنهنّ أمي وابنتايَ وخالتي

                           وباكيةٌ أخرى تهيجُ البواكيا

وما كان عهدُ الرمل عندي وأهلِهِ

                    ذميماً ولا ودّعتُ بالرمل قالِيا".