1. الطيب ولد العروسي
صدر، حديثا، في الجزائر كتاب بعنوان: “أدب النضال وسؤال الجمالية”، عن رواية أودية العطش لبدي المرابطي، في الجزائر عن منشورات دار خيال للنشر والتوزيع، يقع في 190 صفحة من الحجم المتوسط، وذلك بتنسيق وتقديم د. عبد الستار الجامعي. ومساهمة مجموعة من الأكاديميين كلّ من وجهة نظره، منطلقا من تيمة معينة، وهي تكمل أو تثري بعضها البعض، كونها توغّلت في تحليل ودراسة “أودية العطش” للشاعر والكاتب بدي المرابطي، التي أثارت الكثير من التساؤلات والاهتمامات، لتعدّد رمزيتها وتمويهاتها واعتمادها على التناص، كآلية أساسية لفضح الواقع العربي، خاصة جدلية السلطة الاستبدادية المهيمنة على المواطنين الرافضين لها، رغم القمع المهيكل والمستبطن في عوالمها، حيث تطرّق الروائي إلى بعض المسكوت عنه، مثل بحث المواطنين على بديل يقدّم لهم أجوبة شافية عن أسئلتهم في ظل تطور وسائل التواصل الحديثة، والتي سمحت للراوي باستشراف الثورات العربية. وكأنه يقدّم نطريه علمية شارحا فيها ما وصل إليه المواطن العربي من رفض للقمع، وإلى ما آل إليه الواقع الاستبدادي، ليخرج بنتيجة مفادها أن الضغط ومواصلة قتامة العيش، يولدان الرفض ، وبالتالي ثورة أو انتفاضة لا شك فيها. فما هي العوامل والآليات التي اعتمدها الراوي؟ وما هي الأنساق والمفاهيم التي مارسها في كتابة نصه؟ وما هي التعابير والرموز التي شكل بها عمله لكي يثير هذا الاهتمام من قبل جامعيين وأكاديميين؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه في تقديم آراء المشاركات والمشاركين في هذا الكتاب، ولنْبدأ بمقدم ومنسق العمل الدكتور عبد الستار الجامعي الذي أكّد بأن “رواية أودية العطش تستدعي قراءات متنوعة، وبأنّ مبحث الجماليّة مبحث غاية في الأهميّة ضمن سياق الأدبِ وضمن سياق هذه الرواية بالذات؛ فهو مبحث يسعى إلى قياس الأعمال الأدبيّة تبعاً لقواعد معيّنة متّفق عليها مُسبقاً، وإلى تتبّع المادة الأدبيّة الموجودة في النصّ الأدبي. والإقرار، منذ البدء، بتوفّر جماليّة معيّنة، مهما اختلفت درجاتها، في رواية “أودية العطش” معناه التسليم، منذ البدء أيضا، بإمكانيّة تلاقي الممارسة الإبداعيّة الخالصة بالحديث التجريدي الذي أشرنا إليه أعلاه والذي لم يرتق، في هذه الرواية، إلى التجريد المباشر الغامض والمُبهم الذي ينحرف به الكاتب- صانعُ الخطاب- انحرافاً شبه كليّ عن قوانين الحسّ العام. وعلى أساس هذه الثنائيّة القائمة على التجريديّة والجماليّة، أو الأدبيّة، سعينا إلى ضمّ هذه المقالات التي تندرج، أغلبها، ضمن هذا الإطار”.
