لا أحب الحديث في السياسة ... ولا أحب الحديث عن الرؤساء السابقين بما يكرهون ...أنظر إليهم من باب (أكرموا عزيزا ذل)..مع قناعتي أن الحديث عن الرئيس هو حديث عن شخصية عامة وليس حديثا عن فلان ابن فلان....أحيانا أتوهم أن كل رئيس يولد على الفطرة فبطانته "تهوده أو تنصره أو تمجسه" (... إنهم علموني أن أرى نفسي إلها وأرى الشعب من الشرفة رملا...)لم يعمر ولد هيداله في الحكم طويلا ...لم أنس وأنا تلميذ في الثالث الإعدادي صوت المصطفى ولد محمد السالك يقرأ بتحسر وألم (...وما تدري نفس ما ذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت) نعيا لولد بو سيف رحمه الله الذي سافر إلى داكار في يوم عاصف وسقطت طائرته في البحر...اختفى ولد محمد السالك وسمعنا الإذاعة تتحدث عن رجل اسمه محمد محمود ولد احمد لولي لكنه كان كريما فمر بسرعة ليستوي ربان السفينة الجديد في قمرة القيادة : رجل اسمه محمد خونه ولد هيداله...لن أتحدث عن الرجل كثيرا لكن رحيله كان فتحا عظيما ...كان وقفا لنحيب ولهيب و وجيب ...مارس جلادوه أقذر ما توصلت إليه آلة البطش لدى استخبارات الأنظمة المستبدة المتخصصة في قمع الشعوب ووأد الكرامة البشرية بأبشع صور التعذيب و الإهانة والوحشية ...وكان الموت أحيانا أرحم ببعض ضيوف اللؤماء حين ينتزعهم من أنيابهم الخبيثة المتلذذة بتمزيق اللحم البشري ،
دجمبر 1984 كنا نتحلق حول تلفاز الجيران لمشاهدة أي شيء تعرضه الشاشة الصغيرة...لا نفرق بين نفايات المسلسلات المصرية وتلاوة الحصري وأفلام "توم صوير" الالكرتونية ...في تلك الليلة ظهرت نشرة الأخبار المصورة ..ولد هيداله يصعد سلم الطائرة متوجها إلى بوجمبوره لحضور مؤتمر الفرانكوفونية ...ولد الطائع عند سفح السلم يودع الرئيس بتحية عسكرية منضبطة كأنه تمثال ...ما كان أمير البلاد يدري أنها تحية الوداع الأخيرة....أثناء صعود هيداله للسلم عثر وكاد يسقط لأن رجله وطئت طرف دراعته ...تغلب على الحالة وواصل الصعود ...وراءنا عجوز (أم صديقي) من أولاد الناصر تحرر حبات سبحتها بالاستغفار قالت لما واصل صعود السلم بعد عثرته : ( مر ...لكنت ابعقلك ترجع) ...لم نلق لها بالا ...لا شك أن صديقي لم يستطب تعليق أمه على التلفاز...يوم الأربعاء الساعة الثانية إلا ربعا ، والإذاعة تبث برنامج الأدب الشعبي قطعه صوت مضطرب ...يرتجف ..يقرأ لائحة مزج فيها بين رتب بعض الضباط ووظائفهم ...لم يتغلب على ارتباكه إلا بعد جهد ، لنسمع أن اللجنة العسكرية للخلاص الوطني برئاسة العقيد معاوية ولد سيد احمد الطائع استعادت حكم البلاد من نظام بائد ...تذكرت تعليق المرأة وطيرتها من عثرة الرجل ....
كان انواكشوط في تلك الأيام عاصمة الرعب ، كان يشبه مدينة بائسة حل بها وباء فتاك و الموت ضيف منتظر يدخل بلا استئذان ، كل شيء موحش ، الشوارع مظلمة وخالية إلا من كلاب بشرية تتوقد شرها للانقضاض على فريسة برئية ...وهم في الغالب من غير المعمرين في الحياة الدراسية ...فيعوضون الأمية بالسادية والانتقامية من كل من يميز بين الباء والياء ..الناس يعيشون بعض مشاهد يوم القيامة ... المرء يفر من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا كي ينجو من تلفيق فجور سياسي فيه تطاول على قداسة أمير البلاد ...
سقط ولد هيداله ...وانتكس سدنة المعبد الأثيم ....احتفلت سماء العاصمة بألعاب نارية بديعة الألوان ...خرجت الجماهير في مسيرات ابتهاج وحبور عفوية وتلقائية صادقة لأنها لم تطبخ على نيران سياسية ينفخ كيرها فاعل سياسي مجرور أو مضاف أو منصوب بنزع الخافض ....
كانت السياسة في تلك الحقبة عملا سريا ... يتشكل في رحم الفرص المتاحة والمحفوفة بالمغامرة وترصد زوار العتمة والفجر الكاذب ....لكنها في مرحلة الجنينية تلك لم تلجأ إلى المسوح القبيحة ... لم تستعمل " اكريمات " القبلية والجهوية والشرائحية والعرقية ... الديمقراطية المحنة حولت السياسة اليوم إلى مومس لا ترد كف لامس ....
من قصيدة قلتها ابتهاجا بيوم 12 – 12 – 1984 (بعد سنوات نشر صديق هذا النص في قناع تنكري نظرا لتلبد الغيوم السياسية وانحراف السفينة عن المسار الصحيح...لكن الأسلم ان يستعيد هويته ...فهو ابن شرعي لدجمبر...)
.
.
.
دجمبر يــــــا ســوطا مـكهـــربة هوت @
ممزقة خجلــــــــــى جــوانبها الحمــــر @
دجمبر يــــــــا قضـبان سـجن تساقطت @
وكـم كان لا يسطـــــــــيـع أن يعلو النسر@
دجمبر يـا جـــــــــــبر الــمهيض جناحه @
وقبلـك لــــــم يحـــــلم بأن يبرأ الـــكسر @
دجمبر يــــــــا خلا تلقى خــــليلــــــــه @
ولا حــقد مـــــــنه يختشيـــــه ولا غدر @
دجمبر يا أمــــــا تضــــــم وحيــــــدها @
وقد فـــــــرق الإلفـــين من غـيه القهر @
دجمبر يـــــــا أمـــن المـحـدث أهلــه @
وقبلك لا يــــنـجيه ســــــــر ولا جهر @
دجمبر يــــــا عــود الـغريب لأرضه @
بهيـــــــجا قد احلولـى له القابض المر @
دجمبــــــر يا رقص الـصغار ولهوهم @
ويا مأمـــــن السمـــــار إن طلع البدر @
دجمبر يـــــــا حلم الشيــــــوخ يرونه @
وقد شــــــابت الأيـــام وانفـــلت العمر @
دجمبـــــر انت اليوم فــــــــــتح وعزة @
وعهد عـــــــلى الأحرار ما حيي الذكر @
انواكشوط 1984