النقد ليس اتهامات يرجم بها فريقٌ فريقاً، ولا سلاحا إيديولوجيا، يُشْتَبَكُ به في سُوح الجِدال والنِّزال، وإنما هو خطاب على خطاب، يصف ويحلل الظاهرة الإبداعية، في حد ذاتها، بعيدا عن كل الخلفيات غير الفنية، كما أن الحداثة معطى حضاري وثقافي، ناتج عن سيرورات تاريخية كبرى، تفعل فعلها- قسرا- في كينونة الفرد، والجماعة معا، وهي- وفق هذا التصور- قدَرُ الجميع، مهما تفاوتت نسبها، تبعاً لدرجات كسْبِ هؤلاء، وهؤلاء، من ثمرات تلك السيْرورات، كثرةً، وقلةً، وعمْقاً وسطْحيةً، والذي ينغلق دونها مطلقا، يُعاند نواميسَ الكوْن، ويَحْكُمُ على تجْربته بالإعدام، لأنَّ ضَخَّ الدَّم الجَديد، وتنَفُّسَ الهواء الجديد، ضروريان لاسْتمرار دوْرَة الحياة، ولعلَّ مَرَدَّ أزمة الحَداثة في ما يمكن أن يُسَمَّى بـ «الحَداثة الكاذبة»، و«متاهات الغموض»، فالوصْفُ الأول يعني افْتعالَ الحداثة، بدَلَ الانْفعالِ بها، واسْتيرادها، دون معايشتها، وخَوْضَ تجْريبها بدل تجْربتها، فكل هذه الحيثيات المُخْتَلَّة، ربما ترتَّبَ عليها الوصْفُ الثاني، الذي هو الإيغالُ في «مَتاهات الغُموض»، حتى يَتَجاوَزَ تكثيفَ الصُّور المُحَبَّب، والمُعَبِّر عن عُمْقٍ في الرُّؤْية، ونُضْجٍ في الفلسفة، وخُصوبةٍ في المِخْيَال، إلى شَطَحَاتٍ وهَلْوسَات، غير واعية بذاتها، فهنا يكمن الفرْقُ- حسب نظري- بين الحداثة المرغوبة، و«الحداثة المعطوبة»، كما يسميها- في بعض كتبه- الشاعر المغربي، الدكتور: محمد بنيس، أحد أقطابها إبداعا وتنظيرا.