"روبندرونات طاغور شاعر و مسرحي و روائي بنغالي، ولد عام 1861 في القسم البنغالي من مدينة كالكتا وتلقى تعليمه في منزل الأسرة على يد أبيه ديبندرانات وأشقائه ومدرس يدعى دفيجندرانات الذي كان عالماً وكاتباً مسرحياً وشاعراً"
يقول طاغور :
" نقترِبُ مِن العَظَمَةِ بِقَدْرِ ما نَقْتَرِبُ مِنَ التَّوَاضُعِ "
كلمةُ التّواضع رغم صِغرها من حيث عدد الحروف و الحجم ، و انفرادها كعنوانٍ مُستقِلٍّ، فإنها أسالَت أنهُرا من الحِبرِ، و تَصدَّرت مجموعاتِ القِيَّمِ في ثقافاتٍ مُختلفةٍ ، حتى كادت أن تكون مَحَلَّ إجماعِ، لولا انتشار الجهل و الوحشيةِ و تغَوُّلِهما في بقاعٍ مُختلفةٍ من العالَمِ القديم و الحديث و توارُثُهما لقرونٍ و عُقودٍ طويلةٍ.
فما هو التّواضع؟
و ما هي سبُل الحصول عليه؟
و ما هو تأثيره ؟
و من أين يُكتَسَب ؟
في عالَمِنا المُتشابِكَ يقِلُّ أن تجِدَ مَفهوما لم تُثَرْ حوله غيمةٌ من التشكيك و التَّحجِيم تصلُ حدَّ التَّنافض و التَّعارُض في غالبيتها، و لا أعرف استثناءً من هذه القاعدة الغريبة و العجيبة.
لذلك ليس غريبا أن يختلط التواضع بالجُبنِ عند بعض العامة و في مجموعات بشرية نائيةٍ، فمفاهيم العِزَّةِ و الكرامة ليس لها فهْمٌ موَّحَدٌ في أركان هذا العالَمِ المُتَرامي.
و لطالما اعتُبِرَ الهدوء و الرزانة من صفات النقص و الخُمولِ حسب درجة الحرارة المناخية و السياسية و الاجتماعية، و كثيرا ما وَجَد الجِيلُ الهادئُ نفسَهُ يُغرِّدُ خارج السِّربِ، و كأنه يتحدَّثُ بلغةٍ غيرِ مفهومةٍ و لا مسموعة، رغم أنه لم يُغادِر يوما من الأيام أرضَ مولِدِهِ الأم.
كما أن مفهومَ القِيمة في عيون العامة -و الذي ضخَّمهُ وجود طوفان الإعلام و الوسائل- يعتبِر التواضع ثغرةً كبيرةً تَهدم الأبراج التّخيُّلِيَّة التي بناها و حافظ عليها لعقود بالجُهدِ و العملِ الجاد الدائمِ.
يمكن أن نُعرِّفَ التواضع بأنه الحفاظ على الجانب الإنسانيِّ البسيط و المعروف حتى ولو تغيرت القيمة المعرفية و الاجتماعية و السياسية و الدينة للشَّخص نفسه، و أن لا تخْلُقَ القيمةُ الطّارئةُ بُرجَ عُزلةٍ و لا نظرة جديدة تنتقِص قدر الآخرين أو قيمَتهم أو يُفهم منها التّعالي عليهم، و ينطبِق ذلك على الأمكنة و الأغذية و الظروف و الدواب و الأجواء و الطرقات.
مقولة الأديب و الشاعر الكبير "طاغور" تربط بين ركنين كبيرين هما:
العظمة و التواضع،
و العظمة بالمعنى الذي يتبادر إلى الأذهان تُؤدي إلى مفهوم مُناقض لمفهوم التواضع الذي يقول طاغور إنه بقدر القرب منه نقترِب من العظمة،و التي تُعتبَر الهدفَ الأسمَى في هذه المقولة الخالدة.
