ي شهادة الميلاد أني مولود في “الواحات”.. أيرمز من يغتالون الأمكنة بهذا إلى ضياع ولا قرار ولا انتماء…؟ أم أنه سفَر في ماضي الترحال الذي كان سمة الحياة في هذه الأرض..؟
لم يفكر من وضعوا الاسم في هذا ولا ذاك.. إنه “ذكاء” إداري يخفي مخاوف من أن يرمز الرشيد إلى إحدى الجماعات التي تشملها البلدية أيام إدخال هذا النظام في الثمانينيات.. وفي سياق المنطق نفسه جاءت بلدية “التنسيق” لتطمر وجه “النيملان”، و “السدود” لتمحو أي إحالة إلى رمزية “أشرم”..
قبل فترة سقط “التنسيق” لتطل “النيملان” بوجهها .. سيتذكر كل ناظر إلى وثيقة تصدر عنها معركتها الخالدة و أمجادا أخرى.. وحبذا لو كنت أستطيع استنطاقها، فالأمكنة لا تبوح بأسرارها إلا للواصلين “مقامات العارفين”..
مارست قدرا من التحايل بحيث فرضت في جواز سفري وأوراق أطفالي ( الرشيد- الواحات).. أطفالي ولدوا في نواكشوط، لكنني أصررت على أن تذكرهم الأوراق بالوادي..
وغدا… أحلم باختفاء التسمية الغبية التي ألصقت بالرشيد ذي التاريخ المجيد، والقمر الحالم، والبطحاء الشاهدة على حلقات الذكر وترتيل القرآن، ومجالس الطرب، وحكايا الحب.. وحل النوازل الفقهية.. ونشوء بذور الحرب والسلام…
مكتوب في أوراقي أنني مولود في “الواحات”…..
أنا في الواقع مولود في خيمة أمام “أتيلة” خالده في بطحاء ولد الكوري عند سد ” أم الطبول”.. لو كتبتم لي أنني مولود بها لكان فرحي بحجم السماء..
“أتيلتي” الخالدة ما تزال منتصبة في كبرياء، لم يغز الشيب رأسها ولم تتسلل التجاعيد إلى جسمها الناعم…
أحيانا أنصب خيمة في البطحاء أمام “الخالده”، وأحيانا أخرى أقضي يوما في ظلها خلال العطل الطويلة التي انتزع لنفسي في تكانت …
تحدثني الـ “أتيله” عني ..عن صراخي حينما ولدت.. عنها وهي تدغدغني وأنا رضيع.. عن “حكايا” روتها لي وأنا طفل صغير.. عن صبايا البدو.. عن أقوام عظماء مروا من هنا.. عن “الطبل” و”الحلة”.. وحينما تتعب من “الحكي” تشير بإصبعها إلى “ربط” “أم الطبول” وتقول : ” استمع إليه ففي جعبته الكثير”…
بي فيض حنين إلى رحلة تنطلق من هنا نهاية الخريف.. وكم هو لذيذ “رحيل” عاشق الأمكنة إلى الشمال في هذا الموسم..
على المرتفع الصخري الواقف إلى الغرب من “بطحاء أتيله” تُرى “معالم” الطريق إلى الرشيد موئل أحلامي وأسراري..
هوذا “ ﮔلب اشوي”، و”أشاريم”.. و” ﮔليب ولد أحمد قاظي”.. ويتراءى “ ﮔلب أشلاي” و “ ﮔلب الظاية”.. وبنظرة إلى الجنوب الشرقي سأودع “ازراق لحرج”، و “ﮔلب إحياك”..
سأشرب شايا في ظل “ ﮔلب اشوي” عَشِيا.. وربما أغرتني وشوشة عصفور، أو هدير جمل، أو غناء غصن تحركه الرياح بالمبيت، فتُنصب الخيمة في مكان صقيل..
عودتني الليالي هنا أن تكون رائعة بسيطة دفؤها الانساني دفق شعر وفيض شعور…
لن أقاوم إغراء الليل هنا.. سأبيت… وفي الصباح أصحو تَقَاذَفُني الجهات.. هل أسلك الطريق الغربي أم الشرقي؟..
إذا أنا غرَّبْت سأفتقد “الظاية” و “ ﮔلب أشلاي”، والكثبانَ والسهولَ الواقعةَ بين هذه وتلك.. وسيغضب حتما كثيب كريم مضياف يزين ما بين “تنيامل” و“ ﮔليبات الركايز”…
وإذا أنا شرَّقت سيطويني النداء المكتسي لون الحلم القادم من رأس “البلجة” التي تطل من “تيمجيج الببظة”، ومن بطحاء – دافئة تحفظ السر- تغفو عند قدم الجبل الأشيب.. سيقول النداء: “أين الوفاء ياهذا..؟”… ستحمل الرياح صوته إليَّ مذكرا بما كان أيام كنا….
لن أقول له إنني الوحيد الذي لا يفكر في خيانتها، فهو يعرف أني سأخونها حتما مثلما خانها – بالموت- آخرون عرفتهم معي.. ولن أقص عليه خيانات الأحياء، فأنا لا أريد إضافة وجع إلى حمل أحزانها…
سأهرب من الجواب لأنني لا أستطيع الحسم، وألجأ إلى الرعاة… هم في العادة يُشَرِّقون في هذه الفترة… سأتركهم وطريقهم، وأميل بالسيارة ناحية الغرب لتصافح عيناي “تيمجيج “.. سأنثر مع الرياح رسالة شوق وحنين إلى “البلجة” وبطحائها الدافئة الكتوم… وسيُفتح باب واااااااااااااسع من الحنين إلى “إدوجن” و” لخطيط” و “تندمكات” و”احسي الـﮔـاره” و”لـﮔليبات”…
سأحاول أن أسد باب الذكرى الجَموح، لكن الأمكنة ليست مثلنا، فهي وفية لبعضها بعضا.. ستُذكِّرُ بليالي “أﮔـدرنيت” و “تشنات” و”أدندون” والكروميات”..
