محمد عبد الله ولد الحسن (اداه) رجل الدولة المعروف والديبلوماسي المحنك، كان آية زمانه في الذكاء والحفظ، وسرعة البديهة، والكرم الحاتمي، الذي شهد له به القاصي والداني.
لما حول عن العمل في أطار قال الشاعر ولد اعلي:
وِلْ الْحَسَّـنْ مُـفَـكْـتِي عَادْ @@ يَــلَّالْ امَّـكْ مَـاذَ فَـاتَــكْ@
مِـنْ مِـيَّه ذَاتْ ؤُمِـنْ مِـعَـادْ@@ حَگُ اعْـلَ گِـدْ امْجِـيَّاتَكْ@
لِـمْـرُوَّه وِالـدِّيـنْ امْحَقِّيـنْ @@ لَاهِي يُفَكْـتَـاوْ امْسَاكِـينْ@
گَـلْـفِـتْكُمْ گـوَّمْـهَا وِالْـعَـيْـنْ@@ جَجِّيهَا وِاسْگِي نَخْلَاتَـكْ@
وَاحْرَثْ كُورُ ؤُفِمْ افْكَيْرِينْ@@ وَاهْـنَ وِاگْـعِدْ بَيْنْ امَّاتَكْ@
وِلْ الْـحَـسَّـنْ مُفكـتِي عـادْ@@ ...
وقد أظهرت وفاته وفرة معارفه، وانتشار معروفه الذي عم القاصي والداني، فتزاحمت وفود القبائل وفصائل مكونات المجتمع الموريتاني تشيد بفضائله ومزاياه مما لا حصر له.
ومن بين هذه الوفود كان وفد أهل شنگيطي، وقد تناول الحديث عدة رجالات فأفاضوا وأشادوا، ثم تدخل ولد بوكژان فقال:
- لم آت إليكم معزيا، فالرجل يعزى فيه وطن بأكمله، وإنما أتيت لأروي قصة حدثت لي مع هذا الرجل:
لقد عرفت منطقتنا سنة شهباء مات فيها الزرع، وجف الضرع، ويبس النخل، وتضررت الساكنة، فقرر أهل الرأي أن يجمعوا ما لدى الناس من نقود، ويذهبوا للميرة في منطقة لعگيلات، قريبا من كيهيدي.
وتم اختيار ثمانية رجال للمهمة منهم أربعة كهول، وأربعة شبان كنت أحدهم، وترأس القافلة أسن القوم وهو ولد حبت.
سرنا ليالي وأياما في شدة الحر، ومعنا عشرون جملا، حتى وصلنا لعگيلات، فاشترينا الزرع، وحملنا أمتعتنا، وأخذنا طريق العودة، وحين وصلنا مدينة المجريه وكانت وقتها قرية صغيرة، توقفنا للسقيا، وسأل عريفنا عن الحاكم فيها ومعاونيه، فذكر له أحدهم أن ترجمان الحاكم رجل من بني ديمان.
تابعنا السير سحابة اليوم، ثم عرسنا للمبيت متعبين، وكانت مفاجأتنا الكبرى في الصباح اختفاء كل الجمال والميرة.
تشاورنا وقد بلغ منا اليأس مبلغا، فاقترح أحدهم أن نذهب إلى الأمير عبد الرحمان ؟بن اسويد أحمد (الدان) أمير المنطقة، عساه يساعدنا في العثور على ضالتنا، ولكن ولد حبت -وكان حازما- أشار بأن الأولى أن نطرح القضية على الحاكم الفرنسي بالمجريه.
وقد اختارني لمرافقته، فسرنا راجلين طيلة اليوم وحتى منتصف الليل، ووصلنا القرية وأقدامنا لا تكاد تحملنا من شدة الجوع والتعب، فيممنا ضوء نار أمام خباء وسلمنا، فردت علينا ربة المنزل السلام.
سألناها عن مكان ترجمان الحاكم، فقالت لابنها المراهق:
-اذهب بهم إلى دار ولد الحسن.
وصلنا المنزل وألقينا التحية، فخرج شاب أسمر تشع عيناه ذكاء، طويل الأنف، يلبس دراعة زرقاء من الشگه.
رحب بنا واحتفى، وأدخلنا غرفة واسعة، ثم نادى أحد العمال، فما لبث أن جاء يحمل أقداح اللبن، وجلس إلى المواعين يعد الشاي، وكانت المرة الأولى التي أتذوق فيها طعم الشاي فلم يكن متاحا للصغار.