فما هي العَظَمَة عند طاغور ؟
العظمة مفهوم تمَّ تشويهه مرات و مرات بإضفائه من أطراف فاعلة و مُتحكِّمة على أفراد بعيدين كلَّ البعد عنه و عن الطريق السالكة إليه، فلفظ العظيم في بعض الثقافات الحديثة ارتبط بالقادة و بالمحاربين و اليوم يُطلق في الأفلام و الروايات على قادة العِصابات و شبكات التهريب و التّخريب، فأيّ عظمة هذه التي يتلفظون بها على الشاشات و في شبكات التواصل، و يرسمونها على واجهات البنايات الضخمة و المشاريع الكبيرة.
العظمة عند الشاعر طاغور و غيره من الفلاسفة و رجال الفكر، هي القيمة المُستَحَقَّةُ بالجُهد و العمل و الأخلاق و التّعامل، القيمة التي كان الفرد بأقواله و أفعاله و تَعلُّمِه يبنيها لبنةً لبِنةً ، دون أن يَشعُرَ بذلك، و كأنها أقلامٌ كانت تَتبَّعُّه تَخُطُّ مسارَهُ بشكلٍ دائم، و بعد ذلك يَتِمُّ تقييم المَسار و تَجْميع نقاطه و محطَّاتِه، حينها فقط يُكتَبُ اسمُه في صفحاتِ الخُلودِ ، بعيدا عن أكُفِّ و أعيُنِ و أطماعِ المُتسلِّقين و العِظاميين و أصحابِ المَراكزِ و الأموال و الإعلام.
لكن كيف يكون التواضع طريقا إلى العظمة أو وسيلة من وسائلها أو الدليل إليها ؟
العظمة التي ذكرنا سابقا و التي نقصِدها هدفُها إنسانيٌّ يرتقي دَرَجَ السُّمُوِّ و الرفعة و مادام الهَدَفُ بتلك الصفة و الإنسانُ هو أصلُهُ و هدفه و مداره، فكيف يجِدُ اسْتِصْغارُ الإنسانِ بالتكبُّر عليه طريقا إلى العظمة المنشودة.
التواضع هو البقاء على الأصل و بنفس الأدوات و الرؤية لأنها هي التي كانت السبيل إلى التطور و التفوُّقِ و الرقيِّ، و بها سيتحقق المزيد و سيتمر المسارُ بشكله الصحيح.
التواضع هو الرجوع إلى الركن و المنبع الذي هو مصدر القوة و مركز التوازن و ميدان المعارف و أساس البناء المُتمثِّلِ في الأرض.
التواضع هو العودة إلى الفصيل الأول المُتناغم مع الفرد و الذي يُشاركه الخطاب والفَهمَ و الطموحَ و الذي يتأثر بنفس الظروف و الكوارث ، المتمثِّل في الإنسان.
التّواضعُ هو التقييم الذاتيِّ بعيدا عن الطموح و الأحلام و شَرَكِ الغرور و بريق السلطة و انتصار المال و الجاه، و نبتة الإقصاء التي تنمو في بِرَكِ الأعراقِ و الألوان و الجهاتِ.
التواضع هو الانتماءُ الدائم للمجتمع الإنسانيِّ و المناخ الطبيعي ، التواضع ذاكرةُ الصُّحبة و التعايش، هو انحناءُ الغُصن المُثقَل بالثمار ليُشاركها المارَّةَ دون معرفة توجهاتهم و لا ظروفهم و لا قدراتهم .
و السؤال الكبير المطروح:
لو أن أصحاب التجارب العلمية الإنسانية الكبيرة احتفظوا بمعارفهم و علومهم لأنفسهم فقط، و نظروا إلى الأمم و شعوبهم الخاصة بازدراء ، و إلى العالَم بإهمالٍ و احتقار،
كيف سيكون عالمنا الحديث اليوم
لو وقَعَ ذلك بشكله المُخيف؟
إنها صورة أخرى من صُوَّر التواضع و الإنسانية و الرحمة لا نُعيرها اهتماما كبيرا، و لا تجد مَن يخلدها في سطور قليلة من كتاب صغير.
و للذين لا يفهمون ذلك أضرب مثالا حيا ملموسا بعلوم الطِّب ، من أدوية و أجهزة و نظريات ، و غالبية الأفراد انتفعوا بها و بشكل مُباشر!.