
من باريس إلى آكران
ما بعد موسم الهجرة …
بدي المرابطي
ضيوفنا الكرام،
كما تعرفون، فالكُـتّاب والمؤلفون ذوو التأثير الكبير مثل المختار السوسي غالباً ما يكون لكلِّ واحد منا سيرتُه أو حكايتُه الخاصة معهم.
بهذا المعنى، لي أنا أيضاً ككثيرين منكم قصتي الخاصة – إن جاز التعبير - مع المرحوم محمد المختار السوسي التي رويتها عرضاً في نص نشرتُه في بداية سنوات التسعينات تحت عنوان "من باريس إلى آكرَّان، هوامش على موسم هجرتي إلى الجنوب".
كان ذلك كما قلتُ سنوات التسعينات وكنتُ حينها في أواخر العشرينات من العمر أي في المرحلة الشبابية المسكينة إن أردنا تخفيف عبارة " أبول نزان Paul Nizan " الشهيرة. وكنت أمرّ ككثيرين في ذلك العمر، لاسيما من الضائعين مثلي في شتاءات أوروبا، تلك الأزمة شبه الميتافيزيقية التي تتجسد في البحث المبالغ فيه عن الجذور وعن خفايا الامتدادات العائلية المكانية والزمانية. لماذا آكران، التي سأعرف لاحقا أنها توجد سبعين كلمتراً تقريباً جنوب تيزنيت، لأن جدي، والد والدي، الذي لم أدركه على قيد الحياة إلا قليلاً، وُلدَ فيها سنة 1891 تقريباً، ولكن أيضا لأسباب متداخلة مرتبطة بذلك.
رفقة صديقي وأستاذي سابقاً Marc Dehon عبرنا الأندلس قادمين من باريس وأنا أتخيل في كلّْ جدارٍ ومئذنةٍ شطراً من رحلة البحث تلك عني وعن آكرّان :
"وكنتُ التيقتكَ "يوسفُ" في ظلِّ "قرطبةٍ" قلتُ عُدْ؟
والتقيتُ بـ"طارقَ" يعلو الجزيرةَ قلتُ تراجعْ!
وعدتُ إلى "الكتبيةِ"، تنظرني نظراتِ الرحيل وتسكت:
اسأل "بلنسيةَ"!
و"الفتى الشاطري" ركبَ البحرَ ثم انتهى واختفى،
وعدتُ إلى "الكتبيةِ" حيناً تصافحني عتباتُ الزمان التي اهترأتْ.
حين وصلنا هذه المنطقة نزلنا في فندق صغير بتيزنيت أعتقد أنه ما زال موجوداً. كانت لدى صديقي نظرة تعاطفية ممزوجة بنوع من التهكم تجاه رحلة بحثي هذه لاسيما حين بدأتُ أسأل في كلّ فرصة عن آكرّان فأكتشف آكرانات متعدّدة، ثم أروي عنها حكاياتي العائلية التي حفظتُ في طفولتي عبر تكرارها في سياقات كثيرة، وارتبطتْ في ذهني بأسماء ظلّتْ تأخذ دلالاتها مما أسمع من حكايات أو مما أعثر عليه عرضاً في بعض القراءات، أسماء بعضها معروف كـ(وادي درعة) و(وادي نون) وبعضها أقلّ شهرة حتى لا أكاد أجد أحيانا سوى التساؤل الحائر. أسماء ترتبط في مخيلتي بأشياء كثيرة مثل الثلاثين رحلة للوصول إلى أقرب نقطة ماء في (آدرار سطّف) بين رحلة الشتاء التي تجعل الناس تقترب من مراكش ورحلة الصيف التي كانت تقودهم إلى بلاد القِبلة – بقاف تميمية - أي في الضفاف اليسرى بل وربما أحيانا اليمنى لنهر صنهاجة أوالسنغال جنوب موريتانيا حالياً. كيف كان الناس عندنا يعبرون كل هذه المسافات الوعرة كلّ سنة على الأقل عبورا مزدوجا ذهاباً وإياباً؟ الإخباريون القدماء ألهمتهم هذه الحياة وهذه الخريطة قصصهم المبالغ في خرافيتها عن "وادي الرمل" أو بحره و"مدينة النحاس" أو بالتعبير المحلّي "عين الصحراء":
"هنالك في هضبتي "إجي" تأتي القصائد من "تيريسٍ"
بعدما حضرتْ جمع شاي يغازله الفولُ في ضفة السنغال،
وتمضي ليحبل نجمٌ يرافقها نحو زيتونة خلف "أم الربيع" "
في رحلة البحث عن الأسماء تلك، كاد الوصول إلى آكرّان أن يماثل بلوغ "الكأس الأسطورية Graal " التي أطنبتْ بعض الآداب الأوروبية الوسيطة في تكريس رمزيتها. كنتُ أعرف فقط حينها أن آكرّان الذي أبحث عنه يوجد حسب المرويات العائلية التي ترعرعتُ على سماعها في مكان ما بين تارودانت وكلميم. وكان مرتبطاً في ذهني عبر المرويات نفسها بأسماء أخرى، لا سيما أسماء أماكن، بعضها إما تغير مع الزمن أو إما كنتُ أنطقه بطريقة تختلف عن النطق المحلي بنسبة أو بأخرى. أما آكرّان نفسها فكثيراً ما اقترحَ علي حينها سامعيَّ بدائل كثيرة كٍآكرام. كانت إذن علاقتي الأولى بكتب المختار السوسي، بنصيحة من بعض الأصدقاء - لهم مني بالمناسبة عميق الشكر والعرفان بالجميل - عبْر رحلة البحث عن الأسماء التي أصبحتْ أيضا للسبب نفسه رحلة البحث عن ضبط الأسماء. لم أجد المؤرخ فقط حريصا على تبيان منهجيته خصوصاً في استهلالات كتبه في طريقة كتابة أسماء المنطقة وضبطها والتدقيق فيها وفيما يعترضها من تبدلات وتصحيفات بلِ أيضا أكثر من ذلك كان تسييقه الزمكاني الرصين لتلك الأسماء مفتاحا تعرفون أهميته المركزية بالتأكيد أكثر مني.