لم نكمل الشاي حتى جاء الشواء الناضج، فطعمنا، وبات الرجل يسامرنا حتى تأخر الليل، فاستأذن ودخل غرفته.
ولم يسألنا طيلة الحديث من نكون؟ ولا ما الذي جاء بنا؟
في الصباح جاء العامل باللبن، وجلس يعد الشاي،
وطلع علينا الرجل محييا، هاشا باشا، وقد لبس ثوب العمل وقال:
سأذهب عنكم إلى مقر العمل، وسترتاحون في منزلكم حتى أعود، ثم أردف:
- أريد أن أعرف من أنتم، وما هي مهمتكم؟
عندها قدم له ولد حبت تقريرا وافيا عن رحلتنا، وما حدث للجمال والأمتعة، فقال:
-أمامكم طريقان لحل المشكلة؛
الأولى: أن تذهبوا معي إلى هذا النصراني وسأبلغ حجتكم تمام الإبلاغ، ولكن لتعلموا أن الحاكم لا يد له على قطاع الطرق في الصحارى الشاسعة.
والثانية: أن يكتب لكم هذا المرابط -يقصد نفسه- بخطه المعوج رسالة إلى الأمير الدان بن اسويد أحمد، فلن يألو جهدا في مساعدتكم.
فقال ولد حبت، نختار الثانية، فرجع إلى غرفته وجاءنا بورقة، صرها ولد حبت في طرف لثامه.
رجع إلينا وقت الزوال، فمدت المائدة، وتناولنا الشاي، ثم قال: -إذن على بركة الله، وخبروني بما سيحدث معكم.
كسا كلا منا دراعة جديدة، ولثاما، وسروالا، وحين خرج لتوديعنا، وجدنا جملين ذلولين قد شدت عليهما (عبيديتان)، وعلقت على أحدهما ذبيحة، ووطاب لبن، وقالبان من السكر، وصرة من الشاي.
ركبنا الراحلتين وقد ارتفعت المعنويات، وسرنا سيرا حثيثا حتى وصلنا الجماعة، فاشتووا وارتووا، وبتنا بخير ليلة، وفي الصباح توجهت مع ولد حبت إلى مكان الحله حيث الأمير الدان، وحين وصلنا وجدناه وقد تحلق من حوله الرجال، فسلمنا فرد السلام.
خاطبه ولد حبت قائلا:
- لقد أرسلنا إليك محمد عبد الله ولد الحسن بهذه الرسالة، فهلل ورحب، وأخذ الرسالة ونظر فيها، ثم نادى على أحدهم وقال:
- خذ رجالك واضرب في هذه الصحراء الشاسعة، فلا أريد أن تغرب شمس هذا اليوم، وهؤلاء القوم يفتقدون قيد جمل من جمالهم.
وأكرمنا الدان أيما إكرام، وحين عدنا مساء، وجدنا الجمال بكاملها، والزرع وقد زاد حمل بعيرين.
ومن الطريف أن ولد الحسن عندما حول ترجمانا للمجريه وقدم للأمير الدان قال:
(-آن ظَرْكْ امْعَدْلِينِّي انْصَارَه گِدْ رَدْحِتْهُمْ امَّشْيِينْ لِي بَيْنْ أصْبَاعْ امْنَ اَوْلَادْ دَيْمَانْ!)
فأجابه ولد الحسن:
(-الدَّانْ انْتَ مَانَكْ رَافِدْ اعْلِيَّ ادْبَشْْ، ؤُلَانَكْ دَاخِلْ بِيَّ وَنْگَالَه وِاكلَامَكْ إدَوْرْْ يُبَلَّغْ لِانْصَارَه مِتُفَاصِلْ )
وبدأت تلك الصداقة الحميمة بين الرجلين.
ويواصل ولد بوكزان:
في الصباح حملنا أمتعتنا وسارت القافلة ميممة المجريه لتودع ولد الحسن، وتشكر له حسن صنيعه معها، وترجع الجملين، فزاد الرجل في إكرامنا، وطلب أن نستريح يوما كاملا قبل مواصلة السفر، وكلف رجالا بالسهر على الجمال.
وحين تهيأنا للرحيل، كسا بقية الجماعة مثل ما كسانا، وزودنا بفائض من اللحم والشاي، ورفض استرداد الجملين قائلا :
لم أسلمهما ليرجعا إلي، وهكذا وجدنا حلا للحمولة الزائدة من الزرع.