أمّا الدكتور فتحي أولاد بوهدة (أستاذ الأدب والنقد، جامعة تونس”)، فيقول “يبدو التّأثير الذي يتلقّاه قارئ (أودية العطش)() نابعاً- في أعمّه- من مواجهة صوت ثنائي، شقّ منه يقف على أرض العصر، وهذا هو صوت الراوي، وشق آخر يستبطنه هذا الصّوت المعاصر هو صوت التراث، ونريد من هذا الصوت الخلفي، ما كان أحاديث نبويّة وأمثالا وخاصة ما كان آيات من القرآن، لأنّ هذا النصّ الأخير هو أكثر أصوات الحواريّة في هذه الرواية. ولكنّنا لا يمكن أن نقف على طبيعة النواتج الفنيّة لما يفرزه هذا الحوار قبل أن نرصد أنواع الاستدعاءات لهذه النصوص المتخلّلة. وهذه الملاحظة نريد أن نرفقها بملاحظ ثانية ضرورية هي أنّنا لن نعمد هنا إلى التناصّ بما هو أحد المكوّنات الرئيسيّة لأفق انتظار القارئ، إلاّ من حيث علاقته بما أسمّيه أفق التفعيل “، لأنه يرى بأن الراوي لم يكن ” ناقلا وإنّما كان فاعلا في الواقع الثقافي التراثي بتمثّله ضمن دلالات جديدة من خلال سياقات تاريخانية متبدّلة، وهذا الأهم في رواية كهذه تندرج ، في نهاية المطاف، في سياق أدب النضال.” ، فيما يرى الباحث الموريتاني أحمد سالم عابدين، بأنه ” يفرض “علم اجتماع النصّ” نفسه عند مقاربة عالَم الرواية، ويتأكّد ذلك عندما تكون روايةً رمزيّةً تستعصي على الفهم المباشر كرواية “أودية العطش” للكاتب بدّي المرابطي، من حيث كونها رواية رمزيّة بالكامل، تلك الرمزيّة التي تتطلّب لأجل كشف مدلولاتها البحث في السّياق الفكري الاجتماعي للرواية ولكاتبها. وهو ما يعني ضرورةَ حضور نوع من “الأنثروبولوجيا التأويليّة” لمقاربة أماكن ملغزة كثيرة في هذا العمل الرّمزي الذي يبدو أنّه أحد الأعمال التي تبقى بعد انتهاء الموضات الكتابية والثقافية، ويختم بحثه مؤكدا على أنّ الواقع يختلف عن الحلم كونه استنبط “قوانين اجتماعية، سياسية، ليست خاصة فقط بالمجتمع الموريتاني، بل هي قواعد تحكم كل بنية تسودها الدكتاتورية”.
وأمّا الأستاذة والباحثة نسيمة كريبع فهي تخلص في بحثها لتشير إلى أنه تم بناء النظام العتباتي في رواية “أودية العطش” “بعناية أسلوبيّة وانتقائية دقيقة وفق استراتيجيّة تشابكت من خلالها المعاني والتأويلات التي قدّمتها العتبات مع المعاني الثاوية ضمن المتن النصيّ، ليتكامل بذلك البعد الجماليّ الفنيّ مع البعد الفكريّ الرؤيوي، وقد تمّ عرض تلك النصوص الموازية وفق تنويعات فنّية ومعايير دلالية لتمكين المتلقي من فهم المقصدية واستخراج دلالاتها المضمرة على مستوى التشكيل واللغة والتضمين، خصوصا وأنّها جاءت في هيئة تميل إلى الغرائبيّة والغموض والإضمار، وذلك بتوظيف تقنيّات لغوية وبنائيّة يتداخل فيها البعد اللّساني مع الأسطوري والأيقوني لرسم ملامح التفرّد والتميّز في كتابة هذا النص الروائي الحداثيّ.”.
وأمّا الكاتب والباحث التونسي ضو سليم فيؤكد على أهمية الرواية من الناحية الرمزية، ويخلص إلى القول بأن بدي المراطين وفّق في صياغة عوالم خارقة للمألوف “عبر تكثيف السّرد بالصورة الرمزية التي تعبّر عن شعوره وما يؤرقه ويتجاذبه من مشاعر، فهو يعيش حالة من التذمّر إزاء واقعه السياسي يجسدها في صورة الراوي الذي يضرب الآفاق هاربا متخفّيا نتيجة نضالاته السياسيّة وطموحه بمشهد سياسي تعددي قائم على الحرية والعدالة والمساواة… وفي ذلك ضرب من الطرافة والتجديد في طرح القضايا وإثارة المسائل الحارقة المسكوت عنها مجتمعيا على مستوى الإنشاء وكذلك التلقي” إذْ “يتمكّن العقل البشري من خلال الرّمز من إضفاء المعنى، ومن استخلاص المعنى أيضًا من المعلومات الكثيرة المتناثرة والموضوعات العديدة المُبعثرة” . بينما د. مصطفى أحمد سالم الخوالدة وهو باحث من الأردن، فقد تطرق في كداخلته بعنوان : توظيف التناص الديني في رواية أو دية العطش ودلالاته، مؤكدا “توظيف التّناصّ الدّينيّ في رواية أودية العطش ودلالاته” يراوح كاتبُ رواية أودية العطش بدّي المرابطيّ في استخدام التّناصّ الدّينيّ في الكثير من المواضع المعبّرة عن مضمون الرّواية وسياقها. ويأتي التّناصّ ليحقّق دلالة معنويّة تخدم المعنى الذي أراد التّعبير عنه، فإنّ التّناصّ مع القرآن بصفة خاصّة أكثر أهميةً وفائدةً؛ فهو سمة انفردت بها الثّقافة العربيّة ؛ لأنّ الثّقافات الأخرى لم يتح لها مثل هذا النّصّ المقدّس، الذي يطرح نفسه نموذجاً أعلى للكمال والجمال اللّغويّ، وهو يتمتّع بقدسيّة عظيمة في نفس الإنسان المسلم، وهو مثال المصداقيّة والتّميّز، فاستحضاره في النّصوص الأدبيّة يعطيه صفة التّصديق والاستمرارية في ذهن المتلقي..
