محمد عبد الله البريكي
يتأكد حضور المتنبي في حياتنا المعاصرة بصورة كبيرة، فهو يعد شاعر العربية الأكبر على الرغم من توارد الشعراء وبزوغهم عبر العصور، لكن يظل أبو الطيب بما تركه من آثار شعرية هو روح الشعر وسر أصالته، يقاس به درجة نموه وتطوره كونه يجسد المثل الشعري البازغ في مسيرة الحياة العربية، فقد ابتكر أسلوبه الخاص الذي لم يستطع شاعر عربي بعده أن يعي جماليات الحياة، وينفتح على كل الأساليب الفارقة في تجسيد الحالة الشعرية بطاقة لا مثيل لها، وهو ما يجعله في مرايا العصور المنجم الذي يصدر الدرر بأدائه التمثيلي والإيقاعي والتصويري واللغوي والمجازي الفائق، ما يجعله في الضمير العربي حياً وراسخاً، وأنموذجاً لم يتكرر من ناحية قوانين اللغة، وتشكيلاته التي شكلت الضمير الحي للشعر العربي في كل العصور، وعلى الرغم من أن الشعر لم تنطفئ جذوته بعده ولا قبله، فإن المتنبي الذي نستشهد بالكثير من أبياته، ونتمثل بحكمه في قضايا مختلفة في الحياة، لم يزل هو حديث مجالس الأدب في العصر الحديث، فهو قيمة لا يتخطاها شاعر آخر، وهو مظلة الشعر التي يحتمي تحت لوائها كل من يبحث عن عظمة الشعر وجمالياته وقوته وقدرته على البقاء.
فقد بدأ المتنبي مسيرته الشعرية في عمر صغير، وأنبأت كلماته الأولى عن مغامرات تؤكد أنه شاعر خصب يملك التأثير وقوة التغيير، فضلاً عن حياته في بداية جريانها كانت غامضة لطفل لا يهزم ولا يعرف عواطف اللعب مثل أقرانه، وعندما شب عن الطوق عاش أزماته التي ذكرها لنا التاريخ، فظل المتنبي في زاوية الغرابة الذاتية والشعور بالعظمة التي تعلو فوق هامة أصحاب الحظوة من المال والمكانة، وعلى الرغم من المحاولات الجادة في زمانه، والتي كانت تحاول أن تنال من قدره ومكانته، وتسقط محبته وسحر شعره، لكنه استطاع أن يقف لهم كالصخرة التي تتكسر دونها أمواج كل حاسد ومنتقص لشعره، ومقلل من قدرته على توظيف اللغة وجمالياتها وسحرها، فهو بعبقريته التي نسجت منوالها في محيط مفعم بالإشكاليات المختلفة جعلته يمضي باللغة إلى آفاق فاقت كل الحدود، فتجلت مصداقيته في حروفه وإحساسه بالعظمة الذاتية والرفعة التي لم يعرف سببها وجذورها، ولا يزال المتنبي حتى هذا العصر لا ينفي من سبقوه، ولا يلغيهم، لكنه يتميز بعبقه الخاص، وعشبه الأخضر وطراوته وقدرته على جعل الشعر حركة تدور عبر العصور، لا تجف ولا تخبو ولا تأفل، وهذا ما يميز المتنبي عن كل الشعراء، ولم يكن المتنبي يخطط تخطيطاً منظماً لهذه العبقرية وامتدادها عبر الزمان بقدر ما كان يفكر في مجد أقل بكثير من مجد الشعر، لكن أبت كل الظروف إلا أن تضع الشاعر في مكانته المرموقة، وأن تضع السدود والعراقيل التي تعطل مسيرته نحو مجال آخر غير الشعر، لكن بكل المقاييس استفاد المتنبي من هذه المحن، وترك لنا شعراً تلمسه الأجيال وتتفاعل معه، فكل الشعراء كباراً كانوا أو صغاراً يقفون في دوحته يتأملون وروده التي لا تزال تنمو، وعطوره التي تحتفظ ببراءتها.
إن الحديث الدائم عن المتنبي وذكر ريادته ومكانته في الذاكرة الشعرية لا يعني التقليل من شأن الشعراء الآخرين؛ بل يفتح طريقاً آخر للبحث عن أشعارهم، وقراءتهم بعناية وتأمل، والرجوع إلى ما قالوه من شعر مدهش مقارنة بما قاله المتنبي، هذا الرجوع أراه في مجمله خدمة للذاكرة الشعرية، وحفظاً لها من النسيان، فهناك شعراء في كل زمان ومكان أبدعوا وسحروا وأدهشوا، ولونوا بحروفهم فضاءات الكون، فاتسعت مساحة الجمال، ووجدت الذائقة مبتغاها، ولئن كان المتنبي هو مقصد الكثير من الباحثين وعاشقي ديوان العرب، فهو مقصد الكثير من الشعراء، يسترشدون بغروره، ويقتفون أثره وهو راقد في غيابات الموت، وإذا ما توقفنا فقط عند البيت الذي يقول فيه:
أنامُ ملءَ جفوني عن شواردها
ويسهرُ الخلقُ جرّاها ويختصمُ
سنجد أنه وصل في وقتها إلى قناعة من أنه استطاع أن يشغل من يجايلونه بشعره، وأنه سيشغل الناس في كل العصور بجدلية من هو شاعر العربية الأبرز الذي ستدور حول محيطه كل الأحاديث، ليبقى هو الطاقة التي تمنح الآخرين مواصلة الحديث عنه بالحديث عن غيره، ولينام وهو مطمئن على خلود شعره.
المصدر: ملحق الخليج الثقافي