ستُحدِّث “تيمجيج” عنها هي وعن “أﮔـدرنيت” وسيطويني عندها موج من عطر حزين.. لن أستطيع مواجهة “البلجة” بأني أشرق هذه المرة في الطريق إلى وكر “لحسي” و”ﮔطع أﮔـدرنيت” في رحلة اجترار للذكريات..
سيطول “المـﮔطع” إذا تُركَتْ هذه الأمكنة تروي قصصها الرائعة.. سيختطف الفقيد الشيخ ولد آبه أذني فيردد طيلة الرحلة “ملاحم” ولد آدبه و”الحلة” و “الأوكار”..
وعلى وقع “البتيت” الحزين سأسرق من الفقيد أوقاتا أجتر فيها قصصا تهرب مني مع العمر الهارب و المسرح الجميل المتحوِّلِ، الذي أحاول- عبثا- أن يبقى… سأحزن كثيرا، وأنا لا أحب الحزن.. لذا لن يكون “المـﮔطع” إلا ثلاث ليال فقط، الأخيرة منها على كثيب صقيل إلى الشمال الغربي من ““اﮔليب الرجل ” على بعد كيلومترات قليلة من “الواد”..
في الصباح سيسلك الرعاة طريق “أم الارجام” و “حفرة أبيله” في رحلتهم إلى الملتقى أﮔـدرنيت ، ولحسيْ).
أما أنا فسأتجه إلى “الواد”.. يخيل إليَّ ألا ضرورة لأن أكتب “الوادي” أو أشرح أنه الرشيد..
سأتوقف وأنا على مدخل “اطريـﮔ ازرع”.. سأنظر ناحية الجنوب الشرقي، فتصافح عيناي “الدخلة” و”المبروك”. وسيتراءى “إريجي” من بعيد.. لن أتمكن من رؤيته بالكامل، لكن خيالي سيكمل الصورة.. سأبذل جهدا كبيرا ألا تسجنني الذكرى في “إريجي” الواحة الجميلة ذات الينابيع الجارية سرمدا التي أودعها الكثير من الأسرار..
سأوقف شلال الذكريات هنا لأتجه ببصري إلى الشمال.. هي ذي “تلمدين” شريط أبيض يشق اخضرار النخيل ويحمل التاريخ… وهو ذا التاريخ نفسه: “آلـﮔوط” الذي يحمل على ظهره المدينة القاديمة.. ستبعث الذكري في أنفي رائحة البارود، وورق الكتب.. وستحمل إلى أذني صهيل الخيول وقرع الطبول ورنين الأوتار الشجية.. سيخيل إلي أني أسمع صوت أبي سعيد عثمان بن سعيد ( ورش) : “هنا تم إتقان سبع قراءات لكن روايتي كانت الأغلب”.
لن يسمح لي العظيمان “مري” و”الشنينيفه” الجبلان اللذان يحرسان البطحاء منذ أن كانت، بالكثير من الوقت في “تلمدين” و”القديمة”، لكنني لن أطيل النظر إلى الجبلين عتابا.. لقد ضيعا ما ظلا يحرسان..
سأنتظر الليل وأتجه إلى البطحاء على ضوء القمر.. سيزداد الغضب من الجبلين.. لم تعد البطحاء كما عرفتها .. لقد أصبحت طينا وصخورا.. ضيعها جشع تاجر وسلبية سكان..
سأجلس على إحدى الصخور الكبيرة التي تركتها آليات رجل أعمال جشع أعطته الدولة صفقة إنجاز مقطع من طريق آدرار – تكانت.. سأتذكر الخالد أحمد ولد اج.. لوكان حيا لشاركني الغضب .. لقد أحب هذه البطحاء، وكتب فيها وفي الرشيد أجمل الكلمات.. سأتذكر من كلماته ” “نور البطحة ظو يكفيك في الليل أل خفت الظلام” وبوحا يقول إن الرشيد “امونك واحلي الاحلام”..
سأغمض عيني عن “سوءة التاجر” و أتناسى عجز الجبلين عن حماية الوادي.. وأسرح مع ظلال الماضي الجميل..
لن يطول مكثي في ما أصبح مدينة الرشيد التي استغنت عن “ظو البطحاء” بأعمدة الكهرباء والمصابيح المنتشرة في كل مكان. وبالهاتف الخلوي والانترنيت عن الأخبار القادمة مع سيارات نادرة، أو ركبان أو عبر شبكة الراديو ( راك)..
سأزور المقبرة أترحم على أهل وأصدقاء ومعارف.. لقد استقطبت كثيرين لهم معزة كبيرة في النفس، ولي مع كثيرين منهم ذكريات..
سأغادر ما أصبح مدينة الرشيد لأواصل رحلتي خلف الظلال الهاربة..
سأضرب خيمتي في الأمكنة نفسها كما هي عادتي .. سيحتفي بي “أﮔـدرنيت”، و”احسي الـﮔاره” و “الكرومييات”.. لأن الأمكنة لا تعرف الخيانة.. الانسان وحده يخون.. والزمن يخون أيضا..
سيغمرني المكان بدفئه وذاكرته التي لا تنضب.. لكنني سأكتشف أنني أطارد السراب..