يقرّ الأستاذ عبد العالي الوالي الباحث في جامعة فاس، بأن المكان في رواية أودية العطش قد شكّل “رمزاً واضحاً على التسلّط والاستيلاء على كلّ شيء، بما في ذلك الحريّات العامّة للمواطن البسيط، والذي حرم حقّه في التحرّك بحريّة تضمن له التعبير عن رأيه، وممارسة حياته اليومية دون رقابة تكبل كلّ حركاته وسكاناته. إنّ المكان تابع للسّلطان في الحضور والغياب، وسلطته المطلقة. إنّه هو ما يضمن هذا النفوذ والانتشار الواسع لهيبته، أو كما جاء في الرواية “ما أخال السّلطان إلاّ وقد حلّ في كلّ منّا، إنّه يمتلك كلّ القلوب”. وهو ما يبرّر الخوف من سلطته ومن مآل جبل الأعضاء البشرية المقطّعة، الذي شكّل مصير الرافضين. إنّ المكان هنا رمزٌ للموت والخراب والنهاية المحتومة على يد السّلطان، لكلّ من سوّلت له نفسه الرفض والعصيان، وهو تصوّر يرتبط بتجربة الكاتب بعد زجّه في السّجن بسبب رفضه وثورته على الحاكم الموريتاني”. هكذا ينتهي الكتاب ببحث للأستاذ فريدة بعيرة أستاذة بجامعة باتنة في موضوعها بعنوان “البعد الاستشرافي وإرهاصات الثورة والتغيير في رواية أودية العطش.” حيث تؤكد بأن الرواية تتضمن نظرة استشرافية للربيع العربي وقد تنبّا بها الروائي وتجسد ذلك في “تمكّن الروائي الشاعر بدّي المرابطي من توظيف الرمز توظيفا متميّزا ومشفّرا بذلك متنه مما يستدعي إعمال الفكر للكشف عن المسكوت عنه. إنّ وسم رواية (أودية العطش) يتقاطع مع وسم النص الشعري ( قصيدة الزمن والدّم)، والتي كتبها الروائي الشاعر بعد عام من صدور الرواية (أودية العطش)، وذلك لأنّ الواد يقترن بمفهوم الوحشة والخلاء وما يمكن أن يقترن بهذه التيمة من معان حميدة مرة ومعان للافتراس والوحوش البرية أحايين أخرى. فهو رمز زئبقي يتزيا حينا بالوطن المُقفر المخيف وما ينجم عنه من سفك للدّم. أمّا تيمة قصيدة فهي تحيلنا إلى تيمة الشّعر والتي تعدّ ركناً من الأركان الأربعة التي تحدّث عنها المفكّر بدّي في أحد حواراته بخصوص كونه( الشعر) واحدا من الأقطاب التي شغلت الفكر وهي( الشعر/ الرياضيات/ المشاعر في أسمى صورها “الحب” / السياسة الثورية) فهذه الأقطاب حسب تعبيره تسعى لتحقيق كينونة الفرد”.
في كل الحالات، وكما يتفق أغلبم المشاركين في هذا الكتاب، ف، رواية “رواية العطش” تشكّل مخزونا خاما يقبل قراءات أخرى وبوجهات نظر متعدّدة نظرا للدلالة العميقة المتخفّية خلف أقنعة متنوّعة وأنساق مضمرة؛ وهذا ما نادت به المقاربات المعاصرة.