محمد المختار الفقيه
يأسرني و يبهرني فهم الشيخ محمد سالم بن عبد الودود رحمه لمعاني الكتاب الحكيم.. أستمع إليه المرة تلو المرة فأكتشف في كل مرة دررا لامعة و كنوزا زاخرة من المعاني لم تخطر لي على بال!
و من فرط تواضع الشيخ محمد سالم رحمه الله فإنك تراه لا يفتأ يكرر أنه لا يتجاسر على تفسير القرآن لأن من قال فيه بفهمه فأصاب فقد أخطأ! و أما من قال فيه بفهمه و أخطأ فويل له ثم ويل ثم ويل!!
يخلص الشيخ محمد سالم رحمه الله من مرافعته تلك إلى القول إنه إنما يُعمل فهمه للقرآن انطلاقا من فهمه للغة العربية التي نزل بها، وهي كما يقول لغة أمهاتنا... و أي فهم كائنٌ أدقَّ و أوفى من فهم القرآن بلغة القرآن: اللغة العربية! أَوَ لَمْ تنخلعْ قلوب بعض فحول العربية –على حد قول الشيخ نفسه – وهم ينصتون إلى محكم التنزيل يتغلغل دون استئذان إلى شغاف نفوسهم تغلغلا يدك حصون عنجهيتهم و يدحض ادعاءهم أنه من إنشاء محمد صلى الله عليه و سلم، أو أنه إنما تنزلت به الشياطين... جل القرآن عن ذلك وتنزه؟!!
لقد أوتي الشيخ محمد سالم من العلم والفهم قدر ما أوتي من التواضع وتلك سمة العلماء العاملين؛ وهو لم يكن ليكون كذلك إلا لما حباه الله من امتلاك لناصية اللغة؛ فاللغة العربية هي مفتاح التميز في فهم الشريعة مقاصد و أصولا و فروعا وقواعد؛ فمن لا يمتلك تلك الناصية فليس له من مكان في ذلك الميدان المغلق!
تذكرت هذا و أنا أعيد قراءة سفر نادر للقاضي الجليل و ابن القاضي الأجل الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه-حفظه الله- وقد أهدانيه أخي صاحب السعادة محمد محمود بن عبد الله بن بيه منذ سنين: (أمالي الدلالات و مجالي الاختلافات) الصادر عن دار المنهاج عام 2007.
فكرة الكتاب كما يقول الشيخ نبتت من خلال بحث موجز نشره في إحدى المجلات المتخصصة منبها إلى "حاجة الفقيه إلى اللغة العربية ووجوب ربط الصلة بينها وبين الفقه من جديد..." فلكأنه يخبرنا، على تواضع، أن تلك الرحم قد انقطعت، ثم أضاف إلى ذلك البحث محاضراته في أصول الفقه لطلاب كليات الآداب و الاقتصاد بجامعة الملك عبد العزيز بجدة.
يقول الشيخ في مقدمة الكتاب "...إن العلاقة بين اللغة العربية و الفقه هي أهم أساس من أسس الشريعة إلى جانب المقاصد، و هي مَجَرُّ عوالى اختلاف العلماء و مجرى السوابق من خيولهم، و إن أصول الفقه هو أجلى مثال لهذا الارتباط، و أفسح ميدان لهذا الالتقاء، وخاصة في أبواب الدلالات، ففيها تتجلى أسباب الاختلاف و بواعث الائتلاف، وتظهر مذاهب الفقهاء لواحب، واضحة إلى المحجة البيضاء، فيسلك المقلد ما شاء منها، و يرجح المستبصر ما استضاء منها، ويستنير المجتهد بجميعها، فلا محيد عن سلوك اللغة لاستجلاء سبلهم، ولا مناص عن اقتفاء آثارهم وتلقف أخبارهم".
ويأتيك مربط الفرس من وراء هذا الطرح المبهر لفارس ميدان عالم بواقع الفقه المعاصر: " ولقد نشأت ناشئة ونبتت نابتة حاولت القفز على الحواجز، فعزتهم الأرداف ، وخانتهم النواقز[القوائم].
وقالت هذه الفئة الفتية[ انتبه لهذا الوصف الصائب المنطبق] نأخذ بالكتاب و السنة دون الفقه الذي ينظر إلى المقاصد كما دونها الشاطبي، ولا مقتضيات الألفاظ كما هي عند الخليل وسيبويه و دونها الشافعي، فضللوا الناس، و ظنوا بالفقهاء والأئمة ظن السوء، فعميت عليهم الأنباء، و أخلفتهم الأنواء، فعابوا خلافا لم يبلغوا مداه:
كضرائر الحسناء قلن لوجهها**** حسدا و بغضا إنه لدميم
كأنهم استصعبوا الفقه، فتجنبوه وتجنوا عليه، واستعجمت عليهم اللغة، فتجَهَّموها، وسام العلم من لم يميز المنطوق من الفحوى، ولم يتبين الأبيض من الأحوى"...
لله در الشيخ عبد الله بن بيه حفظه الله فقد حز في مفصل، و أصاب من المتفيهقين كل مقتل!!