الناشه الرشيد لبات
جدتي كنز ذكرياتي، و منجم الحكمة في حياتي . كانت قبل اليوم تستعيد ذكرياتها معي بمرح كبير، تقهق من حكايات شغبي و اعترافاتي المتأخرة بكل أفعالي الصبيانية الشيطانية ، لكنها باتت و هنة، بالكاد تجد سويعة راحة من ألام مبرحة تقض سكينتها،و بالكاد نجد ابتسامتها الدافئة، نقنصها صيدا ثمينا خلال اليوم و الليلة الواحدة .
لا أتقبل تغير حالة جدتي، لا أؤمن بهرمها و مرضها ، فمتى استسلمت لذلك فيها خضعت له بنفسي، فأنا أكبر معها كجزء لصيق بها، بل أنا بالفعل شئ منها و هي تحتل وجداني بالكامل .
ضحى، و طوال سنين صبايا الخوالي، كانت جدتي تحضر كل إثنين أو خميس من الأسبوع، خلطة ” لخواظ”، القليل من ورق الحناء و “القرنفل” و ” تارة”، تهرسها معا بالهاون
الخشبي الصغير، و أحيانا تتركها دون هرس، و تقوم بذلك عند خيمة إحدى جارتها، فيوم الإثنين هو يوم فك ضفائرها و تسريحها و إعادة ضفيرها من جديد .
يوم “الظفير “، يوم خاص و مميز من الأسبوع، يلتئم جمع تربات جدتي؛ النايرة، الرعبوب ، بنينة ، السالكة، منينة…بخيمة إحداهن، تهيئ المضيفة لهن متكأ، مقدمة ما ادخرته خلال الأسبوع من بخور و عطور و تمر و حليب ” الزريق” .. تحسبا ليومهن هذا .
ما نحت بذاكرتي و شغفها حنينا ؛ ضفائر جدتي السود الطويلة و رائحة معجون القرنفل و الحناء المضمخة به على الدوام، و طريقة جلوسها و إتكائها حينما تستسلم بشعرها لمصففته اللبقة المحترفة، لتعيد “غدائره المستشزرات” عادتها .
في ذلك المجلس الدافئ حيث أدركت صباحات الطفولة و مساءات البلوغ، تتبادل جدتي و صديقاتها أدوار “الضفير” ، في حبور و مودة ، يتجاذبن أطراف الحديث و يروين القصص و يرسمن مسابقات لتقييم المحاسن و المفاتن ، كانت جدتي تتصدرها، خاصة عندما تشمر عن خلاخلها الفضية “إزارها”، فيرين ساقيها البلوريتين الممتلئتين.
لا أدري كيف أصف تسريحة شعر جدتي، كان لها نمطا مألوفا ، حيث تكون الجدائل سبعا ، ثلاثة على جانبي الرأس و واحدة من الخلف،ترصع بخرز زاهي الألوان، نوع منه يسمى”أمجون” و آخر “لخراب ” مفرد”خرب ” بضم الخاء ، و وسط الرأس يرفع الشعر ضفائر إلى أعلى، ترتب بتناسق عند الجبين، لتصبح “أكافى ” ، لم تكن جدتي بحاجة ل”بحام” ، تلك القطعة القماشية السوداء المعدة بعناية لتساعد في رفع الشعر من الأمام، كان شعرها الطويل الجميل وافيا بالغرض .
ضفائر جدتي كانت تميمة، و ليوم ضفيرها طقوسه، و له محاذيره، فجدتي لا تسرح شعرها الخميس الأخير من الشهر القمري ، و لا يوم سفر أحد أولادها إن صادف ذلك يوم الإثنين أو الخميس ..
اليوم و أنا أعتني بها، راعني أن ضفائرها لم تعد كما هي، لم يعد خرزها في مكانه و لم تعد تبالي بيوم ضفيرها .