ولكن السنوات الأخيرة خصوصاً حين كنا نحضّر لتنظيم منتدى الحركات الإصلاحية في غرب افريقيا الذي تشرّفنا بتنظيمه هنا في تيزنيت منذ ثلاث سنوات كان فرصةً للعودة أكثر إلى أعمال المختار السوسي والاستماع إلى مختصين فيها.
ولعلّ مما لفتَ انتباهي أكثر حين كنتُ أراجع النصوص التي خصّصها المختار السوسي لحياة الشيخ ماء العينين في كتابيه المعسول والسوس العالمة، أنّه من جهة كان مهتما بعرض المشترك بين هذه المنطقة وما سواها ولكنه كان أيضا مهتما بالقدر نفسه وربما أكثر بتوضيح جوانب الخصوصية المبدعة فيها، في سياقات ظهورها وتطورها.
ومن هنا يظهر جزئيا، على الأقل في المقاربة الأولية، المبرّرُ المنهجي والتاريخي لانكبابه على التأليف عن المنطقة، فهو مهتم ليس فقط بجوانب غير معروفة بما فيه الكفاية من طرف المعنيين من غير سكان المنطقة ولكن أيضا وبشكل خاص بالجوانب الاستثنائية والمبدعة. فالأمر بالنسبة له يتعلّق بـ«حركة علمية رسختْ في جانب كسوس حتى قدرت أن تلد مثل هؤلاء، وهم غير قليلين بسوس، حركة متسعة ثابتة الأساس، ينبغي للتاريخ أن لا يجهل مكانتها» (سوس العالمة، ص: 57). وبالتالي فإن المختار السوسي لا يتردد في الحديث عن نهضة سوسية بل عن نهضات متتالية تدشنها النهضة الأولي في القرن العاشر الهجري وما بعده.
يُـذكِّر مثلاً في "سوس العالمة" بترتيب الاهتمامات العلمية لأهل المنطقة وبأن المرتبة الأولى فيها هي لفنون النحو واللغة والفقه وما إليها، وعلم الكلام في المرتبة الثانية، والأصول والبيان والمنطق، في المرتبة الثالثة. ولكنه يَـذْكر قبْل ذلك في الكتاب نفسه أن علوم اللسان العربي بشكل خاص أي بعبارته "اللغة والنحو والتصريف" هي المجال الذي يرى أنهم تميزوا فيه: «ويعلم كل مطلع منصف أن العناية التي تلْقاها هذه الفنون الثلاثة في جنوب الأطلس لا تلقاها في شماله ». ثم يستفيض بعد ذلك في بسط العناصر العلمية والميدانية المعاشة التي تجسّد هذا الاهتمام الخاص.
ولكنه حين يعرض لمختلف الحقول المعرفية الأخرى المتداولة بدرجة أو أخرى في العالم الإسلامي قبْل العصر الحديث فإنه يورد اهتمامات لافتة في المنطقة بعلوم كالحساب والهيئة والطب ولكنه يتوقف وقفة عند علم الأسانيد المعروف فينطلق من ملاحظات ترد في بعض الكتب القديمة عن أن بلدان المغرب أكثر اهتماما بالدراية أي بالجوانب العقلية في العلوم منها بالرواية والنقل عكسا لبلدان المشرق. ينطلق من هذا الاعتبار الذي يقدّمه كمعطى يصدق في نظره على المغرب أو المغارب عموما وعلى هذه المنطقة بشكل خاص، أي هذه المنطقة بما هي جزء من كلّ. ولكنّه يتوقف عند استثناءات جعلت بعض أعلام السوس لا يتميزون فقط من وجهة نظره في علم الأسانيد بل يختطون فيه طريقا خاصا ويدشنون فيه وله منهجية مميزة لهم.
________________
ألقيت هذه الكلمة في المؤتمر الدولي حول: "محمد المختار السوسي: عطاؤه العلمي وجهده الإصلاحي"، المنظم في مدينة تيزنيت (المغرب)، أيام: 20 ،21، 22 شعبان 1446/ 19، 20، 21 فبراير 2025.